صبري موسى ورمضان بسطاويسي

صبري موسى ورمضان بسطاويسي
        

العالم العربي مليء بالحواجز
التي تعوق وصول الإبداع إلى جمهوره

          تنبع أهمية صبري موسى الأدبية من رؤيته الجمالية والفكرية, وما تثيره أعماله من أسئلة عديدة أغلبها ذو طابع فلسفي وسياسي, وهو من رواد الكتابة عن ثقافة الصحراء من خلال كتابه في أدب الرحلات (في الصحراء) ورواية بعنوان (فساد الأمكنة) تثير علاقة الإنسان بالمكان بكل مستوياتها المتعددة والمركبة, وقدم في عام 1980 رواية عن المستقبل بعنوان (السيد من حقل السبانخ), فيها تنبؤ بمعظم القضايا التي تثار الآن, وقدم رؤية فكرية عن صورة العالم البشري بعد أن ينتصر الإنسان على المرض والجهل والفقر, وينجح عن طريق العلم والثورة التكنولوجية في إشباع حاجات الإنسان. وصبري موسى في هذه الرواية لا يبشر وإنما يحذر وينذر ويقدم نقدا للنموذج المادي, العقلاني السائد الآن, وتكشف لنا الرواية عن ضياع الروح الإنسانية بشكل يجعلها تنتمي إلى أدب المستقبليات أكثر من انتمائها لأدب الخيال العلمي, وتطرح السؤال الآتي: ماذا يمكن أن يحدث للإنسان في امتدادات الحضارة المعاصرة, بعد أن يكون قد نجح في تحقيق الديمقراطية والعدالة وتلبية الحاجات المادية? ألا يؤدي هذا إلى نزع القداسة عن الإنسان والطبيعة وهي المحيط الحيوي الذي يعيش فيه? ومارس صبري موسى كتابة السيناريو وقدم أفلام البوسطجي وقنديل أم هاشم والشيماء وغيرها.. بالإضافة إلى عمله الصحفي في مجلة صباح الخير المصرية.. وقدم عددا من التحقيقات التي ساعدت صاحب القرار السياسي والاجتماعي على اتخاذ قرارات تدخل سكان الصحراء والبحيرات ضمن اهتمام الدولة. وهنا يتحاور معه الناقد الأدبي د. رمضان بسطاويسي محمد.

  • من غير المعقول أن يزيد العرب على200 مليون نسمة ولا يتجاوز ما يطبع من الكتاب الواحد 3000 نسخة
  • أحكام إنسان المدينة غالبا ما تكون مشوشة نتيجة التوتر والازدحام
  • حركة الواقع فتحت أمامي طريق المعرفة فبدأت الكتابة
     في أدب الخيال كثيرا ما تأخذ صورة المجتمع المستقبلي شكلا ديكتاتوريا
     

 

  • كيف تفتحت تجربتك الأدبية من خلال علاقتك بالمكان? هل نعتبر أن الإبداع الأدبي هو إعادة بناء للتجربة الحياتية وإعادة صياغة لأسئلتها, لاسيما أن وراء كل عمل أدبي لديك تجربة واقعية?

          ـ إن بداية المعرفة التي فتحت أمامي آفاق الكتابة هي حركة الواقع, فقد استيقظ وعيي على فكرة الكتابة من مناخ مشرق ومتميز, في منطقة دمياط النيل, والبحر يحيط بها من زاوية ضخمة, ولا حدود لمساحتها. هذه الطبيعة ألهمتني نوعا من الجمال, أعطتني فرصة للتأمل والهدوء النفسي, ولقد خرجت من هذا المجتمع المثالي إلى القاهرة حيث عملت بالصحافة, ووجدت في القاهرة شيئا مختلفا ومضادا للإقليم الذي جئت منه, حتى في إيقاع الحياة وجدته مختلفا وأفزعتني الاختلافات, وقمت من أجل ذلك بسلسلة من الرحلات الصحفية لاكتشاف باقي أقاليم مصر, وبدأت الرحلات بشكل عشوائي وكان الهدف في البداية معرفة معالم المكان, والعناصر المشكلة له والتعرف على ملامح الإنسان المسالم الطيب الذي يعيش خارج القاهرة, واكتشاف الحقيقة عن هذا الإنسان, وعلى سبيل المثال, فليس صحيحا ذلك المثل القائل إن اليهودي لا يستطيع أن يعيش في دمياط بسبب البخل, فالبشر فيه معزولون, الناس يعيشون داخل المياه المفتوحة على البحر, وفرضت عليهم طبيعة المكان أن يكونوا متدبرين في معيشتهم وإلا مرت عليهم مراحل من الجفاف والفقر والاحتياج.

