ولكن دينامية المسرح المغربي لا تعود إلى هذين الأمرين فقط, بل تعود
كذلك إلى بروز فاعلين مسرحيين جدد مثل المسرح الجامعي ومثل خريجي المعهد العالي
للفن المسرحي, إضافة إلى تراكم مسرحي غني ومتألق تمثل في مسرح الهواة الذي يشكل
ذاكرة حقيقية للمسرح المغربي. وإذا أضفنا إلى كل هذا, النضج الملحوظ للنقد المسرحي
بالمغرب بعد ظهور حساسية نقدية جديدة تخرجت في الجامعة, وخبرت أدواتها النقدية في
مسرح الهواة والمسرح الجامعي, يمكن لنا القول إن دينامية المسرح بالمغرب الآن ليست
سحابة صيف, وأنها تعد بالكثير.
فمنذ نهاية الثمانينيات من القرن الفائت, وفي أعقاب تخرج الأفواج
الأولى من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي الذي تم تأسيسه بمدينة
الرباط, بدأ الحديث عن مسرحيين محترفين, وعن مسرح احترافي تلقى أصحابه علمه
وتقنياته في معهد مخصص لذلك, ولم يكتفوا بتجربة الجمعيات المسرحية الهاوية. ولكن
الحلم كان أكبر من الحقيقة التي بدت مرة للغاية, إذ بعد زمن قصير وجد خريجو المعهد
أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه: لا وجود لبنيات تحتية مسرحية ولا وجود لسوق مسرحية,
وبالتالي لا وجود لمسرح احترافي بالمرة. لقد وجدوا مسرح الهواة في نهاية أنفاسه
المتقطعة, والمسرح التجاري المعروف, وبضع فرق تراهن على (احتراف خاص بها) مثل مسرح
الطيب الصديقي ومسرح اليوم ومسرح عبدالحق الزروالي, وهي الفرق التي تحافظ على مستوى
جيد للفرجة المسرحية بالمغرب.
وهكذا, توزع خريجو المعهد على ربوع الوطن, مندمجين في دواليب وزارة
الثقافة, يحلمون بمسرح لايزال بعيد المنال, وقد حافظ أغلبهم على علاقتهم بالمسرح من
خلال الانخراط في مسرح الهواة, أو بتأسيس جمعيات وفرق, كانت تحلم بالاحتراف ولكنها
مشروطة بالهواية, فيما كانت السينما أفقا خجولا سمح باستيعاب جزء من الممثلين الجدد
الذين شحنوا الفيلم المغربي بنفس جديد. وأغلق المعهد العالي للفن المسرحي أبوابه
أمام الطلاب الجدد لأن الدولة لا يمكنها أن تستوعب كل خريجيه, ولأن الاستثمار
الثقافي الذي يمكن أن يلبي المعهد حاجاته من الموارد البشرية أي الفنانين غير واردة
ملامحه فأحرى أن يكون متحققا ولو جزئيا. وهكذا, تشكل جسد خريجي المعهد العالي للفن
المسرحي وأصبح مكونا طبيعيا من المسرح المغربي دون أن تتاح له شروط عمل جديدة.
ومع إهلال صيغة الدعم في نهاية التسعينيات, والتي صاحبها قرار وزارة
الثقافة إعادة فتح المعهد العالي للفن المسرحي أمام الطلاب, توافرت ضربة الحظ
الكبرى لخريجي المعهد المسرحي, حيث أصبح بالإمكان الحديث عن عتبة أولية للاحتراف,
الشيء الذي دعمته وزارة الثقافة نفسها حين اشترطت على الأعمال المرشحة للاستفادة من
الدعم, أو على مشاريعها بالأحرى, توافر حد من الاحترافية وتشغيل (محترفي المسرح),
والمقصود بهم خريجو المعهد, وقد كان ذلك طبيعيا وإن كان غير معلن بما يكفي من
الجرأة, فالوزارة حين تنفق مالا عموميا على المسرح, فيجب أن يتوجه نحو تشغيل خريجي
معهدها, ويحرك المهن المسرحية ويمنح لها أفقا للتجريب والاختبار. ولكن واقع الأمر
مختلف, فنحن أمام صيغة لدعم الإنتاج فقط وليس أمام صيغة تامة للإنتاج. ولعل هذا ما
يغيب عن صناع الفرجة المسرحية ومنظميها, وهو أن الدعم دعم للإنتاج فقط, يفترض وجود
عقدة مسبقة للإنتاج.
ولأن القانون المنظم للدعم أدرك صعوبة وجود (إنتاج مسرحي) بما تحمله
الكلمة من معنى, فقد أعلن أن الدعم المسرحي يتكلف ما يعادل 60% من كلفة الإنتاج.
لنترك هذا الأمر جانبا, ولنعد إلى محترفينا.
صعوبة الاحتراف
إن أغلب ممن يعتبرون الآن محترفين في المسرح المغربي, لا يعيشون من
المسرح وحده, فأغلب القادمين من المعهد العالي للفن المسرحي موظفون بوزارة الثقافة,
وأغلب القادمين من مسرح الهواة موظفون في سلك الوظيفة العمومية. وبمعنى آخر, من
الصعب الحديث عن ممارسة مسرحية محترفة بكل مقاييس الكلمة. والأمر يزداد فداحة حين
ننظر إلى خريطة البنايات المسرحية في المغرب, فخارج محور مدينتي الدار البيضاء
والرباط, لا توجد قاعات مسرحية تحترم فعلا نبيلا مثل المسرح.
حين نضيف إلى كل هذا المستوى المتواضع للفرجات المسرحية التي تقدمها
الفرق المسرحية, فلا يمكن أن نتحدث عن احتراف حقيقي في المسرح المغربي, وأقصى ما
يمكن هو أن نعتبر أننا أمام مسرح هواة محترف, أو أمام مسرح هاو محترف, ولعلها
خصوصية المسرح المغربي الآن. فأغلبية صناع المسرح لا يعيشون من المسرح, وأغلب الفرق
لا تعتمد على الشباك, بل تجد صعوبة لا تتصور في إيجاد منتج حقيقي أو داعم خاص أو
شبه عمومي لفرجاتها. وبعبارة أخرى, مادمنا لا نتوفر على سوق حقيقية للفرجة
المسرحية, لا يمكن الحديث عن (مسرح احترافي) حقيقي. ولعل هذا ما دفع وزارة الثقافة,
التي نظمت مهرجانين للمسرح الاحترافي بالمغرب نهاية موسم 1998/1999 وموسم
1999/2000, إلى أن تحذف في المهرجان الثالث (يوليو 2001) كلمة (احترافي) ليصبح
المهرجان الوطني للمسرح المغربي.
حالة اقتباس
هل يعيش المسرح المغربي مرحلة اقتباس?
تنبع مشروعية هذا السؤال مما رصد في المهرجان الوطني الأخير للمسرح
المغربي (مكناس يوليو 2001) من هيمنة النصوص الأجنبية والمقتبسة على أغلب العروض
المقدمة. كما أن أغلب مشاريع المسرحيات المرشحة للدعم المسرحي تعتمد نصوصا أجنبية
أو مقتبسة, فيما لا تتردد الفرق الجهوية (وهي فرق رسمية) عن اقتباس النصوص الأجنبية
(الفرقة الجهوية لمراكش مثلا). ومن خلال هذا الواقع المرصود, أثيرت نقاشات وسجالات
حول تغييب النص المسرحي المغربي, وحول (غربة ) أغلب العروض المسرحية للموسم الفائت
على الأقل. وانبرى عدد من الفاعلين المسرحيين إلى التنديد بهذه الوضعية منطلقين من
غيرتهم على رصيد المسرح المغربي, وعلى العمق الوطني المفترض في ممارسيه ورجاله. بل
احتج على الخصوص عدد من المؤلفين, والذين ألفوا أن تقدم نصوصهم مرات عدة ومتتالية,
واعتبروا الأمر خطة ممنهجة لتغييب الكاتب المسرحي المغربي وإبداعاته.
وربما لاحظنا نوعا من المبالغة في تضخيم المسألة حتى أنه يبدو لي أن
الاحتجاجات كانت حقا أريد به باطل, مع احترام كل الآراء المتداولة. والسبب في ذلك
أن الاقتباس كان دائما أسلوبا لجأ إليه رواد المسرح المغربي ورجاله لصناعة فرجاتهم
المسرحية, خاصة خلال بدايات المسرح المغربي في عشرينيات القرن الفائت. فلماذا كل
هذه النقاشات حول المسألة? وهل المقصود أسلوب الاقتباس في حد ذاته, أم المقصود به
توجيه اللوم للمحترفين خريجي المعهد العالي للفن المسرحي الذين تعودوا على
الاقتباس.
إهمال النص المسرحي
مع بزوغ عصر المخرجين في المسرح المغربي في نهاية القرن التاسع عشر,
بدأت أهمية النص المسرحي تتراجع داخل المؤسسة المسرحية, وراهن المخرجون على الكشف
عن موهبتهم الإبداعية التي تجعل لهم قولا فصلا في صناعة الفرجة المسرحية. وهكذا,
ظهر نوع من المخرجين الذين يدافعون عن أحقية المخرج في الإبداع وفي الجمع بين
الإخراج والتأليف.
وقد وقف الجمع بين التأليف والإخراج وراء تطور الدراماتورجيا
باعتبارها صناعة للفرجة المسرحية من ألفها إلى يائها. وأصبح الأمر من علامات
التحديث في المسرح الغربي, خاصة مع بروز مخرجين كبار من عيار برتولد برشت وتادوز
كانتور وغروتوفسكي وبيتر بروك وغيرهم.
غير أن الأمر في المسرح المغربي - وحتى في المسرح العربي على ما يبدو
- لم يكن بالمواصفات نفسها ولا أفرز النتيجة نفسها, ذلك أن المسرح العربي كان
ولايزال في حاجة إلى ترسيخ الكتابة الدرامية بتقاليدها المعروفة, لكي يستطيع بعد
ذلك الانزياح عن التراكمات المتحصلة. لقد ظهرت تجارب مهمة في المسرح العربي, عمل
أصحابها على الجمع بين الإخراج والتأليف (محمد الكغاط, روجيه عساف, الطيب الصديقي,
فاضل الجعايي...) ولكنها بقيت في تجارب محدودة وموقوفة على أصحابها, فيما راهن عدد
كبير من المسرحيين على التأليف والإخراج فجاءت أعمالهم ضعيفة لا هي بالأعمال
الكلاسيكية المحترمة, ولا هي بالعروض المسرحية الحداثية. ولم يتوقف الأمرعند هذا
الحد, بل انبرى عدد من الكتّاب إلى المراهنة على كتابة نصوص تراعي الجانب الفرجوي
والجمالي, أي تراعي خصوصية العرض المسرحي, فجاءت نصوصا مفتقرة إلى العمق الدرامي,
هي عبارة عن إرشادات مسرحية متلاحقة, فلم تكن بذلك نصوصا درامية كلاسيكية, ولا
مشاريع عروض مكتملة.
لعل هذا الرهان هو الذي يدفع نحو الاقتباس الذي يسمح للمخرج بأن
(يشغل) المؤلف فيه, فيحصل على نص (هجين). ومن هنا, يطغى الجانب التقني الذي أشرنا
إليه, ويتجه البحث المسرحي نحو الجماليات الخالصة. إن المراهنة على الحداثة في
المسرح أمر جميل ومستحب, ولكن المبالغة في الحداثة دون حاجة ولا داع قد تنتج
الكارثة.
المسرح الجامعي
خلال نهاية الثمانينيات من القرن العشرين, استأنف المسرح الجامعي
حركيّته - التي كانت ملحوظة خلال الستينيات - من خلال الدورة الأولى للمهرجان
الدولي للمسرح الجامعي في البيضاء. وقد كانت إدارة د.حسن الصميلي وجرأته, ووجود
عارفين بالمسرح المغربي جانبه (مثل رشيد فكاك, ومحمد الكغاط آنذاك) كافية لتجعل من
المهرجان فرصة للقاء من جهة, ومناسبة للتعرف على تجارب مسارح الشعوب والثقافات
الأخرى, إضافة إلى الاحتكاك والتبادل من جهة أخرى. وخلال مدة قصيرة أصبح المهرجان
مكسبا وطنيا استأنف طموح الجامعيين المسرحي, وأصبح المسرح الجامعي مع تقدم التجربة
مكونا طبيعيا من مكونات المسرح المغربي رغم هزالة السند القانوني والتنظيمي الذي
يسنده, ورغم اعتماده على النوايا الحسنة عند أجهزة تسيير المؤسسات الجامعية, وعلى
إصرار كوكبة جميلة من رجال المسرح في الجامعة على ممارسة المسرح رغم غياب
الإمكانات.
وبفضل حيوية الممارسة المسرحية الجامعية, وإقبال الطلبة على ممارسة
المسرح رغم هزالة البرامج التكوينية في المسرح في رحاب الجامعة المغربية, بفضل
المهرجان المشار إليه, كسب المسرح المغربي فاعليات مسرحية وإبداعية مهمة بدأت تنحت
تجاربها المسرحية بكل رزانة, نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: رشيد دواني, عز
الدين بونيت, عبدالله شكيري. فالأول معروف بتجربته المتميزة في الإخراج المسرحي من
خلال الاعتماد على جماليات العرض المتراكبة, والمسنودة بنص درامي قوي غالبا ما
يمتلك بعدا أدبيا كثيفا. ولعله لهذا السبب وجد دواني غايته في النصوص المسرحية
للشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي التي قدمها مرارا على الخشبة وحصد بها جوائز
متعددة. أما عز الدين بيونيت, فإنه يراهن في عمله على البحث المسرحي والتجريبي الذي
قاده إلى الاشتغال على نصوص متعددة ومختلفة منها نصوص شعرية مثل قصائد الشاعر
المغربي محمد بلبداوي, أما شكيري فهو من (الأبناء الشرعيين) للمهرجان الدولي للمسرح
الجامعي بالبيضاء, تربى مسرحيا وإبداعيا في جنباته, وبدأ ينحت تجربته في موقع مشترك
بين السينما والمسرح.
إننا نلاحظ أن لقاءات المسرح الجامعي لا تلبي كامل المواصفات الجامعية
وكأنها لقاءات مسرحيين محترفين. إنه غريب فعلا أن تغيب مناقشة العروض المسرحية في
مهرجان للمسرح الجامعي كما تغيب فيه حلقات النقاش ودورات تكوين النقاد وورش الكتابة
المسرحية, ومحاضرات حول فلسفة المسرح وتحولاته في العالم. وفي الندوات القليلة التي
تنعقد في مهرجانات المسرح الجامعي لا تحضر إلا نخبة جد قليلة من النقاد والمهتمين,
وأحيانا لا يحضر إلا الباحثون والمدعوون لتنشيط الندوات ينصت بعضهم لبعض. ذلك أن
إلزامية الحضور للندوات غير معمول بها, بل إن المنظمين غالبا ما يتركون خلال وقت
انعقاد الندوات والورش المسرحية التقنية مفتوحة. وهكذا, تتحول مهرجانات المسرح
الجامعي إلى مهرجانات شبه احترافية تضم العروض المسرحية وبعض الورش التقنية مثل ورش
تكوين الممثل أو السينوغرافيا والماكياج أو التدبير المسرحي. ولهذا يضعف الطابع
الجامعي لهذا المسرح الذي نفتقد فيه حرارة صوت الطالب ونزقيته الفكرية وقدرته على
المناقشة والسجال?
شبه مسارح
تعتبر الفرق المحلية الشق الثاني من مبادرات وزارة الثقافة في السنوات
الثلاث الأخيرة في مجال المسرح, إضافة إلى صندوق الدعم المسرحي الذي أشرنا إليه
سابقا. وهكذا, تم تأسيس خمس فرق محلية في جهات خمس من المملكة على سبيل مرحلة
تجريبية أولية سيتم تعميمها على كل جهات المغرب فيما بعد. وقد أثار تأسيس الفرق
الجهوية نقاشات كثيفة تتعلق في الغالب الأعم بطابعها الغامض بالمقارنة مع وضوح صيغة
الدعم إن قانونيا أو عمليا. فوزارة الثقافة لم تصدر أي قانون تأسيس للفرق الجهوية,
واكتفت بتعيين مديرين لكل فرقة, مدير إداري ومدير فني, الأول يكلف بالتدبير الإداري
والمالي للفرقة والثاني يكلف بالإدارة الفنية للمسرحيات المنجزة. وإذا كانت الوزارة
قد خصصت قدرا ماليا لإنتاج مسرحيات كل فرقة جهوية, فإنها تركتها من جهة أخرى تسبح
وحدها في لجة الإنتاج المسرحي وتوزيعه. وهذا ما أثار بعض الاحتجاج.
في ظل هذه الصورة, لم تجد الفرق الجهوية للمسرح شركاء جهويين لدعمها
وتشجيعها, مما زاد من صعوبة المهمة الموكولة إليها. وربما هذا ما انعكس على عطائها
الفني. لقد توجهت أغلبها إلى اختيار نصوص مسرحية أجنبية أو تكفلت هي نفسها بكتابة
النص وذلك في الغالب الأعم تجنبا لصرف أجرة المؤلف المسرحي, الشيء الذي سيوفر له
قدرا كافيا من كلفة الإنتاج. وخلال إنجاز عروضها, اختار أغلبها الاقتصار على عدد
قليل من الممثلين تجنبا للرفع من كلفة الإنتاج دائما.
وهكذا, وجدت الفرق الجهوية نفسها في وضع حرج, ربما كان ذا صلة بما
لوحظ من هيمنة اقتباس النصوص الأجنبية في راهن المسرح المغربي. ذلك أنها, كما
أشرنا, فرق رسمية ووطنية في الجهات, ولهذا, فمن غير المعقول مطلقا أن نجدها, وفي
أول عروضها, تنجز مسرحيات لبرتولد برشت أو جوجول أو صامويل بيكيت أو لغيرهم لأنها
تستفيد من مال عمومي, ومن الضروري أن تتوجه إلى الريبرتوار المغربي كيفما كان نوعه,
وتعتمده في فرجاتها, فهي فرق تراهن على ترسيخ مسرح وطني في كل ربوع البلاد. وإذا لم
يكن في نيتنا منع الفرق المسرحية عن التعامل مع مسرحيين عالميين كبار, فإنه تنبغي
الإشارة إلى أن الدفع بالمسرح الوطني تأليفا وإخراجا وإنجازا موكول إلى الفرق
الوطنية والجهوية, خاصة أن المراكز الثقافية الأجنبية والملحقات الثقافية للسفارات
موجودة وتعمل ما في وسعها لترويج مسرحها وكتابها ومبدعيها.
لا نود أن نقدم صورة قاتمة عن وضعية الفرق الجهوية, بقدر ما نود إثارة
الانتباه إلى وضعها الإبداعي الصعب, وجسامة العمل الذي ينتظرها سواء على صعيد
الإبداع المسرحي أو على صعيد خلق دينامية مسرحية وثقافية في كل جهات المغرب. في هذا
الصدد ينبغي الإشارة إلى أن الأعمال الأولى لهذه الفرق قد خلفت صدى طيبا, وكشفت عن
طاقات إبداعية شابة وواعدة, تملك رؤية شاملة للإبداع المسرحي, سواء في بعده المغربي
العربي أو في بعده العالمي.
فأغلب المديرين الفنيين للفرق الجهوية يجرون وراءهم تجارب مسرحية
محترمة من أمثال إبراهيم هنائي وبوسلهام الضعيف ومحمد زهير وسليمة بن مومن.
إن ما يمكن أن نستخلصه من كل ما سبق هو أن المسرح المغربي يعرف حيوية
مشهودة, وحركيّة يتطور من خلالها نحو ترسيخ ممارساته في بنية التبادل الثقافي
بالمغرب, بل إن تلك الحيوية تسمح لتجاربه بتجاوز الحدود الوطنية لتصل إلى جمهور
عالمي خاصة في أوربا التي لا تبعد كثيرا عن الضفاف الشمالية للمغرب.
وقبل الحديث عن طبيعة الأعمال التي ستقدم هذه السنة, تجدر الإشارة إلى
أن الموسم الحالي يعرف تقديم أحد أهم النصوص العالمية التي تكرم الثقافة العربية
تكريما خاصا, وتمجد نضال الشعب الفلسطيني, وهو النص الذي كتبه الكاتب العالمي
المدفون في مدينة العرائش بالمغرب جون جينيه بعنوان (أربع ساعات في شاتيلا) الذي
ترجمه الروائي والناقد محمد برادة وتقدمه فرقة (مسرح اليوم) بإخراج عبدالواحد عوزري
وتمثيل الممثلة العربية الكبيرة ثريا جبران. وقد تركت المسرحية بعد عرضها صدى طيبا
عند الجمهور وعند الصحافة والنقاد.
أما على صعيد هذا الموسم, فقد حصلت خمس وعشرون فرقة مسرحية على دعم
وزارة الثقافة, من بينها خمس فرق لمسرح الطفل. وأغلب الفرق المدعومة تغطي أهم جهات
المملكة. وإذا أضفنا إلى هذه الأعمال التي ستقدمها الفرق الجهوية الخمس, فإننا
سنحصل على الأقل على ثلاثين عملا مسرحيا جديدا, أي ما يعادل 300 عرض مسرحي خلال هذا
الموسم. هذا دون أن نحتسب الأعمال المسرحية الأخرى التي ستقدمها فرق من الهواة
والمحترفين, والتي لم تحصل على دعم الوزارة. وإذا لم نستطع إدراج هذه الأعمال ولا
أرقامها فلأننا لا نتوفر على أي معطى بخصوصها. ولكن يجب التنبيه إلى عدم حصر المسرح
المغربي في الفرق التي تستفيد من الدعم الرسمي إذ يوجد عدد كبير من الفرق تشتغل
بشكل مستقل, ومن بينها هذه السنة فرقة مسرح اليوم التي لم تتقدم بطلب للاستفادة من
الدعم المسرحي.
وإذا كان الدعم المسرحي هذا الموسم سيعمل على تشغيل أكثر من محترف
مسرحي, فإن طبيعة الأعمال المقدمة تعرف تنوعا وغنى ملحوظين, إضافة إلى تنوع كبير في
أجيال المسرحيين الذين نجد من بينهم الشباب كما نجد جانبهم مسرحيين روادا تركوا
بصماتهم واضحة على تطور المسرح المغربي الحديث.
وهكذا, نلاحظ عودة مخرجين رواد من أمثال عبدالقادر عبابو وحسن الصقلي
ومحمد بلهيسي وبوسرحان الزيتوني وعبدالحق الزروالي, كما نجد مخرجين شبابا من ذوي
الحساسية الجديدة في المسرح المغربي أمثال رشيد دواني وعبدالله شكيري ومحمد مجد
وفرح العوان وحسن علوي وعلي قروي... وأغلبهم خبر المسرح من خلال تجربة مسرح الهواة
الرائدة بالمغرب أو تجربة المسرح الجامعي