قلاع الأسى

قلاع الأسى
        

          ناوشني قلق, وأنا أمضي نحو صفوف الطلاب, من أن يرفضوا الفكرة من أساسها, أو أن يسخروا منّي - ولو على نحو مضمر - ويستهزئوا بعرض الموضوع عليهم, إذ لم يحدث من قبل أن جرّبت معهم أمراً كهذا, ولا خبرت, بالتالي, آراءهم فيه, وردود أفعالهم عليه, مما دفعني للتفتيش عن صيغة للكلام معهم تعرض ما وافقنا عليه في إدارة المعهد, من دون أن تقطع عليّ خطّ الرجعة!

          وفيما كنت أتملّى في وجوههم, مفسحاً لنفسي في الوقت, رحت أتنحنح, ثم أداور بالسؤال عن صحتهم, وأناور بالاطمئنان عن أحوالهم, إلى أن ركّزت نظري على وجه كفيف يركن في الزاوية, وأخبرتهم أن مخرجاً سينمائياً يرغب في أحدهم للقيام بدور في فيلمه عن المعوقين.

          قلت ذلك باقتضاب, وعجالة, ونبرة لامبالاة, لأتمكّن, في حال استيائهم, من طي الموضوع, وكأن شيئاً لم يُقل!

          توجّس المحاذرة استوطن فيّ من سنوات عيشي الطويلة معهم, وإدراكي لحساسيتهم, ولظلال الأسى التي تخلّفها فيهم زيارات (الغرباء) عن المعهد, لدراسة يقومون بها, أو استطلاع يجرونه, أو ما شابه ذلك, إذ كانوا يغتبطون بالزوّار لساعة, متبادلين الودّ معهم, متنقلين أمامهم بحركات رشيقة, واثقة, طلقاء, حتى إذا ما غادروا المعهد, انكفئوا, يجرجرون أبدانهم وعكاكيزهم وحسراتهم, وقد تلفّعوا بوشاحات من مضض أسيان, كنت ألاحظه بوضوح تام, فأجاهد, لأيام, في خلعه عنهم, وعنّي.

          بيد أنهم, في هذه المرة, باغتوني بابتهاجهم العريان! فما إن علموا حتى طفحت منهم الحميّة, والاندفاع الشغوف, والتنافس العجول في أن يقطف كل واحد, دون غيره, الدور لنفسه, في حرص بالغ على حيازة (بطولة) فيلم يعرض على شاشة كبيرة, في صالة واسعة, تحت أضواء جهيرة, أمام كل الناس, لكأن الظهور على الشاشة كان خلاصاً لهم من إعاقاتهم, أو تخليصاً لأرواحهم من آثارها.

          ويبدو أن حميتهم تلك قد لبّت رغبتي في أن أجمعهم, كلهم, في طالب واحد يظهر للناس كل خبايا عوالمهم, ودفائن أحلامهم التي خبرتها فيهم عن كثب, فوجدتني أبحث وأدقق في الكبيرة والصغيرة من أبدانهم, متوقفاً مع كل طالب على حدة, أعاينه بدقة, وأتملى في هيئته وحركته وصوته, علّني أتمكن من العثور على المراد: شاب وسيم, مشدود الجذع, يستخدم عكّازين, معافى تماماً إلا من ساقيه اللتين لابدّ أن تكونا شديدتي الإعاقة, بحيث تهتزان وتخفقان, أثناء سيره, كمنديلين لحظة الوداع.

          كنت أظن الأمر سهلاً, بيد أنني ما التقيت بالطالب, أخيراً, واخترته, إلا بشق النفس!

          فقد كان عليّ أن أعبر, للوصول إليه, حقلاً من الاحتجاجات والتذمّرات الصريحة التي راح يعلنها من استبعدته, أو ترددت في اختياره, أو أجلته إلى حين, مطالبين إياي بإيضاح أسباب رفضهم, فأضطر إلى لفت هذا للقصر الحاصل في يديه, أو تنبيه ذاك إلى التواء عنقه, أو تذكير آخر بالحدبة البارزة في ظهره, أو حول عينيه, أو تلعثمه بالكلام, أو الهزال الشديد في بدنه مما يحول دون اختياره راجياً إياهم قبول التنحّي, أو نابراً بحدّة في بعض الأحيان, وخصوصاً مع الصم البكم الذين فاتني أن أشرح لهم ما يجري, فلم ينفكوا عن الإيماء لي بأصابع الحيرة وغمغمات التساؤل, ولا أكفّ عن إبعادهم بإشارات خاطفة, حاسمة, فكانوا يتراجعون, مع تساؤلاتهم, ويركنون إلى جانب المرفوضين بابتئاس مندحر, خلته - في تلك الساعات - زبداً للفشل!

          ولا أدري كيف فاتني أن أحاذر, أو أتيقّظ للخراب العميم الذي كنت أخلّفه فيهم, في سعي الدءوب للفوز بأحدهم, ذلك الخراب الذي سيكبر فيّ, ويتكوّر حدبة, أحملها معي أنى توجهت, حائراً لا في إخفائها عن أنظارهم, بل عنّي, أنا نفسي!

          إذ ما كان لي, في معمعة البحث, وغمار الموازنة والانتقاء, ووطأة الانهاك الذي حلّ بي, أن أدرك - إلا متأخراً, بعد فوات الأوان - أنني حين طفقت أنبش في هذا, وأظهر لذاك, وأبيّن لآخر ما حرصت على إنسائهم إياه ووأده من حياتهم طوال سنوات مضت, إنما كنت أخلع عنهم أردية الغبطة بأن لاشيء فيهم يعوّقهم عن شيء, معرّياً إياهم, واحداً بعد واحد, ومعرّياً نفسي أمامهم!

          ما كان لي أن أدرك, إلا حين صدمني مشهدهم, بعد ذلك, صدمات متتالية, في أوقات متفرقة, ساعة نلتقي في القاعة, أو الباحة, أو خلوة, فألمح, خطفاً, على غير انتباه منهم, كيف انتبذ أحدهم ركناً وراح يعاين قصر يديه باستغراب باد, أو يتلمّس آخر بدنه الهزيل محاولاً بأسى فضفضة ثيابه, أو يعكف آخر على الالتفات إلى الخلف متقصياً بجزع الحدبة في ظهره, فيبدون, في تنحّيهم ذاك, بائسين, متهدّمين, مثل قلاع صغيرة مهجورة!

 

إبراهيم صموئيل   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات