غالب هلسا في (الخماسين)

 غالب هلسا في (الخماسين)
        

 الكتابة بديل للحياة أم أحد تجلياتها?

          الكتّاب الكبار لا يموتون. تغيب أجسادهم وتبقى أرواحهم تشع من خلال السطور والحروف, وهذا هو الحال مع غالب هلسا الذي نستعيد قراءة صفحات من روايته.

          لا أدري لماذا ألح على خاطري حين قرأت رواية (الخماسين) لأول مرة بعد أن صدرت في طبعتها الثانية في القاهرة في سلسلة (آفاق الكتابة) أن غالب هلسا أراد حين كتب هذه الرواية بهذا الحجم وبهذه التقنية, أن يقدم من خلالها لمحات مكثفة ومقطرة من تجربته السياسية والثقافية والإنسانية في القاهرة في صور فنية تقع بين التجريد والرمز مثلما يفعل شخص لديه أشياء حية أو ثمينة يخشى عليها من الضياع أو التلف فيحتفظ بها في ثلاجة أو في صندوق صغير يسهل إخفاؤه, لكي يعود إليها حين تسمح له الظروف بمثل هذه العودة فيزيل عنها الجمود, ويعيد التعامل معها بحجمها الطبيعي, وبالطريقة التي تليق بها, وتأكد لدي هذا الانطباع حين قرأت في وقت لاحق روايته المهمة بعنوان (الروائيون), التي وجدته فيها يعيد مناقشة العديد من القضايا التي تعرض لها في لمحات خاطفة ومكثفة في رواية (الخماسين), يعيد مناقشتها بلغة الفن, وبما تستحقه من إفاضة ورحابة. وكان (غالب هلسا) قد أصدر قبل رواية (الخماسين) روايته الأولى بعنوان (الضحك) وكانت تعرض لجوانب من تجربة حياته في القاهرة وفي الأردن قبل أن يأتي إلى القاهرة, في السنوات الأولى من ثورة 23 يوليو 1952 وكان قد عايش هذه البدايات من خلال مشاركته في العمل الثقافي والحزبي مع تيارات اليسار المصري, وحين دخلت الثورة في مواجهة قوى الاستعمار في عام 1956 بعد تأميم قناة السويس, شارك غالب في هذه المواجهة مع كتائب الشباب الجامعي الذي انخرط في صفوف المقاومة الشعبية لصد هذا العدوان, وكان هذا كله ضمن ما تناولته رواية (الضحك).

الرواية والسيرة الذاتية

          كانت رواية (الضحك) شأنها شأن العديد من روايات (غالب هلسا) تقدم نوعا من السيرة الذاتية لجوانب ولمراحل من حياة (غالب) القادم من بلده الأردن إلى القاهرة, لاستكمال دراسته, فوجد نفسه, ربما - دون أن يخطط - جزءا من حركة التيارات السياسية والثقافية في مدينة القاهرة, وكأنه على موعد مع ثورة 23 يوليو 1952 متفقا مرة مع هذه الثورة, ومختلفا مرات معها, ولم يكن وحده سواء في حالات الاتفاق أو الاختلاف, كان جزءا من التيارات التي كانت تختلف حتى فيما بينها, وهذا ما يميز السيرة الذاتية التي قدمها في رواية (الضحك) فلم تكن سيرة حياة فرد بل سيرة حياة جماعات في بعض الأوقات. كانت تقع في حوالي 300 صفحة من القطع الكبير وجسّدت في صفحاتها العديد من لحظات الاتفاق والاختلاف بين حكومة الثورة وفصائل من تيارات اليسار المصري إزاء مختلف القضايا السياسية والاجتماعية. ولم تكن حكومة الثورة تحجم عن استخدام العنف ضد الفصائل أو التيارات التي تختلف معها, ولم يكن هذا العنف الحكومي هو فقط أسوأ ما تعانيه بعض تيارات اليسار المصري, بل إن خلافاتها مع بعضها البعض سواء في تقدير سياسات ثورة 23 يوليو 1952 في الداخل والخارج أو في تفسير وفهم مغزى الخلاف الصيني السوفييتي, أو سياسة الوفاق بين الولايات المتحدة وروسيا في أوقات لاحقة, كانت مثل هذه الاختلافات ومثل هذا العنف, هو الذي عصف بـ(جنة اليقين) التي كانت عنوان الفصل الأول في رواية (الضحك), والتي جاء في الفصول الأخيرة منها (ما سوف نسجله الآن) لكي يوفر للقارئ فرصة أفضل لقراءة رواية (الخماسين) التي هي الموضوع الرئيسي لهذا المقال, يقول الراوي (البطل) في صفحة 244 من رواية الضحك, معبرا ومصورا لحال الجماعات اليسارية التي تعرضت لعنف الثورة:

          (كان علينا أن نتعود الرعب, ونجعله مركز حياتنا, وقانونها الداخلي, نبحث عنه تحت السرير, في أجهزة تسجيل قد تكون مختفية داخل الدولاب, مع الأصدقاء والبوابين الذين يجلسون إلى جانبنا في المقهى, كان رعبا معديا يتعمق عند كل لقاء مع صديق, مع كل فعل, ثم اكتشفنا في النهاية أننا قد تعودناه إلى حد الرغبة المستمرة في بعثه كلما انكسرت حدّته في داخلنا, وأصبح يمتعنا هذا الإحساس بالإحباط والهزيمة, والغريب أننا تلاءمنا معه بسرعة نادرة, واختلط بحياتنا اليومية حتى أصبح جزءا منها لا غنى لنا عنه, لقد جعلنا الرعب بلا إرادة, وبلا رغبة في الفعل, كما خلق عندنا قدرة على التلاؤم - لا بسبب مرونة اكتسابها, ولكن لأننا أصبحنا قادرين على التشكل أمام أي موقف دون أدنى قدر من الإرادة!). ما الذي فعله هذا النوع من الرعب بالبطل في رواية (الخماسين) التي كانت بدورها إحدى روايات السيرة الذاتية?

          وما القضايا الملتبسة التي خرج بها غالب من رواية (الضحك)? والتي بقيت تنقر في دماغه, والتي حرص على حفظها في ثلاجة تنقذها من رياح الخماسين الملتهبة, وكأنه كان يخشى ألا تسمح له ظروف حياته الصعبة والمتقلبة أن يعود إليها فآثر أن يحتفظ بها في عمل أدبي شديد التركيز والتكثيف كشهادة على مرحلة لمن يهمه الأمر?!

          أظن أنه قد حان الوقت لنقلب في صفحات رواية (الخماسين) التي تقع في حوالي 200 صفحة من القطع المتوسط.

تقنية جبل الجليد

          كان غالب من أوائل من لفتوا أنظارنا إلى أهمية تقنية (جبل الجليد) الذي لا يطفو منه على سطح الماء سوى ثمن حجمه الحقيقي وإلى قصص أرنست همنجواي التي كانت أبرع تجسيد لهذه التقنية, فهي لا تقدم للقارئ سوى السلوك الظاهري للشخصية سواء من خلال الحوار أو السرد, ولكنها تختار من هذا السلوك ما يفتح الأبواب أو يواربها لإدراك العالم الداخلي للشخصية, وهو ما يؤكد دور القارئ وفاعليته وما يؤكد حرية الفهم والتفسير لهذا السلوك!

          وتكاد أعمال غالب كلها في القصة والرواية أن تلتزم بهذه التقنية ولكنها تصل إلى الذروة في هذا الالتزام في رواية (الخماسين), فبناء الرواية كلها يقوم على رصد سلوك البطل (غالب) في يوم أو أيام قليلة, في مكان عمله, ومع بعض من يعملون معه في هذا المكان, والرواية من خلال الضمير الثالث (المفروض أنه عليم بكل شيء) تتحدث عن (غالب) بهذا الاسم الواحد, كما تتحدث عن غيره من الشخصيات باسم واحد كذلك, بحياد وموضوعية كاملة من خلال ما يقوله أو يفعله, فنتعرف في الفصل الأول على (ليلى) صديقة للكاتب في هذه المرحلة (قارن بينها وبين نادية في الضحك وستجد الفارق بين مرحلتين) ثم نتعرف في الفصل الثاني على (مرسي) سائق السيارة في الوكالة الصحفية الألمانية التي يعمل بها غالب في هذا الوقت, ما يحدث له مع مرسى في الفصل الثاني يذكره بما سبق أن حدث له مع (قرني) منذ عشر سنوات, وكان يعمل فرّاشا في الوكالة الصحفية الصينية التي كان يعمل غالب بها آنذاك...! (ولعله مقصود هنا أن يقول إن شيئا لم يتغير خلال عشر سنوات في حياة هذه الفئات المهمشة) بعد هذا الافتتاح الذي نكتشف من خلاله أن رياح الخماسين تهب على مصر كلها, وأن الجميع يعانونها كل بطريقته نقترب من قلب الرواية, حيث يتم استدعاء غالب بطريقة تبدو روتينية, لوزارة الداخلية, وهناك في لحظات انتظار دوره لمقابلة الضابط المختص الذي يتكرر هذا الاستدعاء له كجزء من اتفاق مسبق للإفراج عنه!

          في لحظات انتظاره تلك, نكتشف أيضا أن هناك تشكيلة أخرى من المنتظرين لدورهم, تشكيلة تضم فئات اجتماعية متنوعة, مومسات, وخواجة, وقسيس, وموظف كهل يرهقه الانتظار, فلا يمكنه التحكم في بوله, وتستدعي صورة الموظف الكهل الذي لا يتحكم في بوله ذكرى صورة قديمة جدا رآها غالب حين كان سجينا في بلده, لسجين آخر كان يمر بظروف أشد قسوة أدت به إلى أن يعجز عن التحكم في بوله, فيكتشف - ويالروعة الاكتشاف- أن أمته العربية لم تتفق إلا في الطريقة المهينة التي تعامل بها أحيانا بعض أبنائها, ويكتشف قارئ هذه الرواية, من خلال تشكيلة المنتظرين أن موجة الرعب لم تغرق فقط فئة الناشطين السياسيين من أمثال (غالب) ولكنها أغرقت كل هذه الفئات الاجتماعية التي مثلتها تشكيلة المنتظرين لدورهم!

          (فكر بعد أن انتهى من لقائه الروتيني مع ضابط المباحث أن بضعة كئوس من البراندي سوف تعيد إليه إحساسه المرح بالحياة, تجعل المهانة التي تعرض لها مجرد ذكرى). ولكن الطريقة التي عامله بها الأصدقاء في الأتيليه, في ذلك اليوم - وكأنهم كانوا يعرفون من أين جاء - لم تفعل سوى تأكيد الشعور بالمهانة فلم يبق أمامه سوى أن يطرق باب تلك المرأة المجهولة!

المرأة المجهولة

          المرأة المجهولة هنا هي مجهولة بالاسم فقط, وفي قصة أخرى من قصصه القصيرة بعنوان (الهذيان) كان اسمها (فيفي) أو فاطمة أو فتحية أو فريال.... مما يؤكد مرة أخرى أن الاسم لا يعني شيئا, وإن كان تردد هذه الشخصية في قصص غالب يحتاج إلى مقال آخر.

          إنه يقول عنها في لحظات أخرى:

          (إنها امرأة من عصر مضى, وعصر لم يأت بعد, تحتوي داخلها الحياة بكليتها, الأم والعاهرة, الأخت والصديقة, المتحررة وأسيرة بضع أفكار لا تحيد عنها, وجهها انتظار مهم, نار مشتعلة تحت سطح وجهها الرقيق النقي الذي يشبه بشرة طفلة في العاشرة).

          ما الذي يمكن أن يحدث له حين تصبح هذه المرأة حقيقة واقعة. ما الذي يمكن أن تفعله لرجل مهان, يهرب منه الأصدقاء, (الرغبة والعجز ينهشانه), اللغة المشتركة التي يمكن أن تكون جسرا يلتقيان عليه تضيع منهما في لحظة اللقاء. تقوده المرأة وقد شعرت بمأساة عجزه إلى خارج الغرف المغلقة, تقوده إلى دغل على شاطئ النهر بعد أن كاد الليل أن ينتصف, تقوده إلى حيث لا يحتاجان لكي يتواصلا إلى أي لغة إلا إلى حسن الإنصات لصوت الطبيعة, في تلك اللحظة كان يقترب من ذلك السر العميق الكامن في قلب الكون, وصوت المرأة الأبكم الملتاث الضارع كان كصوت اندفاع المجرات عبر الفراغ الكوني الذي يستحيل تصوّره! أو تصويره. ومع ذلك فقد كان خوفه الكامن قد سبقه إلى تلك الأصقاع النائية, أحس وهو يستجيب لها أنه لم يعد يملك أي سيطرة, لقد كان مجرد أداة لتلك المرأة تستعمله بكل هذه الضراوة, لتلفظه بعد قليل كشيء لم تعد بحاجة إليه!

          وكان الفشل في قلب الطبيعة مثله داخل الغرف المغلقة, تقول المرأة... لغالب أو لرجلها المهان الذي تعرف أنه يمتهن الكتابة, والذي قتله الرعب.

          (إنه بالطبع سوف يكتب عما حدث الليلة, وأنه قد يجد في ذلك عزاء أو فروسية! ولكن هذا وحده كاف للحكم عليه بأنه بلا أخلاق, إن الحياة بالنسبة له وسيلة للاستعمال, هو بهذا يهين نفسه, ويهين كل إنسان له به صلة, استمرت قائلة, (إنها تشمئز من كل عضو من أعضاء جسدها عندما تراه مجرد موضوع للتأمل).

          وتستمر قائلة: إنها ترى عينيه تحيضان بالدموع, ولكنها لا تكترث بذلك, بكاؤه سوف يكون أيضاً موضوعاً للكتابة وبهذا سوف يكون خارجه.

          قالت: إنه لم يعد بإمكانه أن ينفعل أو يحس! الإحساس الوحيد الذي لديه هو الخوف, وبالطبع سوف ينسى أن يذكر أنه كان يرتعش بلا حيلة! وهنا تبرز قضية القضايا في الخماسين.

          الكتابة هل تكون بديلاً عن الحياة? أم هي إحدى تجلياتها? هذه القضية البالغة الرهافة والخطورة يلمسها الكاتب هنا بسن قلمه, بأطراف أصابعه, يضعها في الثلاجة أو في صندوق سحري صغير يسهل إخفاؤه لكي يعود إليها في روايته الرائعة (الروائيون), هل يستطيع الثوار الذين عجزوا عن إحداث التغيير في واقع مجتمعاتهم أن يلتمسوا العزاء في الاعتقاد بأن رواياتهم سوف تحقق ما عجزوا هم عن تحقيقه!

          هذا السؤال القضية يحتاج إلى باحث شاب يناقش الفرق بين ما طرحه غالب هلسا في رواية (الخماسين) وما طرحه في (الروائيون) بين مستويات الخوف هنا وهناك, وبين حالات العجز هنا وهناك! وبين مستويات التواصل هنا وهناك.

          يقول الكاتب للمرأة المجهولة وكأنه يعتذر لها عن شيء أخطر من أن يحيط به: (المشكلة أن هناك أشياء كثيرة, وكل إنسان يراها على نحو مختلف, ولا توجد إلا كلمات قليلة, والإنسان يقفز بينها كالبهلوان).

لحن الختام

          صعود وأفول نجم (بسيوني)

          كما بدأت الرواية بمجموعة من المهمشين العاملين في الوكالة الأجنبية التي يعمل فيها (غالب)... لم تتغير أقدارهم خلال عشرة أعوام من عمر ثورة 23 يوليو 1952, تعرفنا على (غالب) من خلال علاقته بهم, وتعرفنا عليهم من خلال علاقتهم به, بشكل موضوعي وحيادي فإن الرواية تعزف لحن الختام بتعريفنا بمهمش آخر اسمه (بسيوني) عودة إلى الاسم الواحد, ولكنه لم يكن شخصية عادية, لقد بدأ مثل كل المهمشين من القاع, ولكنه أدار رأسه فيمن حوله, وتعلم من كل فنون الظلم التي حاقت به, ولم يسلك طريق بسيوني أو قرني, لم يلجأ إلى الشكوى أو الكذب, ولم يهدد بما لا يملك القدرة على فعله, ولكنه اكتشف حاجة الناس إلى بعضهم البعض, وقرر دون تردد أن يضع مواهبه في خدمة بعض الأجانب الذين كانوا يعملون في الوكالة الألمانية, واكتشف أنه يكفي أن تكسب ثقة الأجنبي مرة واحدة لأنه لا وقت لديه لإعادة اختبار الثقة!

          وهكذا صعد نجم (بسيوني), معيدا إنتاج نماذج من كل هؤلاء الذين تفننوا في ظلمه صغيرا وكان في لهفته على الدنيا التي كانت تبدو له عزيزة المنال, كان لابد أن يرتكب العديد من الأخطاء, وأن يسقط دون أن يجد يدا رحيمة تمتد لإغاثته! كان (بسيوني) النموذج الوحيد الذي حقق إمكان الصعود وحتمية السقوط في دنيا المهمشين.

رمزية العنوان

          والطريف أن كل شخصيات الرواية, مهما اخلفت مستوياتهم كانوا يعانون (الخماسين) كل بطريقته, والخماسين لمن هم من خارج مصر رياح عاصفة متربة ساخنة تهب في فصل الربيع من كل عام فتؤذي العيون والجلد, وتخنق الأنفاس, وتسبب شتى أمراض الحساسية, وتجعل الحياة صعبة ومرهقة, وتعطي عذرا مناسبا لكل شخص لكي يجعلها سببا أو تبريرا لما يمكن أن يقع فيه أو يرتكبه من أخطاء!

          وهي تأتي في الوقت الذي كان الناس ينتظرون فيه فصل الربيع, وانقشاع البرودة, وتفتح الزهور, ونضج الثمار!

          فهل كان ما يقصده (غالب هلسا) بهذا العنوان أن وعود ثورة يوليو 1952 التي كان الناس يحلمون بها كما يحلمون بالربيع لم يتحقق منها سوى رياح الخماسين أو أن الوعود قد تحققت ولكن عواصف الخماسين لم تسمح لأحد أن يراها?! المعنى كما يقولون في بطن الشاعر, أو كما ينبغي أن يقال هنا في بطن القاص (غالب هلسا)

 

أبوالمعاطي أبوالنجا   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات