بعد نصف قرن من طي آخر صفحة من صفحات التاريخ العربي في الأندلس,
وخروج بني الأحمر منها نهائيا, ولد الفنان يوناني الأصل, طليطلي الإقامة (الجريكو)
واسمه اليوناني (دومنيكو تيوتوكوبولوس) في عام 1541 بمدينة (كاندي) بجزيرة كريت
وكانت من بلاد جمهورية فينيسيا, تجمع في نسيجها بين الكاثوليكية الفينيسية,
والأرثوذكسية اليونانية. عرف من طفولته وصباه راحة العيش في أسرة ثرية, أتاحت له
فرصة الرحلة والتعرف على المحيط الثقافي البعيد والقريب, خاصة في فترة اشتعال جذوة
ما نسميه بالنهضة والأدق أن نسميه إعادة الميلاد.
كانت الدعوة التاريخية والحضارية, والأدبية, والفنية تتحدث آنذاك عن
إعادة سيرة سلفهم. أي الحضارة اليونانية, إعادة ميلاد الحضارة الأم بمقاييسها
الفنية, مقاييس تقوم على تقليد مرئيات الواقع ولكن في صورتها المثالية, مقاييس
وضعها الفلاسفة على قمة الأولمب من حب وخير وجمال. مقاييس أيضا تجعل منهجهم في
الإبداع بقنواته المتعددة هو المثل الذي يجب أن تحتذيه كل الحضارات اللاحقة...
عولمة مبكرة!!
(الجريكو) وجد في كريت مدرسة فنية بيزنطية مزدهرة أضافت إلى جوار
المقياس اليوناني الأرضي, مقياسا دينيا سماويا بعد اعتناق الامبراطور قسطنطين
المسيحية. بدأ تأملاته وتساؤلاته, كيف واءم فنان عصر النهضة بين تراث يوناني وثني,
وعقيدة مسيحية سماوية? كان الحل هو أن يرسم هذا الفنان موضوعاته الدينية, بطريقة
وبمنظور يوناني.
جاءت شخصيات قصة الخلق لفنان إيطاليا الكبير مايكل انجلو على سقف
كنيسة (سيستين) في روما يونانية عارية. ولم يجد الباباوات في ذلك ما يدعو إلى
اللوم, أو التثريب.
انتقل الجريكو إلى فينيسيا في فترة مبكرة عام 1560, بدأ يلاحظ من طرف
آخر بعض المداخلات الشرقية التي حومت على الفنون البيزنطية ولكنها لم تصمد كثيراً
أمام موجة (الرينيسانس) أي عودة ميلاد كل ما هو يوناني خاص, تتلمذ على يد (تيسيان).
ووقع في فترة تحت تأثير (تينتوريتو), فقد وجد في أعماله صدى لثورة نفسه الداخلية,
ومنفذا للتعبير عنها, تلقن منه طريقة توزيع الأشخاص, والمجموعات على اللوحة, وعلاقة
الأشخاص بالفضاء, كما استوحى من (فيرونيزي) كيفية إثراء مكوناته بألوان تستقل إلى
حد ما بالتعبير عن نفسها.
انتقل إلى روما ليستكمل براعة التعبير بالشكل. هناك بدأت تطوف بخياله
غيوم, وأستار, وأسرار حول فنون الحضارة الإسلامية. لا يعرف كيف يستجليها, أيُقدم
عليها بحسه الجمالي التلقائي, أم يُدبر عنها بحس زمانه الذي كان لايزال يحمل أدران
عداوات الحروب الصليبية?
وقرر الرحيل إلى مدريد.
من ربوة طليطلة
لم تطل إقامة (الجريكو) كثيراً في مدريد, انتقل إلى أقرب المنابع
العربية الإسلامية.. إلى طليطلة (Toledo) في الجنوب عام 1577. وجد نهر (تاجو) الذي
يصب في المحيط الأطلسي يتوقف عندها, يدور حولها, يحولها لشبه جزيرة نهرية ساحرة, هي
بدورها تطل عليه من ربوة.
تتدرج أبنيتها من الأعلى. من القصر العربي, تخرج منها المسارب,
والطرقات, تعترضها بوابات الوصل, أكثر من بوابات الفصل, ورغم أن طليطلة كانت قد
خرجت مبكرا من أيدي العرب عام 1085, إلا أن تحولاتها إلى النهج الفني الغربي سار
بطيئا, عاصر فيها (الجريكو) تحولات تنداح في خيوطها معالم الحضارة الإسلامية..
الفنون, والعمارة, والأدب, والفلسفة, والشعر, والموسيقى, فضلا عن العلوم العربية
العديدة.
في طليطلة يستجمع (الجريكو) معالم ذاته الفكرية والفنية. يتمرد على
طريقته. يستقر, ويستقل بأسلوبه, في طليطلة استعاد ذكريات وحواديث (ديكاميرون), وقصص
(بوكاشيو) الشهيرة, وكان أهم ما استقر في وجدانه موقف الأديب الإيطالي من بعض رجال
الدين الذين حولوا العقيدة إلى تجارة... في جو مرح مشحون بالدعابة تحكي القصص مساخر
القساوسة, وانحرافات الراهبات, يقول بوكاشيو (سيداتي الحسان, لقد خطر لي أن أقص
عليكن حديثا عن هؤلاء الذين يسيئون إلينا دائما دون أن نستطيع الانتقام منهم, أعني
رجال الدين الذين أعلنوا حرباً صليبية على زوجاتنا, والذين إذا ظفروا بواحدة منهن
تصوروا أنهم غنموا غفران الذنب والعقوبة, وفي ذلك يعجز المدنيون عن مقابلتهم
بالمثل).
تأتي أعمال (الجريكو) الفنية متفردة, الحوار فيها صامت ساخر, غالبية
لوحاته وأعماله تدور حول موضوعات دينية, ولكن طريقته المعالجة لا تعرف لا الأصول
المثالية اليونانية القديمة, ولا التقاليد الكنسية المرعية. شخوصه امتدادات لونية
مجسمة, وأبنية لوحاته تداعيات أندلسية مشغولة, مشحونة كرقائق الدانتيلا. وحدتها
تقترب وتبتعد بعين المتلقي (الجابذة), أكثر من عين الواقع (النابذة), حوار جمالي
مبكر بين مفردات الشرق والغرب بغير إعلان, وبغير افتعال.
أعمال (الجريكو) تحقق لقاء معجزا بين السماء, والأرض في عالم خاص يضرب
في غياهب المجهول, تعيش فيه الكائنات منطلقة إلى ما وراء الأشياء, لا تفكر في
وجودها, بقدر ما تحلم بما إليه تصير. كائنات تتخذ ملامحها, وثيابها, وزينتها من
عالمنا, ولكنها مع ذلك لا تشبهه.
ألوان من الفيض والسيل
في عام 1975 كنت أطالع أعمال (الجريكو) لأول مرة عن قرب في متحف
(البرادو) بمدريد, كنت أتساءل عن هذا الفيض اللوني القاني والحاني في آن. كنت أعود
فأقول إن الفيض ينبجس, وألوان (الجريكو) لها مدد خاص لا هي بالفيض ولا هي بالسيل,
ويفسر الناقد الكبير الراحل (بدر الدين أبوغازي) هذا التكوين فيقول (أشخاص الجريكو
فيها شيء من الغرابة, وشيء من الضياع. كأنها كائنات معلقة بين الحياة والموت).
ويضيف (لقد أتيح للجريكو بحكم تحرره من القيود الرسمية, ومن أعباء
البلاط أن يصوغ فنه وفق تأملاته, وأن يرسم من الأشخاص النماذج العادية القريبة إلى
نفسه, التي تربطه بها صلات مشعة, فلم يعنه تصوير السمت, ولا الشبه, إنما كان معنيا
بأن يودع روحه وتأملاته ملامح الوجوه التي يرسمها.
الخيوط التي كوّنت نسيج رؤية (الجريكو) موصولة بزمانه القريب, عالم
السطوة الإقطاعية والكنسية, وموصولة بزمانه البعيد, اخترقه بجهده وبصيرته. عالم
مكونات أثينا, وبيزنطة, وروما في المفردات.
ومكونات الشرق العربي الإسلامي في الرؤية الجمالية, تلمس بداياته من
الأيام العشرة لـ (بوكاشيو) التي أوصلته بسحر ألف ليلة وليلة, وعالم المنمنمات الذي
لا يعرف فواصل المنظور, ولا حجب البعد الثالث. لقد عبد الطريق من فترة مبكرة
لانقلاب الفن الكبير في القرن التاسع عشر. انقلاب شكّل حواراً فنياً نادراً بين
الشرق والغرب. اخترق حجب ما يقرب من 2700 عام ظلت الفنون الغربية فيها محكومة كما
يقول (هربرت ريد) بنظرية المشابهة التعيسة