فريدا وبولوك صورة الرسام في السينما

 فريدا وبولوك صورة الرسام في السينما
        

          حساسية مُفرطة, ومثالية فائقة, صفتان ميَّزتا ـ ربما أكثر من اللازم ـ صورة الرسام في السينما, سواء عندما قدم تشارلز لوتون شخصية رمبرانت في العام 1936 ميلادية أو حين مثل كيرك دوجلاس فان جوخ العاشق في الفيلم الذي حمل اسم (اشتهاء الحياة) في العام 1956, وتعرفنا فيه إلى دوجلاس/جوخ كأيقونة مميزة لروح المعاناة, وصرخة الألم, من خلال صورة رسمتها الأساطير والوقائع لصاحب زهور عباد الشمس, وحقول سنابل القمح والرغبات, والمقاهي المكتظة بلاعبي الورق والمدخنين, والغرف التي تشكو وحدتها للمقاعد والأحذية!

          كانت قصة فان جوخ الأشهر حول أذنه التي قطعها ليهديها لابنة هوى, عانقها فهامت بأذنه, وهو يسجل في اللوحات, والأفلام التي تناولت حياته, صورته الذاتية وهو يضع الضمادات عليها. كان الغنى الفني الذي ميز حياة فان جوخ, والبؤس أيضا, جديرين بصناعة فيلم جيد, وهكذا اختار دوجلاس شخصية درامية لينقلها من عالم المراسم إلى الشاشة الكبيرة.

          لم يكن ذلك الفيلم الوحيد الذي حمل اسم الفنان الكبير ففي (فان جوخ) الفرنسي الذي أنتج في العام 1991م وأخرجه موريس بيالا إعادة إنتاج للصورة الكئيبة ذاتها للفنان وخاصة خلال الشهور الأخيرة من حياته (قام بالبطولة جاك داترون), حتى أن الفيلم يزعم أن اتجاه جوخ للفن كان محض مصادفة. وبين هذين العملين قدم المخرج بول كوكس في العام 1986م فيلمه الأسترالي (فنسنت: حياة ووفاة فنسنت فان جوخ) ويروي فيه ـ بما يشبه التوثيق ـ الممثل جون هيرت سيرة الفنان من خلال الخطابات التي شرح فيها حياته وأعماله. كما أخرج روبرت ألتمان في الفيلم الأمريكي (فنسنت وثيو) في العام 1990م ويصور جوخ على شفا الجنون في الفترة التي عاشها مع أخيه.

          غير أن الأفلام التي عرضت لحياة فان جوخ لا تعني أن السينما توقفت عند قصته وحده, بل كانت حياة الفنان الفرنسي تولوز لوتريك والإسباني بابلو بيكاسو والإيطالي موديلياني والإنجليزي ديفيد هوكني وسواهم مادة غنية للتحولات التي شهدتها حياة هؤلاء, وربما أيضا حياة النساء اللاتي عبرن الخريطة الجغرافية لسيرتهم الذاتية!

اسكتش سريع لمشهد طويل

          قدمت السينما العالمية صورة الرسام في شقين; يطرح الأول سيرا لفنانين حقيقيين ويحكي الثاني عن عالم الرسام دون أن يقصد إلى سيرة فنان بذاته. ففي المجموعة الأولى صور المخرج ألكسندر كوردا في العام 1936م الجمال الأخاذ والثراء الآسر للوحات رمبرانت, وهو على حافة الشيخوخة, بينما تأسره ساسكيا (قامت إلسا لانكستر بالدور) فينتقل تأثيرها إلى اللوحات. وأنجز المخرج دوجلاس هايكوكس الفيلم الأمريكي (ابنة ميسترال) في العام 1944م عن حياة الرسام كيتش وهو مقتبس من رواية لجوديث كرانتس, وفي فيلم (عشاق مونبارناس) في العام 1957 عرض المخرج جاك بيكر لقصة النحات والرسام الإيطالي المولد موديلياني وقام ببطولته جيرارد فيليب. أما في العام 1966م فأخرج لوسيانو سالاس فيلمه الإيطالي الفرنسي المشترك (ألجريكو) عن حياة ذلك الرسام الإسباني الأسطوري. كما قدم فيلم (الطرطشة الكبرى) الذي أخرجه البريطاني جاك هازان صورة تسجيلية لديفيد هوكني مع أصدقائه في العام 1974م.

          وروى الفيلم الأمريكي (إدوارد مونش) في العام 1976م السيرة الذاتية للرسام النرويجي صاحب اللوحة الشهيرة (الصرخة) في رحلته بين الاكتئاب والجنون, وقام بالبطولة بيتر واتكنس. وأخرج ديريك جيرمان في العام 1986م فيلم (كارافاجيو) عن الحياة الفضائحية والمأساوية لفنان الباروك الإيطالي. وقام الممثل رولف هاريس بتقديم قصة حياة الفنان النمساوي الذي ينتمي للمدرسة التأثيرية جوستاف كليمنت  وخاصة أعماله خلال فترة التسعينيات من القرن التاسع عشر. أما (جوجان البري) الذي أخرجه الأمريكي فيلدر كوك فقام ببطولته ديفيد كارادين وصور بين فرنسا وتاهيتي وقدم كعمل تليفزيوني زاخر بالصور الفردوسية في 125 دقيقة.  كما عرض فيلم (أحلام أكيرا كوروساوا) متتاليات تشكيلية للمخرج الياباني الكبير في العام1990م.

          لكن العمل السينمائي  الذي يظل في الذاكرة طويلا ذلك الذي قدم فيه الممثل تشارلز هيوستون في 1965م حياة النحات والرسام مايكل أنجلو (العذاب والنشوة). كانت مشاهد مايكل أنجلو المعلق بين السماء والأرض وهو يرسم سقف كنيسة سيستين مثل نبي  يتلقى الوصايا, على قمة الجبل, فيما السحب أمام عينيه تتحور فتتحول إلى هيئات ومناظر بثها روحه وسخر لها جسده خلال أربع سنوات فناء في حب الرسالة التي ظل طوال عمره يؤديها.

          ضمن هذه الأفلام أيضا ـ أفلام مجموعة سير الفنانين ـ أعمال ساهم في كتابتها وإخراجها أبطال الحقبة السوريالية, وأكثرهم نشاطا لويس بانيول في الإخراج وسلفادور دالي في الكتابة. وكان أشهر أعمالهما على الإطلاق فيلم (الكلب الأندلسي) في العام 1928م والذي فجر الحقيقة السوريالية الفظة لذلك العالم ما بعد الخيالي. وعاش سلفادور دالي نفسه في أكثر من عمل منها (سلفادور دالي: صورة ذاتية ناعمة) ورواه أورسون ويلز في العام 1977.

          ومن المجموعة الثانية التي قدمت صورة الرسام الفيلم الذي حقق شهرة الممثل رودولف فالنتينو وهو (أربعة خَيَّالة من أبوكاليبسي) وأخرجه الأمريكي ركس إنجرام في العام 1921م ويحكي في ملحمة صامتة قصة حياة رسام أرجنتيني يأتي إلى فرنسا ليدافع عن بلاده خلال الحرب العالمية الأولى فيكتشف انضمام أخيه إلى الجانب الآخر.  وأخرج كيرت نيومان في العام 1956م (موهوك)  عن رسام يعيش حالة الحرب بين المستعمرين والهنود الحمر في القارة الأمريكية. وقدم سيرجي بورجيجنون في (صيف بيكاسو) الذي أخرجه في العام 1967 رحلة زوجين عاشقين للفن ينطلقان في شوارع أوربا لزيارة المتاحف.

          وقدم المخرج ليريا بيجيجا فيلم (البربر) في العام 1983م عن المجتمع الأباني في باريس من خلال قصة حياة رسام منفي بها. ويروي (يوم أحد في الريف) الذي أنتج في العام  1984قصة حياة رسام فرنسي مسن من الانطباعيين الذين يزورون في 1910م منطقة ريفية للقاء الأهل في دراسة للطبيعة والبشر والعلاقات الإنسانية.  وعن جيل العشرينيات أخرج آلان رودولف (العصريون) في العام  1988م حول حياة مزيف للأعمال الفنية يقطن الحي اللاتيني. أما (الفوضى الجميلة) والمصور في 1991م فيحكي قصة رسام فرنسي متقاعد (ميشال بيكولي في الفيلم) يعاوده الإلهام عند لقائه بفتاة جميلة مما يدفعه لاستكمال لوحة بدأها منذ سنوات, في تحليل مفعم بالعاطفة, وهو من إخراج جاك ريفيت.

          ورغم هذا الزخم العالمي الذي ذكرنا طرفا منه لم تستقبل الشاشة العربية في عالم السينما الروائية سوى عمل عن رسام الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي (لنور الشريف) بينما شارك زميلاه المصريان صلاح جاهين ورجائي ونيس في عدة أعمال ثانوية قاما فيها بشخصياتهم خلال الستينيات. ويحكي صلاح جاهين عن اختيار المخرج صلاح أبو سيف له ليشارك فاتن حمامة ورشدي أباظة في أحد الأفلام وكيف أنه بكى حين انتهى الفيلم وأدرك أن الصداقات التي كونها خلال فترة التصوير سيأخذها الزحام, ويصحو على صوت فاتن حمامة, هكذا هي اللعبة وأهم قواعدها أن يحدث هذا الفراق.

          إذن هي لعبة: السينما والأفلام, لكنها لعبة تؤسس لقواعد مشتركة وتخلق فوق قماش شاشة العرض السينمائي غير ما تخلق فوق قماش اللوحة المشدود إلى الإطارات. وإذا كان تاريخ السينما الطويل لم ينس الرسامين, فهو يضيف أخيرا فيلمين جديدين عن الرسام الأمريكي جاكسون بولوك, والرسامة المكسيكية فريدا كاهلو. وبين فريدا وبولوك; الفيلمين; أكثر من رابطة, لكن العلاقة الأكثر إثارة هي أن البطلين مرشحان عنه لنيل الأوسكار.

بولوك

          يحكي الممثل إد هاريس كيف أهدى له والده ـ خلال احتفاله بعيد ميلاده ولعامين متتالين في مطلع العقد الرابع من عمره ـ كتابين عن حياة الرسام جاكسون بولوك, داعيا إياه أن يأخذ بشكل جدي فكرة تحويل قصة حياة الرسام الأمريكي إلى  فيلم. وبعد عشرين عامًا تحول حلم هاريس الأب إلى حقيقة عندما مثل وأخرج إد الابن الفيلم الذي حمل عنوان (بولوك).

          كان أول ما شدَّ هاريس إلى سيرة جاكسون بولوك ذلك التناقض بين بداياتهما. ففي حين عانى الرسام صبيا حياة العزلة التي فرضها الرحيل المبكر لوالده عن البيت, ليتعثر في  متاهة الضعف الدراسي ومن ثم إدمان الشراب منذ مطلع شبابه وطوال سني حياته, لم يكن صبا هاريس وشبابه سوى حالات من السعادة المفرطة موزعة بين حب الوالدين وعناية من جميع أفراد العائلة, ونجومية في فريق الكرة, ونبوغ بالدراسة!

          ولم يتماس هاريسون مع مشاعر بولوك إلا عندما فارق الممثل منزله متجها إلى مدينة نيويورك, حيث العالم الحقيقي الذي سيبحث فيه لقدميه عن موضع. وكانت بداية مشوار التمثيل تعني بداية الشعور بالضآلة والعزلة وسط عالم مزدحم. فشرب كثيرا واكتأب أكثر. وحينها فكر في جاكسون بولوك, وفكر فيه كدور تمثيلي يتحدى نفسه, وبدأ القراءة والكتابة, وشعر أن نص الفنان مكتوب أمامه على الجدران, وأنه يقرأ الدور الذي سيؤديه, وبدأت شرارة الإلهام تندلع من بين السطور, وإذا به يشتري طلاء المنازل بكميات كبيرة (الخامة نفسها التي استخدمها جاكسون بولوك), ويمضي الممثل سنوات وسنوات يتدرب على الرسم فوق قماش الكانفاه, وبدأت مساحة اللوحة تكبر. لم يحاول إد هاريسون أن يقلد لوحات جاكسون بولوك, بل كان يسعى لكي يرسم بالأسلوب نفسه. ويختبر قدرته في أن يغطي اللوحات الضخمة التي اشتهر بها التجريدي بولوك بشيء له قصد أو مغزى. وحين بدأ يحس ذلك التقمص الناجح استشعر النبض الحقيقي لبولوك.

          ونعرف أن أعمال جاكسون بولوك (1912 ـ 1956م) مثلت التجريدية التعبيرية في الفن الحديث, وإذا كان الفنان قد تأثر في بداياته بحركة السرياليين وبابلو بيكاسو, فإنه أفاق مع انطلاقه للعلاج من حالة السُكر, واطلاعه على آراء العالم النفساني كارل يونج. كان جاكسون بولوك يضع قماش  الرسم على الأرض ويقول: أنا أميل إلى استخدام القماش غير المشدود (إلى إطار).. وعلى الأرض أشعر أنني أقرب إلى الصورة (اللوحة), بل بأنني جزء منها, وبذلك أستطيع أن أدور حولها, وأن أرسم من الجوانب الأربعة, أي أن أصبح داخل اللوحة, لأبتعد ـ تدريجيا ـ عن أدوات المصور (الرسام) التقليدية; كالحامل والباليتة والفرشاة. وفضل جاكسون بولوك العمل بالعصي والسكاكين بدلا من الفرشاة ـ وقلده هاريس ـ وخلط الطلاء اللزج بالرمال وقطع الزجاج والخامات الغريبة. ورغم ذلك الطوفان المنسكب من دلو الألوان يؤكد جاكسون بولوك على قدراته المسيطرة على تدفق خيوط السوائل اللونية منافيا للقول بأن أعماله بنات الصدفة.

          كان النص الأول للفيلم ـ وكتبته برباره تيرنر ـ متضخما, مما دعا هاريس للعمل عليه لسنوات, كما دفعه لإخراج الفيلم أيضا. ويرصد العمل لحياة جاكسون بولوك منذ عقده الرابع وحتى رحيله في حادث سيارة. وظلت ابنة هاريس تشاهد أباها طيلة سنوات يتدرب, فتخمن: أنت ستمثل بولوك?! بينما تخطت زوجته الممثلة آمي ماديجان (التقيا في عمل مسرحي مشترك) دور المشاهدة إلى المشاركة في الفيلم, الذي أعادت تيرنر كتابته بالاشتراك مع سوزان إمشفيللر, معتمدتين على كتاب ستيفن نايف وجريجوري وايت سميث: جاكسون بولوك ـ حياة أمريكية.

          خمسة عشر عامًا, تحولت الفكرة إلى حقيقة على مدار 122 دقيقة وبقيت مشكلات الفنان حية على الشاشة, خاصة عندما نتعرف إلى قصة عودة جاكسون بولوك إلى الإدمان ـ قبل عامين من وفاته ـ نتيجة لحياة قلقة وإبداع وصل ـ ربما ـ إلى نقطة النهاية, بعد أن أسقطت عصاه آخر نقطة طلاء خارج قماشة الحياة!

فريدا

          حين ذهبت نجمة التليفزيون الأولى في المكسيك ـ ذات الأصل العربي ـ سلمى حايك إلى هوليوود قبل 11 سنة, وجدت نفسها بلا عمل. كان أهل مدينة السينما لا يعرفون عن المكسيكيات سوى أنهن خادمات. المعاملة القاسية لذويها من اللاتينيين دفعتها لتبني قضاياهم, وأن تندد بسوء معاملتهم في الولايات المتحدة. ولا يزال المتابعون لها يذكرون خروجها في مسيرة ترتدي زي زفاف أبيض لتهاجم ظاهرة العنف في الشوارع.

          لم يكن وجود سلمى حايك يعني أنها النجمة المكسيكية الوحيدة في فضاء هوليوود,  لكنها كانت الأولى بعد انقطاع كبير منذ غياب مواطنتها دولوريس دل ريو. وكانت قائمة اللاتينيين تضم آندي جارسيا وراكيل وولش وديفيد لينش, فضلا عن المكسيكي الأهم: أنتوني كوين (الذي لم يكن يمثل في الأربعينيات والخمسينيات ـ قبل انطلاقته العالمية ـ سوى الأدوار العرقية الثانوية. فلم يكن هناك أحد في هوليوود يحسن به الظن خارج أدوار الهنود الحمر!

          تغير الآن هذا المشهد السينمائي في الولايات المتحدة, تحت وطأة التأثيرات المجتمعية, وبعد أن أصبح هؤلاء اللاتين أغلبية بين الأقليات. وحين لعبت جينفر لوبيز ـ الممثلة والمطربة ـ دور نجمة الغناء اللاتينية سيلينا, أصبحت أول من تتقاضى أجرا فوق حاجز المليون دولار من بين بنات جلدتها. وقد تكون هذه المقدمة ضرورية لنفهم السبب وراء رغبة كثيرات في لعب دور الفنانة المكسيكية الفذة فريدا كاهلو. الحياة الحافلة بالمثير والعاطفي والمؤلم والمتناقض والبوهيمي والفني جعلتها بطلة استثنائية فازت بها ـ ممثلة ومنتجة ـ سلمى حايك على مادونا ولوبيز معًا(قدمت السينما المكسيكية فيلما بالعنوان نفسه (فريدا) في العام 1984م).

          وفرت فريدا كاهلو فرصة استثنائية لحياة كاملة في نقصها بعد أن عاشت سبعة وأربعين عاما (1907 ـ 1954م), قضت معظمها أسيرة مقعدها المتحرك, منذ أصيبت في سن الثامنة عشرة إثر حادث حافلة, وظلت طريحة الفراش لمدة عام بأحد المستشفيات, حيث تعرف إليها بطلنا الفنان دييجو ريبيرا (أو ريفيرا كما يحلو للبعض أن يترجمها) فتزوجا وهي في الواحدة والعشرين, ولم يكن الزواج نهاية سعيدة, فانفصلا مرة وعادا مرة أخرى إلى قفصه.

          نص (فريدا) السينمائي يقتبس نوره من أكثر من كاتب, وقد أعاد الممثل إدوارد نورتون كتابته (يظهر نورتون أيضا في مشهدين في الفيلم بدور نلسون روكفلر), ويقتفي حياة كاهلو منذ طفولتها في مكسيكو سيتي في مطلع عشرينيات القرن الماضي, ثم غرامها وزواجها من رسام الجداريات دييغو ريبيرا الذي كان يكبرها بإحدي وعشرين سنة حتى تطورها لتصبح رسامة بذاتها. ومع انتشار شهرتها تدهورت صحة كاهلو العليلة حتى رحلت في العام 1954 .

          ويحتوي الفيلم على بعض الأخطاء الصغيرة, فهو لا يذكر أن الآلام الجسدية المزمنة التي تعانيها كاهلو بدأت عندما أصيبت بشلل الاطفال وهي في سن السادسة, وليس في حادث سيارة الباص الذي كادت أن تلقى فيه حتفها في سن الثامنة عشرة في العام 1925. وكذلك يذكر الفيلم أن كاهلو أجهضت في أثناء وجودها في نيويورك لحضور معرض للوحات ريبيرا في متحف الفنون العصرية, في حين أن الحقيقة هي أن ذلك حدث في ديترويت. ويصورها الفيلم كصريحة في مغامراتها الجنسية مع الرجال والنساء, عكس الزوج الذي كان معلمها ثم زميلها وصديقها ثم زوجها. وأداء سلمي حايك لدور كاهلو يجعلك تحس أنك تشاهد الفنانة, ليس بسبب الشبه بينهما وحسب, من الناحية الجسدية, بما في ذلك الحاجبان المتصلان اللذان اشتهرت بهما الفنانة, بل لأنها تفعم الدور بالفرح الطاغي والحيوية المشتعلة والقـوة المغناطيسية.

          ظلت فريدة ترسم صورا ذاتية لها, كأنها تستعيد الصور التي فقدتها إثر الحادث, فهي تحتفي بالطيور الأربعة على كتفيها, كأنها سترسلها لجهات الدنيا تعوضها عن أسرها, أو أنها ـ في لوحة أخرى ـ تنام في الطابق الأدنى لسرير من طابقين, فيما ترقد بالطابق الأعلى دمية عاجزة عن الحركة; كأنها الكوابيس التي تهاجمها دوما لتعبر عن عجزها. أو هي الغزال الشارد لحظة اقتناصه (رسمت لوحة لغزالة تحمل وجهها وقد طعنتها سهام من كل صوب), ودائما هي جالسة أو نائمة, وفي المرة الوحيدة التي وقفت فيها فريدة, في اللوحة, كانت تمسك بيد زوجها فيما دييجو ريبيرا يمسك في يده الأخرى باليتة نظيفة وأربع فرشات ألوان.

          الفيلم أعاد إنتاج هذه الصورة بكثافة بالغة. حتى الحيوانات التي كانت تمرح في لوحات فريدا انطلقت في لوحات الفيلم. وقد اعتمد الفيلم على الصور التي بقيت في المخيلة والأخرى التي التقطها لها معاصروها ومنهم لولا برافو, وهي واحدة من أقرب الناس إليها. وهي الصور الحميمية التي حركها الفيلم, وخاصة تلك التي تمثلها فوق كرسيها المتحرك تراقب زوجها وهو يرسم إحدى لوحاته الجدارية الضخمة, أما أشهر الصور فتلك التي تطرق فيها برأسها متكئة على راحة يدها وهي تغمض عينيها أو تكاد, وليس يميز الصورة سوى الخواتم غير المتشابهات في أصابعها, يحمل أحدها صورة طائر, والآخر منحوت على شكل قلب أيقونة الحب الذي كانت تبحث عنه طيلة حياتها.

          أستعيد قراءة رسالة من صديقها الحميم كارلوس بليسير, حول إعداد منزل ريبيرا وفريدا ليصبح متحفا, بكل ما كانت تحب فريدة ويرغب زوجها, وفي الختام يتركها في سرير الاحتضار ويكفكف الدمع وهو يحدثها: في الممر كنت مع السرير الذي شغلته لبضعة أيام, قبل رحيلك. لقد تركت كل شيء كما تركته تماما, قبل أسبوع من رحيلك  كنت معك, هل تذكرين? كنت في المقعد إلى جوارك, أتحدث وأقرأ عليك بعض القصائد الغنائية التي كتبتها خصيصا لك, وكنت تحبينها كثيرا, .. أعطت الممرضة حقنة, كنا نحو الساعة العاشرة, وكنت ستغرقين في النوم, عندما أشرت لي بأن أقترب, فقبلتك وأخذت كفك اليمنى بين يدي, هل تذكرين? ثم أطفأت النور. فنمتِ, وبقيت للحظات أراقبك, بينما كانت السماء خارج المنزل تسبح في صفاء ونقاء, ترحب بي في غموض, كما لو كان الأمر جزءا من سليقتها, فكرت: كم بدوتِ مريضة ومنهكة, وأعترف أنني بكيت في الطريق حين ذهبت لأستقل الحافلة إلى منزلي, الآن فقط استعدت صحتك كلها, وللأبد. وأود أن أقول لك: مثل حديقة يدهمها الليل وليس لديها سماء, أنتِ, مثل نافذة قيدتها الرياح, أنتِ; مثل منديل سقط في الدم, أنتِ, مثل فراشة من الدموع, مثل يوم انقضى فجأة, مثل عبرة في محيط من الدموع.

          وقد ضفرت مخرجة العمل جولي تيمور هذه الحياة الحافلة للرسامة المكسيكية في مسرد زمني مشحون بالعاطفة, وأعانتها لوحات فريدا على إعادة تقديمها في هيئات كولاجية, وقام الممثل جيفري رش بدور عاشق فريدا: ليون تروتسكي. أما زوجها دييجو ريبيرا (1886 ـ 1957م) فقام بدوره ألفرد مولينا . ويقدم الفيلم جدارياته بشيء من التوثيق وكثير من الحب.

          لوحات المصور المكسيكي العظيم كانت تصور الحياة في بلاده, وقد تعرض الفيلم أيضا ـ وحتى يزيد من جرعة الألم التي عانت منها فريدا ـ لحياته الخاصة المليئة بالنساء. وأتوقف عند مشهد فريدا وهي تحتل كرسيها المتحرك في أعلى الكادر, كما لو كانت مصدر الإلهام والقوة معا لزوجها وأستاذها, ريبيرا. الذي يعبر عن صلابة رأيه عندما عهد إليه برسم لوحة مركز روكفلر التجاري في العام 1933م, لكنه يخسر العقد لأنه أضاف رأس لينين إلى اللوحة, لتوضع بدلا منها لوحة أخرى بريشة برانجيني

 

أشرف أبواليزيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سلمى حايك في دور فريدا: نكهة مكسيكية لرسامة عالمية





كيرك دوجلاس: ضمادات لأذن فان جوخ وقلبه المجروح!





رولف هاريس: سلسلة تلفزيونية وعمل للرسام كليمنت





الممثل إد هاريس بين صورتين: بولوك الحقيقي (يمين) وبولوك على الشاشة (يسار)





 





 





كائنات فريدا كالو: من اللوحات إلى المشاهد السينمائية





من تفاصيل رسوم مايكل انجلو سقف كنيسة سيستين, 1513م





كون المحبين, فريدا وزوجها, 1949 بريشة الفنانة