العرب وإشكالية التجدد الحضاري

العرب وإشكالية التجدد الحضاري

جاء مقال الدكتور سليمان العسكري رئيس تحرير مجلة العربي في العدد 623 أكتوبر 2010 - ذي القعدة 1431هـ تحت عنوان «التجدد الحضاري».

ولعل من أكثر ما يشغل مثقفي وعلماء الأمة كيفية امتلاك ناصية التجدد الحضاري. والتجدد الحضاري مسألة منهجية على مستوى كبير من الخطورة والأهمية ولها ارتباط بالسياسة والثقافة والمعرفة.

لذلك التجدد الحضاري بحاجة لدور السياسي والمفكر والمثقف والعالم لتحقيق عملية التواصل والتخطيط والترشيد.. إلخ، ومواجهة نقاط الخلل والسلبية وهبوط المقاصد والوسائل.

ويبقى التساؤل مطروحًا: أين حاضر العرب من إشكالية التجدد الحضاري؟ وهل هناك منهج في رؤية المشاكل المجتمعية من أجل حلها؟

والأمة تعاني من غياب التواصل الحضاري وغياب المعرفة العملمية وكأننا لا ننظرلقيمة النهوض بالأمة.

أمة العرب تمتلك الرسالة الخاتمة، كي تتمتع بصفة المعيارية التي تجعلها مؤهلة لأن تكون شهيدة على البشرية كافة.

لذلك فترات التألق والنهوض مرتبطة بتصويب المنطلقات وإصلاح نقاط الخلل في ظل الوعي بالذات.

قال تعالى: لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا «البقرة الآية 143».

ولو نظرنا إلى عهد النبوة.. وإنجازاته خاصة في القرن الأول الإسلامي لوجدنا أنه:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الناس قرني.. ثم الذين يلونهم.. ثم الذين يلونهم رواه البخاري.

هكذا جاء الإسلام.. ودفع الأمة نحو القيادة والريادة، وكانت الأمة رائدة للبشرية كافة ولعدة قرون، وأقامت صرحًا حضاريًا.. ثم بدأ العد التنازلي بتجمد الفكر وتصبح الأزمة أزمة فكر وأزمة قيم, على الرغم من أن أهداف الرسالة جهاد دائم لأن قلب المسلم الحق لا يجتمع فيه إيمان وذلة.

وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «المنافقون الآية 8».

ضعف الأمة نما خلال الحقبة الاستعمارية التي أدت إلى تخلفها في حقل العلوم والتكنولوجيا، في المقابل أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى نهضة أوربا وتطورها الثورة الصناعية التي طالت الغرب في القرن السابع عشر، وخصوصا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحضارة أوربا هي في المقام الأول حضارة مادية لكنها امتلكت السيطرة على العالم.

وهذا لا يعني إهمال التفوق المادي عربيًا، والأمة بحاجة لوقفة تأملية لأن التفوق المادي له ارتباط أيضًا بقيمة الثقافة، والثقافة تحتل تأثير الدين على الإنسان.. أما الحضارة فتمثل تأثير الذكاء على الطبيعة، والحضارة تعني صناعة الأشياء والثقافة تقدم مستمر بفكر الإنسان.

والأمة بحاجة لترتيب الأولويات والاهتمام بقيمة العلم, والعقيدة تدعو للتنمية، وللعقيدة أيضًا فكر اقتصادي لأن:

1 - الإيمان بالعقل والمعرفة سبيل لاستنباط القوانين الطبيعية.

2 - الاهتمام بدور التنمية البشرية, حيث يلعب الأفراد دورًا مزدوجًا في عملية التنمية.

3 - النمو الاقتصادي يؤدي إلى ارتفاع الدخل القومي.

لذلك التنمية الاقتصادية تتطلب سياسات بناءة لأن الغرب حينما اهتم بالعلم حقق ذاته اقتصاديًا بعلوم الكيمياء والفيزياء والأحياء.

والعلم الحديث شيء حاسم في التنمية الاقتصادية وليس هناك مجتمع متقدم دون امتلاكه ثمار العلم.

هنا يطرح التساؤل: هل التعليم في بلدان الأمة يصنع نهضة حضارية وهل حققت الأمة نوعًا من التكافل الاجتماعي بقيمة العمل الصالح والضمير الملتزم بالتقوى?

الخطاب القرآني أشار إلى العمل من أجل تحقيق المعيشة الراقية والحياة الطيبة، والإسلام يرفض السلبية والتواكل واللامبالاة.

عقيدة الأمة تمتلك حضارة واقعية تأخذ بيد الإنسان ككل وتعطيه احتياجاته كاملة والإسلام عنصر بقائه في ذاته.

ونظرة الغرب تجاه حضارة الإسلام.. نظرة خوف من الإسلام.. فلماذا؟

والدين في غايته رسالة حضارية للإنسان. والنظرة المادية فقط تنشد تفريغ العقل الإنساني من أفكاره وثوابت عقيدته كي يساير أهواء النفس وحركة الزمن.

ننظر لإفرازات الحضارة المادية المعاصرة فنجد:

1 - تفاقم جرائم الإبادة الجماعية.

2 - التطهير الديني بجرائم شديدة القسوة والوحشية.

3 - انتشار المخدرات والأطعمة والأدوية الفاسدة.

4 - مظاهر الترف الاستهلاكي.

وإذا كان التغيير سنة كونية، فلماذا هدف الحضارة المادية هو تفريغ الإنسان من معنوياته وطمس ذاكرته وتعطيل عقله وحواسه، والله عز وجل خلق الإنسان لينتج وينشئ ويبدع.

أيضًا هناك عداء وكراهية من بلدان الغرب للإسلام، حتى مسمى «حوار الأديان» لا يحقق أهدافه.

والنظام العالمي الجديد انطلق بحركة تصنيف بلدان صناعية وأخرى نامية، وجاءت الشركات متعددة الجنسيات من أجل السيطرة على الأسواق وهذا النظام يفتقد سمة الحياد الإيجابي.

ويتناسى الغرب أن التاريخ الإنساني حافل بحضارات سادت ثم بادت، وكان لكل حضارة عوامل رقيها وازدهارها وأسباب سقوطها واندثارها.

وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ق آية 36 - 37.

وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ سورة المائدة (66).

والحضارة بحاجة إلى سلوك راشد ينطلق من إيمان صحيح.. والخطاب القرآني شخّص الأمراض الاجتماعية التي تفتك بالحضارات الإنسانية.

  • العرب مع إشكالية التجدد الحضاري: يجب النظر للحفاظ على الهوية والابتعاد عن حالة الضعف والترهل، لأن عالم اليوم يتحرك بفكر تعليمي وتكنولوجي.

ويجب الارتقاء بدور المرأة لأن أعداء الرسالة ينظرون للمرأة المسلمة والمرأة تمثل نصف المجتمع وهم لا ينظرون للمرأة كقيمة إنسانية، قد تسهم مع الرجل في إضافة بعد حضاري يحقق للأمة قيمة إنسانية. والإسلام حقق للمرأة كرامتها وإنسانيتها وقد شاركت المرأة في نشر الدعوة الإسلامية في مجتمع النبوة.

  • العرب مع إشكالية التجدد الحضاري: هناك تساؤل: هل العقل العربي يتحرك بتراكيب مزاجية ونفسية أم بمعطيات حضارية في العمل والبناء والإنتاج والاقتصاد؟ لأن صراع الحضارات أصبح بين عقل ينتج ويبدع وعقل يستهلك.

والأمة في حاضرها تملكها بعض الوهن الحضاري والرسول صلى الله عليه وسلم حذر الأمة من الوهن.

وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة رواه أبوداود والترمذي.

  • العرب وإشكالية التجدد الحضاري: يجب النظر لمقومات الحياة الإنسانية ومنها العلاقة بين الحاكم والمحكوم.. لأن المحك الحقيقي لاختيار صلاحية حضارة الإسلام مدى نظرتها إلى الحكم والمال. والإسلام يقرر حق الملكية الفردية التي تحقق أيضًا مصلحة الجماعة، والإسلام جاء بفكر الوسطية.. كما أن حضارة الإسلام حافظت على أمانة الكلمة ومدى التزامها بقضايا الإنسان من حرية وكرامة وإبداع.

وبين هذا وذاك يجب الاستفادة من دروس الماضي والحاضر لامتلاك نواة التحرك الحضاري وفهم معطيات الواقع القائمة على الحقائق والمعلومات البناءة والاهتمام بالفقه الشرعي وربطه بفقه الواقع للتحرك وفقا للأصالة والمعاصرة في آن واحد.

يحيى السيد النجار - مصر