عوالم مختلفة

  • لماذا توقفت عند الصحراء وكتبت كتابا عنها ورواية?

          ـ أفادتني تجربة الرحلات التي تجوب أقاليم مصر في معرفة التنوع العجيب في الشخصية المصرية, ومعرفة التراث الثقافي الذي تمثله هذه الشخصية التي تمتزج في داخلها الفرعونية والرومانية واليهودية والمسيحية والإسلامية والتي تعبر عن نفسها باللطف والظرف والذكاء, وبالطبع قد أفادتني هذه الرحلات في كتابتي للقصة القصيرة وفي معالجة كثير من الشخصيات التي كتبتها, أما عن الصحراء فهي ليست غريبة عني لأنني خرجت منها, لأن الصحراء جزء من إقليم دمياط, وقد قمت برحلات للصحراء الغربية حتى السلوم, وما وراء السلوم, وهذه الرحلة جعلتني أكتشف أننا كنا نعيش في صحراء أخرى, فكل منطقة صحراوية تتميز عن غيرها من صحراوات العالم, فمثلا توجد في مصر ثلاث صحراوات: الصحراء الغربية والصحراء الشرقية وبينهما الصحراء الجنوبية, وكل منها مختلفة عن الأخرى, وقد قمت برحلة في الستينيات وزرت فيها الصحراء الجنوبية التي يحدثنا التاريخ عنها أنها كانت رغيف الخبز للإمبراطورية الرومانية, وهي صحراء شاسعة الامتداد لم تكن قد اكتشفت بعد, لأنها معزولة ومنقطعة ـ يقام بها الآن مشروع توشكا ـ أما الصحراء الشرقية فهي عالم مختلف تماما, تطل على البحر الأحمر ولها سلسلة من الجبال وغنية بالمعادن والخامات والبترول, وقد اكتشفت وأنا القادم من الوادي أن الصحراء خارج الخريطة الواقعة في زماننا ولكنها في الأزمنة القديمة كانت مطروقة ومعروفة لأن بها طريق الحج القديم إلى مكة بينما كانت الصحراء الغربية الامتداد الطبيعي للذهاب لأوربا والغرب وقد أثار اهتمامي ثقافة الصحراء وإنسان الصحراء.

  • كيف تكون ثقافة الصحراء منقطعة عن بقية أقاليم الوادي? وماذا عن إنسان الصحراء?

          ـ انحصرت ثقافة الوادي, وساهم البشر بهذا الحصار لأنهم لم يفكروا في الخروج من الوادي للصحراء, وقد ساهمت مقالاتي عن الصحراء الشرقية في اهتمام الدولة بسكانها وإمدادهم بأسباب الحياة. الطبيعة المصرية منكفئة  وليست متفتحة على الصحراء, أما عن إنسان الصحراء فأول انطباع يأتيك حين تراهم أنهم بشر قدامى يعيشون في هذا المكان من آلاف السنين, فهل هم أصل مصر?  أم يمثلون البشر الذين جاءوا إلينا من الهجرات القديمة? والسؤال الذي يطرحه المرء على نفسه حين يراهم: ما هي أصولهم الثقافية? حيث تجد فيها مزيجا من عادات فرعونية وجاهلية وإسلامية وتجد البدوي يقطع قطعة من شجرة ويصنع فيها فراغا يلائم وضع رأسه عند النوم وتكون بمنزلة وسادة وهذا ملمح ثقافي في الوحدة العضوية مع البيئة الطبيعية, وانظر إلى علاقته بالحرارة القاسية والتي تصل إلى درجة صعبة للغاية.

  • هل هناك علاقة بين الصحراء والتصوف?

          ـ إن إنسان المدينة غالبا ما تكون أحكامه مشوشة نتيجة للطبيعة المتزاحمة والمتوترة التي تحيط به من كل جانب, أو أخطاء النشأة أو الزلات أو الأخطاء ضد الآخرين التي قد لا يعيها الإنسان, والإنسان في الصحراء مختلف تماما, ونقي نقاء الطفل المولود. ويمكن أن تترك شيئا ثمينا في الصحراء وتعود بعد عشر سنوات وتجده كما هو في مكانه, وإنسان الصحراء لا يأخذ أي شيء لا يخصه, وهذا قانون عرفي يلتزم به, هناك التزام أخلاقي يعبر عن المكونات الأساسية للمواطن الصحراوي, وهو مؤمن بالقانون الطبيعي أن الجزاء من جنس العمل, وكل شيء له مردوده الأخلاقي وهذا جزء من الطبيعة المعيشة, وهو يتحرك في عالم به مخلوقات عجيبة حيث توجد العقارب والثعابين, وهناك قسوة تجعله يحتاط دائما وتكون أفعاله دائماً للخير نتيجة لوجود الخير والشر في الطبيعة, فالرمال تتحرك وتخفي آبار المياه, والطبيعة في هذا لا تقصد الشر ولكن هذه هي الحركة الطبيعية للأشياء, ويستلزم للإنسان أن يكون لديه حس صاف حتى يدرك أين توجد الآبار المطمورة للمياه, ولو كان مشوشا فإن غريزته لن تهديه, وحتى ينتبه من نومه حين يقترب منه عقرب وهو نائم, وأنا أسميه ضرورة الحس الصوفي في الصحراء وهو نوع من الإيمان بالطبيعة والتسليم لها, نموذج لتوحده مع المكان, وهناك أمثلة كثيرة تبين استفادته من المناخ القاسي, فحين يشتري خروفا فإنه يقوم بذبحه ويقطعه إلى قطع صغيرة ثم يفرده في الشمس على صخر البازلت من الصباح حتى المغرب فيصير لديه لحم شهي ناضج ولا يتعرض للفساد, وتصبح صالحة للأكل لمدة شهر, ويقوم بسلق البيض في الرمل, وهذا يمثل حالة من حالات الانتماء للطبيعة والتصالح معها وهذا كله ينتمي إلى الصوفية. ويمثل كتاب الصحراء لي فرصة التعرف على الصحراء والتعرف على إنسان الصحراء وتوصيل صوته إلى المسئولين, وساهمت كتاباتي في إنشاء محافظة البحر الأحمر وضمت لها الصحراء الشرقية, وأرسلت بعثات من وزارة الصحة لعمل وحدات صحية, وبعثات من التربية والتعليم لكي تقيم ترابطا بين سكان الصحراء والوطن وتنشيء المدارس, وتقضي على انعزال الصحراء بفعل قسوة الطبيعة. ولابد أن نتذكر أنه لم يكن مسموحا لأحد من المصريين بدخولها إلا بتصريح خاص قبل إتفاقية الجلاء مع البريطانيين لأنها كانت تابعة لسلاح الحدود, كان ينظر للصحراء على أنها مناطق خطورة ومناطق عدوان وتهريب, وكانت جيوش الاحتلال تقيم بها وقد ذهبت للصحراء عام 1963 وهذا وقت مبكر في اكتشاف الصحراء في مصر, ولذلك كانت لدي الفرصة لتقديم عالم الصحراء بكل ما فيه, وتقديم أشياء لم يسبق الحديث عنها, وساهمت شركة البترول والتعدين في تطوير مشروعات المياه في هذه المناطق, رغم أنها كانت تنقل المياه في الصهاريج التي كانت تنقل البترول.

الصورة الجمالية

  • صبري موسى كاتب له طبيعة خاصة في الكتابة, فالنص يقيم علاقة بين دلالته الخاصة ودلالة عامة تتمثل في هذا البعد الفلسفي الذي يغلف أعماله القصصية والروائية.. وهذا العمق الدلالي يستند في بنائه إلى الموروث الثقافي والأسطوري للمكان.. في مزج تركيبي يقدم رؤية معاصرة للوضع الإنساني في أشد حالاته تعقيدا, وينقل للنص أفكارا عميقة تختفي تحت سطح نص بسيط ومتماسك, وشاعري في كثير من الأحيان?

          ـ إزاء هذه الحركة في الطبيعة كان الأديب والكاتب المبدع يستفيد من الصور وأنماط البشر الذين أقابلهم, فالوقائع أمامي تأخذ شكلين: أولهما شكل المادة الصحفية التي يكون فيها اختلاف كبير بين الدفاع والهجوم إذا كان في هذا الواقع أي أخطاء من أجل تصحيحها والرد عليها, ولهذا كنت أقدم هذه المادة في شكل محايد, وثانيهما: الصور الجمالية في الصحراء التي تلهم الأديب في داخلي وكنت اكتشف شخصيات يمكن ألا تفيدني على المستوى الصحفي ولكنها تفيدني على المستوى الإبداعي, وتظل مخزونة وتؤرقني, فمثلا شخصية نيكولا البطل الرئيسي لرواية فساد الأمكنة مصدره الحقيقي مهندس تعدين من أصل روسي ومهاجر مع أسرته منذ أيام الثورة الروسية وطاف العالم وجاء مع شركة أجنبية تقوم بالتعدين بحثا عن مناجم الذهب والتلك, والألمانيت, وانتهى به الأمر أن يكون مهندس تعدين في جبل الدرهيب ينتظر تسليم المنجم بعد أن استنفد أغراضه ويلعب الشطرنج مع نفسه. وبقية ما قدمته في الرواية هو خيال يقوم ببناء الشخصية, وقد عشت معه ليلة كاملة وتعرفت إليه, وهذا الرجل الروسي الأبيض الذي لا علاقة له بالشيوعية كان في أشد حالات الفرح لإطلاق روسيا القمر الصناعي الأول لها وقد أعاد هذا إليه الشعور بالانتماء لوطنه, وهذه الأحداث جعلت لهذه الشخصية مكانا حميما في داخلي. وهناك تفاصيل في الرواية تعمدت التعبير عنها من دون مباشرة, فمثلا الإشارة إلى الملك فاروق في الرواية هي إشارة إلى مجتمع النصف في المائة, وكانت تذهب خيرات مصر إلى نصف في المائة من شعبها وهي إشارة إلى الارستقراطية المصرية التي كانت تتمتع بخيرات كل أماكن مصر بينما الغالبية العظمى من الشعب لم تكن تدري عن خيرات البحر الأحمر الطبيعية شيئا لأن هذه الارستقراطية كانت تمتلك القدرة على الحركة والتجوال في أقاليم مصر.

تجربة أمريكية

  • تجربة الكتابة عند صبري موسى ينبغي التوقف عند خصوصيتها لأنها نبعت من مشاهدات حية في الواقع مثل رواية (السيد من حقل السبانخ) كانت نتيجة رحلته إلى أمريكا وما أثارته هذه الرحلة في وجدانه وعقله?

          ـ لم تكن هذه التجربة الأدبية وليدة رحلة واحدة وإنما رحلات عديدة لأمريكا نتيجة لظروف خاصة, وقد  أتيحت  لي فرصة أن أشارك في (مدرسة الكتابة) في جامعة (أيوا) في الولايات المتحدة, والجامعة تشتهر وتتميز بمدرسة الكتابة أو ورشة الكتابة هذه.. حيث تقوم بدعوة خمسين كاتبا من أبرز الممارسين لفنون الكتابة من جميع أنحاء العالم والمعبرين عن الاتجاهات السياسية المتباينة في السينما والمسرح والرواية والصحافة, لنقل الخبرات بين الكتاب والطلبة من خلال الندوات والمحاضرات والمناقشات والجولات الحرة, ومن أشهر من تخرجوا في مدرسة الكتابة هذه كل الحاصلين على جائزة بوليتزر وقد مكثت بها ستة أشهر بصفتي كاتب قصة وسيناريو وصحفيا, عرضت هناك فيلم البوسطجي وفيلم رغبات ممنوعة الذي كتبت السيناريو له وهذه التجربة أغنت وعيي بكثير من المعلومات عن الحياة الأمريكية وعناصرها, وأتاحت لي الفرصة كي أتأمل المجتمع الأمريكي.

سؤال المستقبل

  • اهتم صبري موسى بسؤال المستقبل على نحو خاص, فقد كتب روايته سنة 1980 في حين تصاعد الاهتمام بالمستقبل وعلومه في واقعنا العربي بعد ذلك بفترة طويلة وتبدو الرواية وكأنها كتبت اليوم, ولذلك تعتبر الرواية نبوءة عن عصرنا وما يكتنفه من قضايا, متى بدأ الاهتمام بالمستقبل وأسئلته وهل ترى الرواية تنتمي إلى أدب الخيال العلمي أم تنتمي إلى الأدب الذي يثير أسئلة عن الإنسان المعاصر?

          ـ الرواية كانت وليدة تجربتي في المجتمع الأمريكي وهو مجتمع الوفرة الذي أنجز وساهم في تطبيق جميع المخترعات في تاريخ البشرية واختراع الإنترنت, أقوى الشبكات للمعلومات في العالم, وجدته صورة من المستقبل الذي تتجه إليه البشرية, لأنه حقق كل الآمال والرغبات للإنسان. ورغم أنه مجتمع ديمقراطي ولديه هذا القدر من الحرية فإنه أكثر المجتمعات تضييقا على الفرد, لأن إحساس الفرد بالمسئولية والقانون صارم, وهذا يعني أنه لا توجد رفاهية من دون حدود ولا توجد حرية من دون حدود, وماذا يحدث للبشر حين يتحقق لهم مجتمع الرفاهية الكاملة, والحرية المحدودة بالالتزام تجاه الآخرين? وما هي صورة هذا المجتمع?

          في أدب الخيال العلمي دائما ما تجد أن صورة هذا المجتمع المستقبلي هي المجتمع الديكتاتوري الذي يسعى إلى غزو المجتمعات الأخرى وروايتي ضد هذه النظرة في أدب الخيال العلمي, لأنني أعرض لصورة المستقبل وأنطلق من المأزق الذي تواجهه الإنسانية الآن بعد سلسلة من الأخطاء التي وقعت فيها البشرية القديمة وجعلت الأرض كوكبا غير صالح للسكن نتيجة سوء التعامل مع الطبيعة. وفي الرواية أصور البشر يعيشون في غلاف زجاجي بعد أن استنفدوا كل شيء في الأرض والرواية تعرض لفكرتين عن الأرض, الأولى تنتمي إلى الفكرة القديمة عن الأرض وتمثل الحرس القديم للطبيعة, الذين يريدون إصلاح الأرض وجعلها صالحة للسكن, والثانية ترى أنه ينبغي البحث في الفضاء عن كوكب آخر يصلح للحياة, والاتجاه الأول يريد العودة بالبشرية إلى الوراء, لأن الظروف الطبيعية تدفعنا إلى اكتشاف آفاق الكون والفضاء.

  • تشير تجربة صبري موسى الأدبية إلى نسق ثقافي يهتم بعلاقة الإنسان بالمكان ابتداء من (حادث النصف متر) و(مشروع قتل جارة), إلى (فساد الأمكنة) و(السيد من حقل السبانخ), وعبر هذه الرحلة ينتقل من الهم الاجتماعي إلى الهم الوطني إلى الهم الوجودي والأسئلة الكبرى التي تشغل الإنسان في عصرنا الراهن, فكيف يرى صبري موسى رحلته الإبداعية ومسارها وكيف تغيرت أسئلته عبر كل مرحلة, وهل هذا نتيجة تنامي التجربة الذاتية والتحولات الاجتماعية التي مر بها الوطن?

          ـ المدينة بطبيعتها ضاغطة وخانقة وفي نفس الوقت تتيح الحرية التامة, فحين تسير في القاهرة لا تشعر أن هناك أحداً يشعر بك ويمكن أن تصنع ما تشاء, بينما يشعر المرء في مدينة الإقليم الصغير بالأمان والاستقرار لأن الناس يعرف بعضهم بعضا وكل ما تفعله يعرفه أهلك.

          هذا الشعور بالتناقض بأنك حر وفي نفس الوقت مقيد يخلق نوعا من الاضطراب في الشخصية والرؤية, وإذا طبقنا هذا على موضوع شديد الحساسية مثل الجنس, فقد عالجت هذا الموضوع في (حادث النصف متر) (1961) فالبطل ينظر بنصف عين إلى غرائزه وينظر بالنصف الآخر إلى قوانين المجتمع لكي يقيم نوعا من التوازن, مما خلق حالة من النفاق المتفق عليه, فالمجتمع يغفر ما لا يعرفه عن الفرد, والفرد حر في أن يفعل أي شيء بعيدا عن أعين المجتمع, والقصة تنقد هذه الحالة من النفاق, وتسخر من الوهم المسيطر على الشباب العربي الذي يريد للفتاة التي يرغب في الزواج منها ألا يكون لها تجربة سابقة بينما هو تكون لديه تجارب عديدة, فكيف يجد فتاة من دون تجارب في هذا المجتمع?

          هذا السؤال لا يطرحه الشاب على نفسه, ويتصور الفتاة التي تزوجها هي الاستثناء الوحيد في هذا العالم!

          والغريب في الأمر أنه كلما طبعت هذه الرواية (طبعت أكثر من عشر مرات) تلقى رواجا, هل لأن الموضوع لا يزال مؤثرا في الواقع, وصورت في فيلمين أحدهما مصري والآخر سوري, لأنه لا يزال النفاق سائدا, وأرى أن جزءا كبيرا من تعطلنا يرجع إلى انشغالنا بهذه الأوهام الجنسية, وهذا لا يمكن أن يؤدي إلى النضج العاطفي في عالم اليوم الذي استطاع فيه الإنسان أن يشق الطرق السريعة ويغزو الفضاء, ولعلك تلاحظ أن الأبواب في مدينة المستقبل كما في رواية (السيد من حقل السبانخ) في سطح المنزل, لأن المواصلات سوف تكون كلها فضائية, وتطوري من قضية إلى أخرى نتيجة لاطلاعي على النظريات العلمية واستنباط النتائج المترتبة عليها, وقد أفادني الاطلاع على كثير من المجلات العلمية التي كانت تبشر بالحديث عن النظريات التي كانت محل بحث, والخطأ الذي وقعت فيه أنني كنت أتصور أن هذا سوف يحدث بعد مائتي سنة وقد حدث بعد بضع عشرات من السنين فقط, بما يؤكد أن الإنذار الذي تقدمه الرواية أصبح حتميا لأن عدوان الإنسان على الطبيعة قد بلغ حداً أصبح يهدد الإنسان والحياة الإنسانية.

  • ما رأيك في المشهد النقدي العربي وهل ترى أنه ساهم في تنمية الإبداع والكشف عن أسئلته أم أن النقد العربي المعاصر يقوم بتبرير النصوص وليس تحليلها?

          ـ من الدراسات النقدية التي توقفت عند أعمالي استفدت كثيرا, وأنا احترم النقد وأميل إلى قراءته والاستفادة منه, والنقد ضرورة ثقافية مهمة لأن الناقد خالق أيضا, وكثيرا ما أتوقف عند النقد الذي يلتفت إلى أشياء جديدة لم أقصدها, والنقد يوضح لي التفسير العلمي لكثير من القضايا.

أم الفنون

  • لك تجربة مع السينما العربية من خلال إعداد السيناريو لأفلام مثل (البوسطجي) و(قنديل أم هاشم) و(الشيماء) وتشترك بذلك مع نجيب محفوظ في كونك أديبا تتعامل مع السينما, لماذا لم تستمر تجربتك مع السينما العربية رغم أنها وسيط فني واسع الانتشار, وكيف ترى السينما العربية اليوم. وماذا أضافت السينما إلى تجربتك الأدبية?

          ـ دعنا نبدأ من طريقة فهمي للسينما, فهي أحدث الفنون وإذا كان المسرح هو (أبو الفنون فإن السينما هي أم الفنون), وكانت تعتمد في البداية على التصوير المسرحي, وبدأت تؤلف لنفسها, وجوهرها الحقيقي الصورة وأقرب الفنون لها بالفعل هو الشعر والقصيدة لأنها تعتمد أيضا على الصورة. وهدف السينما هو تقديم الفيلم القصيدة, ولكن التجار حولوها إلى مجرد صناعة وقضوا على الطابع الفني لها وهذا ما أخر مسيرة السينما وحوّلها تجارة, وأنا ربيت على جمعية الفيلم التي كونها يحيى حقي, وحرصنا على أن نرى جميع التجارب السينمائية في العالم من خلال السفارات الأجنبية في القاهرة مثل أفلام الموجة الجديدة في فرنسا وإيطاليا وأفلام الواقعية الأوربية, وهذه الأفلام لم تكن تصمد في دور العرض أكثر من أسبوع لأن الجمهور تعود على نمط تقليدي من الأفلام التي تقوم على الحدوتة والنهاية السعيدة وتبتعد عن الفن والواقع, وحاول المنتجون العرب إرضاءه, وقد مارست التصوير السينمائي كهواية من خلال كاميرا 8 مللي, ومارست المونتاج أيضا وأذهلني أن إعادة ترتيب الصور تقدم حكاية مختلفة دائما مثل الشعر فإن إعادة ترتيب الجمل تعطي أحاسيس ومشاعر مختلفة, وحين اشتغلت في السينما اصطدمت تجاريا مع المنتجين الذين يقومون بالاتفاق على هذه الصناعة الملكفة ماديا. وقد حاولت ترويض الأحلام الشعرية السينمائية للواقع, فقدمت بعض الأعمال التي تحاول التخلص من عيوب السينما في ذلك الوقت, وتقديم الفيلم القصيدة في فيلم البوسطجي فتجد فيه حسا ملحميا, ولابد أن تعرف أن الأديب يكون سيد العمل وهو يكتب الرواية بينما وأنا أكتب السيناريو لا أكون سيد العمل وإنما مجرد فرد في منظومة كبيرة يشترك فيها المخرج والبطل والمصور والموزع وغيرهم, كل واحد منهم له رأي غالبا ما ينتصر على كاتب السيناريو, وبالتالي يتم تعديل كثير من الرؤى في عشرة أفلام قمت بكتابة السيناريو لها, فمثلا فيلم (قاهر الظلام) عن طه حسين تحول إلى موضوع آخر, فالمخرج حذف المعركة الفكرية والسياسية التي خاضها طه حسين, ولهذا طالبت أن يتم تعديل عنوان الفيلم إلى (الأعمى والحسناء)! والسينما هي المدرسة التي يتعلم فيها الشعب الجمال والنظام والمحبة لو توافر لها نوع من الوفاق بين التجارة والفن.

  • هل ساهم عملك في الصحافة في تنمية تجربتك الأدبية?

          ـ الحقيقة أنني استفدت من العمل الصحفي لأنه أتاح لي الفرصة للحركة والرحلات وتدريب الوعي على الالتقاط السريع لجوهر القضايا, والتخلص من الإطناب في الأسلوب وأصبحت أستطيع تقديم الشخصية من خلال اللمسات السريعة التي تشبه عمل فرشاة المصور, لتصوير أهم الملامح التي تعبر عن الشخصية التي أريد تقديمها في النص الأدبي.

  • ماذا تريد من الإبداع العربي اليوم وسط التحديات التي يواجهها العرب? وكيف تراه?

          ـ سوف أتحدث عن جانبين من الإبداع العربي من حيث الحجم والمساحة أو القيمة والحجم, ومن ناحية القيمة أنا أرى أن في الإبداع العربي اليوم كثيرا من الطاقات الإبداعية التي تكتسح أمامها الإبداعات الغربية الحالية التي كنا نفخر بها, ومواهب شابة جديدة أطلع عليها من خلال التحكيم في كثير من المسابقات وتذهلني هذه الإبداعات الجديدة في مقدرتها الأدبية وشجاعتها والبعد الفني النفسي والمعرفي الذي تمتلكه الأجيال الجديدة, وهذا ليس خاصا بالأدب المصري فحسب, وإنما ينطبق أيضا على الأدب العربي الذي تمكنني ظروفي من الاطلاع عليه, والمواهب الجديدة في العالم العربي تبشر بكل الخير, ولابد أن أشير إلى تقلص حضور الإبداع العربي لدى رجل الشارع, فكم قارئاً مصرياً يقرأ للأديب المغربي أو السوري أو العراقي وكم قارئاً عربياً من البلدان العربية يقرأ للكاتب المصري الآن?

          العالم العربي مليء بالحواجز التي تعوق وصول الإبداع العربي لجمهوره العربي, وقلة من القراء, فلا يعقل أن يكون تعدادنا 200 مليون ويتم طبع ثلاثة آلاف نسخة فقط ولا يتم توزيعها, وهذا ما يحكم على الإبداع العربي بالجمود.

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات