ملف: تشكيليات عربيات ثائرات: أشرف أبو اليزيد

ملف: تشكيليات عربيات ثائرات: أشرف أبو اليزيد

ما الثورة في الفن التشكيلي؟ أليست هي المناداة بالتغيير، والسعي إليه، والعمل على تحقيقه؟! أَنظرُ إلى أعمال التشكيليات اللائي اخترتهن فأسمِّيهنَّ ثائراتٍ، وقد أرادتْ كلّ منهن أن ترسم طريقًا مغايرًا لريشتها، وأن تجدد في طرائق التعبير، حتى حين تخرجُ عن إطار اللوحة التقليدي، معبرة عن ذاتها ومفسرة لقلقها بأعمال فنية وكتابية، قد تستلهمها من تراث أمتها، أو تستخلصها من نتاج رحلتها. لهذا تصبح ثورة كل منهن علامة على رحلة الفن، تلك الرحلة الساعية دائما للاكتمال، عملاً بعد آخر، ومرحلة بعد سواها.

من معطف الرفض لأسْر القوالب الجاهزة، تخرج الصرخة المنادية بالحرية والتنوير والتجديد. هنا يبرز دور الفن التشكيلي في ألا يكون مجرد زخرفة واهية لحياة لاهية، بل هو جزء أساسي في الحوار مع المجتمع، لا ينفصل عنه، ولا يتنصل من قضاياه، ولا يغترب عن همومه، دون أن يقع في فخ المباشرة الضحلة، والخطابية السطحية.

فالفن الحقيقي ليس منشورًا دعائيا أو سياسيا، ولا هو مجرد عمل يستجيب لأوامر فوقية رسمية وأيديولوجية، بل هو ـ ودون مبالغة ـ يصنع خطابه من داخله، ويعيد تشكيل المجتمع في إطاره، ليتحرك بعد ذلك الفعل المجتمعي خارج هذا الإطار بين الجموع التي يحرضها الفن.

تشعر الفنانة التشكيلية بالقلق الفائر في صدور بنات وأبناء مجتمعها، لأنها تعيش وتتفاعل معهم، فتنقل هذا القلق إلى فضائها الخاص، إلى أعمالها التشكيلية، بل إلى حياتها برمتها.

كان يمكنُ أن أسمِّي تشكيليين عربًا مع من اخترت من التشكيليات العربيات، ولكنني أردتُ، في هذه اللحظة الفاصلة من تاريخ المجتمعات العربية، أن أقرأ الراهن في ضمائر فنية أنثوية، لأننا نعيش تناقضات لا حصر لها:

ففي حين تكثر فضاءات الفن التشكيلي بالعالم العربي التي تعرض نتاج هذا الفن، وتقيِّم تجاربه، وتثمن أعماله، وتضيء مسيرة الفاعلين فيه، وتخصص له المهرجانات، والملتقيات، والمسابقات، والجاليريات، والمزادات، في هذا الوقت بالتحديد، تتصاعد دعوات ضد الفن التشكيلي لتهمش دوره، وتقلل من شأنه، بل وتتجرأ لتسائل عن شرعية وجوده.

لذلك يكون دور الفنانة التشكيلية العربية مزدوجًا ومضاعفا وحاسمًا؛ في أن تنتصر ـ أولا ـ للفن التشكيلي، وأن تنتصر - كذلك - لذاتها الأنثوية في المجتمعات العربية، فهي المرأة التي شاركت الرجل في رسم قيم التغيير السياسية والاقتصادية والمجتمعية لأوطانها، وخاصة بين الأجيال الشابة، وبالتحديد في أتون ثورات الربيع العربي، كل ما علينا هو أن نؤمن بدور المرأة، وقيمته، وألا نَصِفه - تساهلا أو تجاهلا - بما ينتقص منه.

لا أدعي أني آتي بجديد حين أذكر أن التاريخ التشكيلي ـ العالمي والعربي ـ هو تاريخ ذكوري بامتياز، فهناك ندرة في عدد النساء التشكيليات ممن ذكرتهن المراجع المؤرخة للفن، مقابل من ذكرتهم تلك المراجع من التشكيليين، لهذا جاءت ثورة التشكيليات العالمية كجزء من الحركة النسوية، وكانت حركة التشكيليات التي ارتبطت بالفن النسوي قبل أربعة عقود هي دعوة إلى تغيير في ماهية الفن التشكيلي ذاته، بأن تحول تلك النظرة الذكورية للفن التشكيلي على أنه عالم خاص بالرجال لا تحتل فيه المرأة سوى كرسي الموديل!

والواقع أن تلك الدعوة الطوباوية سرعان ما تواضعت، لأن الحقيقة التي أثبتت ذاتها هي أن الفنان التشكيلي - رجلاً كان أم امرأة - يعبر أولا عن إنسانيته أكثر من تعبيره عن نوعه وجنسه. لذلك نحن نتحدث اليوم عن مرحلة ما بعد النسوية في الفن التشكيلي حيث لا فرق بين تشكيلي وآخر إلا بما يقدم، ولعلي أستعير تعبير الناقدة لوسي آر. ليبارد؛ «لم يكن الفن النسوي أسلوبا أو حركة، لكنه كان نظاما قيميا ونهْجًا ثوريا وأسلوبا للعيش».

هكذا، لم يكن (الشكل) هو الثوري، بل (المحتوى)، وعلينا أن نبحث في أعمال الفنانات العربيات عن أيقونات الثورة، وملامح التغيير، بمقاربة هذا المحتوى، وهذه الخيارات هنا ليست موسوعية ولا انتقائية ولا أفضلية، فقد اخترتهن لأنني اقتربت من تجاربهن، ولأن قاسمًا مشتركًا يكاد يبين بينهن، حيث تتجلى المرأة موضوعًا لدى أكثرهن، ولذلك أومن أن اختياراتي يمكن ـ لاحقا ـ أن تتجدد، وتتمدد خريطتها بطول عالمنا العربي، فالجغرافيا في السطور التالية دالة كإشارات على طريق الفن التشكيلي الطويل. هذه أول الرحلة، والرحلة كالثورات.. مستمرة.

آمنة النصيري
قلقة، ثائرة، وحالمة

أنْتقلُ من السوق المزدحمة أمام (أتيليه صنعاء)، حيث كان المرسم المشترك القديم للفنانة التشكيلية اليمنية آمنة النصيري، مع زملائها في (جماعة الفن المعاصر)؛ التشكيليين طلال النجار وريما قاسم ومظهر نزار، إلى ذلك الطريق المتسع الذي يقودني إلى مرسم خاص بها اتخذت له اسمًا: كون.

هذا الكَوْنُ الجديد لا يعكس رغبة التشكيلية العربية في الاستقلالية، وحسب، بل يقدم صورة لهاجس التغيير الذي تتبناه، فقد أقامته - كما تقول - للارتقاء بالفنون التشكيلية اليمنية وتوسيع دائرة الاهتمام بقضاياها، ومواكبتها للتطورات العالمية، تقنيا ونظريا، والإسهام في تنمية الذائقة البصرية وسبر مكامن الجمال في الفنون، وإدراك تنوع أشكالها، ومضامينها، وقيمها الجمالية والتقنية.

حياة كاملة للابداع عاشتها آمنة النصيري، بدأت بالسرد ونشرت عددا من قصصها، ثم كرست حياتها فيما بعد للفن التشكيلي. لا ترسم آمنة النصيري وحسب، ولا تفتح فضاء (كون) لتجربتها فقط، بل إن دورها المحوري ـ كتشكيلية يتخطى الذات إلى إتاحة (كون) لعرض وتقديم تجارب أخرى، وفنون وآداب مغايرة بالمثل، كالقراءات الشعرية على سبيل المثال.

كما أن دورها كأستاذة جامعية، حاصلة على الدكتوراه في فلسفة الفن التشكيلي (موسكو 2001 حول القيم الفنية والجمالية في فن التصوير الإسلامي) يتماس مع خطى الدور التنويري لآمنة النصيري، الذي عبر عن نفسه ببرنامج تلفزيوني قدمته خلال دورتين عام 1998 بالقناة الفضائية اليمنية وكتب تشكيلية أصدرتها، سواء لمقالاتها المنتخبة مما نشرته عن الفن التشكيلي بالصحف والدوريات، أو المشاركة برسم كتب أدبية.

تقول آمنة: «العمل الأكاديمي يجتزئ وقتا وجهدًا كبيرين، وعلى الرغم من أنني أشعر دومًا بالحاجة للمزيد من الفضاء الزمني لممارسة الرسم، إلا أن عملي مع الطلاب يحقق لي أيضا بعض الرضا، لأنني ـ أولا أعمل في القسم الذي بدأت فيه دراستي الجامعية (الفلسفة بكلية الآداب)،وكوني بالتالي بين أساتذتي. أضف إلى ذلك الارتباط الوثيق بين الفلسفة والفنون، وهو ارتباط يمثل رأبا للصدع بين ممارسة الإبداع والعمل الأكاديمي».

كما تجد آمنة النصيري في العالم الداخلي الذي شكلته التراكمات البصرية والفكرية المختلفة نبعًا مهما لمصادرها، ويشكل صندوق الذكريات جزءا اصيلا في ذلك العالم، الذي تحاول إثراءه دائمًا بما تكتسب من خبرات وتجارب. وهي تشعر دائمًا بأن النص تعبير دقيق عنها وعن مختلف التحولات التي تمر بها، فالنص التشكيلي هو رؤيتها التي لا تجيد كتابتها لأنه يتمثل بعض ما ينأى عن فهم ووعي الفنانة والإنسانة.

بدأتُ ألتقطُ لآمنة النصيري بعض الصور لها في مرسمها الجديد، بين أعمالها الحديثة، وهي تحدثني عن تجربة التصوير التي قدمتها في معرض أثار الكثير من الجدل.

قلت لنفسي وأنا أستعيد اليوم مشاهد تلك الأعمال التحريضية المصورة التي رأيتها آنذاك؛ لو أن هذه الأعمال تعرض الآن لقلنا أنها تعبير عن حراك المرأة في الثورة اليمنية الجديدة، لكنني كنتُ أزور آمنة النصيري قبل شهور من انطلاق تلك الحركة الاحتجاجية التي شاركت فيها النساء بقوة وكللت باختيار توكل كرمان بين ثلاث نساء فزن بجائزة نوبل للسلام العام الماضي.

ألم يكن ذلك هو التعبير الرائع والصادق على أن الفنان يتنبأ بقدر ما يلتحم بقضايا الأمة؟ هنا لا يصبح الفن مجرد نبوءة، بل يمثل فعلا تحريضيا على الثورة. نساء آمنة النصيري في أعمالها الفوتوغرافية كن يرسلن ـ من تحت برقع العجز وحجاب الحصار ـ صرخة التحدي، فاستمع الشعب لهذه الصرخة. التمرد الذي جعل المحجبات والمنقبات اليمنيات يقمن حياة كاملة في الميادين، وهو رسالة مفادها أن خباء المرأة لا يخفي قدرتها على الثورة، ولا يحجب قضاياها عن التعبير، ولا يشل قدرتها على التغبير.

أعمال آمنة تتجدد، لكن خيطا مثل شريط الحياة يمثل رابطا بين ما رسمته وما سترسمه، إنه ذلك المنهل من أيقونات وموتيفات بصرية محلية سافرت معها في كل عواصم العرب والعالم أينما أقامت وعرضت، وهي رموز ثائرة، تتحرك في فضاء قلق، يبحث عن لغته باللون حينا وبالحبر حينا آخر وبوسائط متعددة حينا ثالثا، إنه قلق فنانة تشكيلية عربية ثائرة، وحالمة أيضا.

غادة الكندري
رصاصة خضراء جميلة

«اسمي غادة الكندري. أنا فنانة من الكويت ومُدوِّنة طموح. لم أدرك ذلك أبدًا إلا حين بدأت مدونتي (الإلكترونية) في أبريل (2010)، ليتأكد لي أنني ـ كذلك ـ كاتبة يوميات وعارضة، إذ تبدو المُدوَّنة بالنسبة لي معرضي الواقعي والخاص. بل أصبحت فضائي الذي أتشارك من خلاله بأفكاري ومشاعري مع أي إنسان يشاء التوقف عندي والإصغاء لي. في وطنٍ يتشظى فيه المفكرون والفنانون (والفنانات)، أحب فكرة وجود حفنة من البشر في مكان ما، يستطيعون الوصول إلى عالمي. أما مهنيا، فقد عرضت وبعتُ أعمالي محليا ودوليا، كما أنني ألحُّ على كوني مؤلفة ورسامة كتب للأطفال، وبالرغم من أنني رسمت في السابق بعضا من كتب الأطفال لمؤسسات ولكتاب آخرين، فهناك دائمًا كتاب بدأته منذ سنوات، وهدفي أن أنجزه، وربما سأفعل ذلك يومًا ما».

كنتُ دائمًا شغوفا بالاستماع إلى صوت الفنان. يومياته ومذكراته. الفنانون الكبار لديهم سير ذاتية مُعلِّمة وكاشفة. وحدثت المصادفة، ذات مساء في مطار الكويت، حين كنت أنتظر رحلة جوية. كالعادة، ستأخذني قهوتي المفضلة إلى محل أقرأ به مجلة يكتبها الشباب العرب والأجانب باللغتين العربية والإنجليزية، بإيقاع يتسق مع روح المرحلة العُمرية الدافقة والأسواق الأنيقة؛ تتسم به مجلة (بازار)، وكانت المفاجأة التي أسعدتني هو أنني عشت وقتا ممتعا مع حوار باللغة الإنجليزية، اختارت فيه كاتبته ـ الفنانة التشكيلية غادة الكندري ـ أن تقدم أسئلة وتعقيبات من زوار مدونتها، التي بدأتها منذ أكثر من عام، وأن تجيب وتعلق عليها، حتى أنها كانت، أحيانا، تسأل نفسها وتجيب علانية: إنها الروح التشكيلية الثائرة لفنانة لا تُكثر الكلام، ولكنها تعرف عبقرية البوح المُدوَّن. اخترتُ في السطور الأولى الخاصة بها أن أعرِّفها كما أحبَّتْ، ورغم رؤيتي لأعمالها في معارض مختلفة، إلا أنني سأميل إلى أن أتجول في الفضاء الإلكتروني الذي أعده معادلا موضوعيا للثورة الكامنة في الأعمال التشكيلية للفنانة العربية، هذا الفضاء الذي أسمته غادة الكندري (رصاصة خضراء جميلة)، لتضع المتناقضات الواسمة لمجتمعاتنا العربية، وللعالم الذي اختارت أن تقدمه للمتلقي.

بين مولدها في الهند، وتخرجها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عالم من السفر، تجوب الدنيا بصحبة والدها السفير الكويتي، وحين تقدم معارضها الأولى بالكويت تجد العيون المدربة تلتقط ذلك الحس الجديد في الفن التشكيلي.

الملمح الأول هو ذلك الغزل الدقيق والمطرز لعالم النساء. عالم حميمي فائق الخصوصية، بما به من ملذات دنيوية، ومشاحنات أنثوية، وروتين يومي، ولغة ملونة، وجسد متخم بالراحة يرتكن - وإن وقف - إلى فضاء اللوحة بثبات، فضلا عن عالم الأسرة ـ أطفال وطقوس وخلافهما ـ هكذا استطاعت غادة الكندري أن تقدم المجتمع النسائي على نحو أكثر صدقا واكتمالا.

والملمح الثاني هو النبوغ الأكاديمي لغادة، ليس فقط بامتلاك ناصية تشريح الجسد الإنساني، من زاوية جديدة، تختزل فيه المرأة إلى خطوط قوية معبرة، وتتحول به ثيابها - وبكثير من التفاصيل اللماحة - إلى موتيفات آسرة، وتظهر وجوهها مثل علبة تجميل مبتكرة، بل إنها حين تستعيد ذاكرة ألعاب شعبية كويتية ـ وهي شابة، فربما تكون شاهدت عنها أفلاما، أو حكت لها الأمهات والجدات عنها ـ أراها تقدم ذلك العالم بلغة جديدة غير مملة تتحرك بقوة، ليبقى عالمها مثل قطار يعبر الصحراء حاملا آيات البهجة المرحة، إنها طفرة في تقديم الفضاء الشعبي الكويتي.

الملمح الثالث يتجسد في الحميمية الفائقة بين الفنانة والمتلقي، ستتابع ذلك في رسائلها (الخاصة)، والتي لم تعد كذلك، بعد أن استطاع زوارها أن يتشاركوا معها بقراءتها! أصبحت البنت الكويتية الصغيرة التي كانت ذات يوم تأخذ ركنا قصيا لترسم في زاوية من البيت، كما تقول أمها، هي نفسها الفنانة الكويتية - بمشاعرها الطفولية العفوية - التي تكتب في زاوية إلكترونية، لكنها تسمح لنا بالتنصت عليها، واختلاس النظر. الفنانة تريد التعبير والتغيير، ولا يأتي ذلك إلا بالمشاركة مع مجتمع أكثر اتساعا، ولهذا فإن أعمال الكندري تختلف أحجامها، فهي تخرج إلى المعارض بأعمال كبيرة، ولكنها تدون في كتيبات صغيرة يومياتها، الطريفة، والجريئة، التي تدخلها ببراعة إلى عالم الرواية الجرافيكية، لأنني أعتقد أنها ستكون أول تشكيلية عربية تقدم هذا الفن بنجاح إذا وضعته كمشروع أمامها، مثل مشروعاتها الكثيرة التي تخطط لها ـ لفترة تصل إلى عقد كامل ـ قبل أن تنفذها.

الملمح الأخير ـ هنا ـ هو اهتمامها بالطفل، وهي كأم أصبحت أكثر وعيا بحاجة أطفالنا العرب إلى وجبات بصرية في مقابل الواجبات المدرسية، رسمت غادة الكندري سابقا - كما أشارت - قصصا أصدرتها الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية مثل (جدتي دلال والالعاب)، و(عفاريت من صنع البشر)، و(في محل الالعاب)، لكنها تريد أن تصوغ عالمها الخاص ـ بالكلمة والرسم، بالحرف واللون، معًا.

تقود الفنانة التشكيلية غادة الكندري ثورة صامتة، لكنها مؤثرة، وهي ستصل برسالتها، لأنها رصاصة خضراء جميلة، كما يقول عنوان مدونتها.

فاطمة الحاج
بستان موسيقى الفرح

تقف الفنانة التشكيلية فاطمة الحاج في قلب مثلثٍ نقاطه الأكاديمية الفنية الثلاث هي جامعات بيروت وموسكو وباريس، حيث درست الفن وتخصصت به، حتى أصبحت أستاذة له، لكنها وهي تخاطب اللوحة ـ وتخاطبنا ـ تترك هذا المثلث، بعد أن أتقنت أدواته، لتحلق حاملة رسالة الطبيعة اللبنانية، ببهجتها وسخائها، إلى العالم كله، فتخرج من الفضاء الأكاديمي الرصين الذي تؤدي دورها فيه، إلى فضاء اللون الأكثر رحابة، وتلقائية، أليست تقول «أنا فاطمة الحاج الفنانة الطفلة التي تجسد البراءة والشفافية»؟

تبدو أعمال فاطمة الحاج احتجاجا على العالم المصنع والمعولب والجاف والصلد والقاسي والعنيف، لأنها تبحث عن عكس ذلك كله. هذا الاحتجاج المعزوف يقدم مثل سيمفونية لا تمل التكرار، لأنه تكرار غير مستنسخ، فرغم واحدية الموضوع، يتعدد التناول، لأن العين تحلم، والريشة واللون يجسدان هذا الحلم، الذي يأبى على التأطير (تقدم أعمالها بدون إطارات)، لأنها لا تريد للطبيعة المنطلقة العفية والحرة أن تحبسها خطوط قسرية.

بعد يوم عصيب، ضائع بين ضجيج الطريق، وتائه أمام إرهاق مفاتيح الكتابة الإلكترونية، ومرهق بسبب نزق البشر وجنونهم الطاغي وسلوكهم الخشن، لا يبحث المرء إلا عن واحة عذراء وأرض لم تمسسها يد الأسمنت: هنا يبدأ عالم فاطمة الحاج وتخومه الخضراء.

إنها رسالة تدعونا للحفاظ على ما تبقى من إنسانيتنا وفطرتنا وخلقنا الأول، قبل أن تلوثه الميكنة، بغدرها الكتوم والمعلن. قبل أن نتحول نحن إلى آلات، لهذا تبدو لوحات فاطمة الحاج مثل وصفة طبية من أجل أن نشفى، وأن نسترد إنسانيتنا، أو بعضا منها. إنها عودة لرحم الطبيعة البكر، أمنا الأرض، قبل أن يساء إليها، وما أكثر ما أسأنا!

فاطمة الحاج، بين حدائق النفس، ورياض الروح، عالم من التخييل اللوني، بحث عن عوالم طوباوية مفقودة، توثيق لمشاهد تنام في ذاكرة عاشقة للطبيعة، وكما نكرر: رسالة احتجاج من طبيعة ثائرة.

حين نرى لوحات فاطمة الحاج قد يدلنا ذلك على طبيعتها الشخاصية الهادئة، لكن عليك أن تتمهل لتصغي إليها في مؤتمر أو نقاش لقضية تشكيلية، حيث يتحول هذا الكائن الآسر بهدوئه إلى محيط هادر، لأنها تدافع باستماتة عن أفكارها، وهي أفكار ضد النزعة الاستهلاكية التي باتت تطحن الكثيرين.

تثور الحاجُ وهي تقارن بين الأمس واليوم، كيف كنا حقيقيين فأثرنا في العالم كله، واستلهمت الإنسانية حضارتَنا الإسلامية، في الطب والفلسفة والعلوم والفنون، ولكن التحريم والمنع يوازي نير الاحتلال.

أتفق مع الفنانة الكبيرة لأننا إذا كنا نريد أن نسترد هويتنا الحقيقية فعلينا أن نحمي ذواتنا وأصالتنا وإنسانيتنا من العسكر، عسكر الخارج والداخل، الذين يبقى هدفهم واحدًا؛ وهو إبقاء الجهل والجهالة، وهو أمر يحتاج إلى نفوس تتأبى على الذل والخنوع، نفوس ثائرة، ونحن نردد مع فاطمة الحاج «عندما نتوقف عن انتظار اعتراف الآخر بنا، ونعترف أولا بأنفسنا، نكون قد بدأنا أولى خطوات التقدم باتجاه الآخر وليس وراءه، بشخصيتنا الحالية، وليست الماضية وكأنهم هم الأحياء ونحن الأموات، وكأن الفرعوني والقبطي والإسلامي هو الحي، أما العربي فهو ميت».

لا تكاد تميز البشر في لوحات فاطمة الحاج، فهم جزء من الطبيعة، حتى لكأنهم يذوبون فيها. إنهم كائنات خضراء تعيش في حلم لوني.

يعزفون نوتة موسيقية على درجات اللون. وكأن البشر هؤلاء ذكريات تتداعى إلى تلك الأماكن الفطرية، وكأن سحابات البشر الهائمة الشفافة حضور غائب. ولم لا، والبشر اليوم مشغولون باقتناء منازل إلكترونية، وحدائق خرسانية، بعد أن أصبح الإنسان مجرد شريحة في جهاز إلكتروني كبير تلهو به التكنولوجيا. حين يعود البشر إلى إنسانيتهم ستجدهم هنا في حدائق النفس، ورياض الروح، يعزفون على عود الطبيعة أنغامهم التي ترقص على إيقاعها كائنات حية نراها أو لا نراها.

حين ترسم، تخرج فاطمة الحاج محلقة خارج مثلثها الأكاديمي، لتهبط في مثلث آخر، غير حاد الأبعاد، ولا تحدده الإطارات، قوامه الطبيعة والموسيقى والإنسان. لهذا تأتي ثورتها حاملة أيقونات لونية تعيد صياغة عالم افتقدناه حتى كاد يختفي، من خلال إحياء حدائقها المعلقة في الذاكرة والروح والنفس معًا.

مليكة أكزناي
فراشة ثائرة ومسالمة

السلام. الحب. التعاطف. التواضع. الكرم. خمس كلمات تمثل رسالة الفنانة التشكيلية المغربية مليكة أكزناي، ملاك الرحمة التي درست علم الاجتماع والطب، قبل أن تعود إلى رحم الفن التشكيلي لتولد من جديد عاشقة للرسم، فتلتحق بمدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء، وتتخرج فيها العام 1970م، وتؤسس على مدى أربعة عقود تيارا يأخذ ماءه - موجة موجة - من أبجديات تراثية، ولكن يفيض في نهر من التجديد البصري، سواء كان ذلك حفرا على الزنك والبرونز، أو تشكيلا بألوان الزيت.

لكنني وأنا أراقب حركتها كفراشة دقيقة الحركة بهيجة الابتسامة في ورشة الفنون بمنتدى مدينة أصيلة الثقافي، بالمملكة المغربية، كنت أنظر إلى المرحلة المتوهجة، ولم يكن لدي ما أعرفه عن متون الرحلة الجبلية والشاقة - بتعبير الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان - التي خاضتها مليكة لكي تحترف الفن.

ففي مجتمع تقليدي، ونحن نتحدث عن المغرب قبل ستة عقود، لم يكن للموهبة التشكيلية للصبية مليكة أن تحتضنها أسرة محافظة ومجتمع ينظر بارتياب للفنان ويتوجس خيفة من لقبه، أقول الفنان، فما بالك بالفتاة التي عشقت التشكيل وتريد أن تصبح فنانة؟!

الدخول إلى عالم الفن بشكل رسمي جاء بعد زواجها، الذي أتاح لها دراسة أكاديمية في مدرسة الفنون الجميلة بمدينة الدارالبيضاء، حيث كانت المدينة تقف على عتبة التغيير بين عالم استنزفه الاستشراق الفني، فأخذ يمتص رحيق أصوله وجذوره ويعيد تشكيلها في نوتة تعزف الغرائبي والعجائبي، فهو فن من الغرب، إلى الغرب، بأدوات ومزاج شرقيين.

هنا انضمت مليكة إلى طليعة المتطلعين إلى جذورهم، ليس من أجل التقليد، وما أيسره، ولكن بهدف إعادة اكتشاف عوالم جديدة في الموروث الذي تبهر جذوره المخيلة الأدبية والفنية للمتلقي.

التجريد الذي اجتاح الفن الحداثي، موازيا للسوريالية وما بعدها، وموجزا للشكل، ورامزا للون، بحدوده الهندسية، ودقته الذهنية، ولغته المتكررة في فضاء اللوحة، لم يكن بغريب عن البيئة المغربية.

يكفي أن تمشي في أحد قصور السلاطين المغاربة متأملا أسقف الخشب المحفور والملون، أو أرضيات وجداريات الزليج (السيراميك) لتدرك أن المفردات التجريدية تنمو في المملكة مثلما تنمو أشجار الأرْز بالمرتفعات الثلجية لمدينة إفران المغربية.

لكن علينا أن نشير لسرٍّ آخر، وهو أن انهماك مليكة في مختبرها العلمي، حين كانت تستخدم عدسة الميكروسكوب المجهرية بالمستشفيات التي عملت بها، جعلها ترى ما لا نراه نحن بالعين المجردة، وهو ما أفشى إليها بسر أكوان تجريدية استثنائية، ومهد لظهور عالم الطحالب الثري في أعمالها، ذلك العالم المنقوش بأبجدية اخترعت حروفها.

هكذا شكلت مليكة ثورتها التشكيلية، وهي ثورة لم تكن ضد السائد وحسب، ولم تقف عند حدود التجديد الحرفي، بل كذلك ضد استخدام الكمبيوتر، الذي لا يحيا تشكيليا إلا في عالم التجريد، لكن تجريد مليكة يستعصي على الكمبيوتر لأنه قادم من الروح، لينشر السلام والحب والتعاطف والتواضع والكرم. يتسيد الطحلب وأخوانه لوحة مليكة، ويسبح في فضاء بلونين أزرق وأخضر، كأنه عالم المحيط والبحر الذي تطل عليهما المملكة المغربية بامتداد شواطئها.

لا ننسى أن فضاء التشكيل المغربي يدين بقسم كبير منه إلى ما يقدمه موسم اصيلة الثقافي للفن والفنانين، مما جعل من مليكة ـ ضمن تشكيليين مغاربة كبار آخرين ـ أيقونة له وعليه، ومما جعل الفن التشكيلي جزءا من الحياة، يشارك الجمهور ـ فنانين وزوارا وسكانا ـ فضاءهم. كما أحيا الدور التعليمي لهؤلاء الفنانين والفنانات ـ مع زملائهم من كل أنحاء العالم ـ لكي تشب أجيال جديدة تحب الفن، كم نحتاج إليها اليوم. كانت أصيلة - ولا تزال، كما ستظل - ثورة في الفن، مثلما مثلت سيرة مليكة حياة لثورة كاملة لفنانة عربية شاملة.

تقتنى لوحات مليكة بالمغرب والعالم، بمكتبة الفنون بندر بن سلطان بأصيلة والمتحف الوطني بالرباط، والبنك الدولي بواشنطن، ومتحف بغداد ومتحف الشارقة ومتحف أكوريري بإيسلندا، وتطوف حاملة رسالة السلام. رسالة نحتاج إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى.

هند عدنان
ثورة النظرة المنسية

يقوم الفن التشكيلي على إعادة البناء. تدخل مفرداته في آلة سحرية ما يبتكرها له الفن، فتحيا المفردات من جديد، وتنشئ عالمًا فريدًا يخص الفنان وحده. لم يخترع الفنانون الخط ولم يبتكروا اللون، ولم ينشئوا (عالمهم) من فراغ، ولم يرفعوا سماءهم بلا عمد، وإنما أعادوا تدوير الحياة لتخرج حاملة جيناتهم الابتكارية وبصماتهم الوراثية. هذا هو سر التعرف على عمل لفنان ما دون أن نرى توقيعه، ودون أن يقول لنا أحد اسمه، هكذا يقدم العملُ رسامَه.

الثبات، والسكون، والارتكان إلى القواعد والمسلمات هي ما يهدم الفنون، حيث يمثل الفن عالمًا يقوم على مناهضة الرتابة والسيمترية. والثورة على كل ذلك هو مفتاحُ الفن، وهو التفسير الأساس لأعمال الفنانة هند عدنان، التي اتخذت من تصوير جسد المرأة مساحة مفتوحة لإبداعها.

لعل تصوير الجسد الأنثوي له تاريخه المرتبط بتاريخ الفن التشكيلي، فلا نجافي الحقيقة حين نقول إنهما صنوان، وقد انبرى لهذا التجسيد الفنانون على مر العصور، حتى بات من العسير أن نجد تجديدًا، وحين نعثر على هذه النظرة الجديدة يكون الفن قد عرف صفحة مغايرة. ونحن في أعمال هند عدنان نعثر على هذه الصفحة، في جُل، ولا أقول كل، أعمالها.

إنها ثورة النظرة المنسية، البعد الخافي، تنظر للمرأة من علٍ، من زاوية غير معتادة، من ركن جانبي مهمل. المرأة ـ أحيانا ـ سابحة في فضاء اللوحة، ليكون الجسد الثقيل مغلفا بصفات ملاك في سماء خفية. الألوان الشافة لا تستثير بقدر ما تنير. النظرة الآتية تستدعي النظرة الحانية. الاقتصاد في اللون يقابله طغيان المشاعر الدفينة.

تتأمل العملين المتجاورين فتقول إنهما متطابقان، لكن التأمل يجعلك تكتشف فوارق بسيطة، وكأنها تستعير من عالم السينما تتابع اللقطة الحية. إنها تنفي السكون عن كائنها النائم، وكونها الحالم. لقد بدأت مشروعها التشكيلي باستدعاء منظور عين الصقر، الذي يراقب المكان من عليائه، ولكنها أتت بالصقر إلى داخل البيت، ودواخل عالم النساء، بين تأمل، وإعادة نظر، وتطلع عبر نافذة إلى عالم لا نراه، وغفوة بعد تعب نستشفه، وجلسة في راحة نتمناها!

حين جاءت هند عدنان من سورية إلى مصر لتدرس التصوير بكلية الفنون الجميلة اقترنت بعائلة تشكيلية، وخلال عشرين عاما منذ تخرجها في القاهرة، وعبر معارضها بعواصم عربية وغربية، أخذت تحفر اسمًا مرادفا لتلك النظرة الثائرة للمرأة، رغم أن نساءها لا يحملن لافتات، ولا ينزلن إلى الشارع، ولكن الثورة تبدأ في البيت، باكتشاف اللحظات المنسية، والزوايا الهاربة، ببراعة استخدام أهم عناصر البناء التشكيلي: الضوء في مقابل الظل، والكتلة في مواجهة الفراغ، واللون جوار الآخر، وهي الألوان التي تنتمي إلى عجينة قريبة الدرجات، لكن الاختلافات باللوحة تبين قوة التقنية لدى الفنانة.

لا تصور هند عدنان موديلاتها من النساء للبحث عن ملامحهن التي يمكن أن تشي بها الكاميرا، ولكنها تبحث في هواجسهن ودواخلهن، بعد عبور سريع لفتنة أنثوية ظاهرة، هكذا ستقول حركات الأيدي المعقودة والمبسوطة وربما المتشنجة، لتفصح عن رغبة ما، ومشاعر بذاتها، فالجسد أصبح مجسدا لكل عناصر الطبيعة.

الأعماق هي التي تريد هند عدنان أن تسبر غورها. أليست الأعماق هي التي تخفي كل شيء؟

هيلدا حيَّاري
دائرة الحياة الثائرة

كيف تتحكم الدائرة في مخيلتنا؟ إنها تحيط بنا، بينما نحاول أن نملأ دوائر حياتنا بكل ما لدينا من طاقة، وأن نكتشف دوائر العالم بكل ما نمتلك من بصر وبصيرة. لعل المدخل إلى الأشكال المستديرة، الراسخة والمتحركة، الثابتة والمتحولة، الدقيقة والعملاقة، المرئية والخفية، المفسرة لذاتها والغامضة، لعلها بداية تتسق مع جُل أعمال الفنانة التشكيلية هيلدا حياري. دعونا نقرأ لها محاولتها لتفسير ذلك التناص الدائري للحياة، كيف بدأ مع تلك الرحلة:

«تحدث كثيرون منهم الفلاسفة القدامى عن المغزى الفلسفي للدائرة. ومنذ الصغر، وخلال أسفاري الكثيرة مع والديّ، وحتى هنا في بلادي، كنتُ أنظر إلى النقاط، وأتأمل الثقوب، وأراقب الخطوط، على الرمال والصخور، وظلت لعبتي الأثيرة مع النمل، أراقب تلك الحشرات تمشي معًا، وأنا ألمسها، وأجعلها تمشي على يدي، كما أمنح نفسي متعة رؤية تلك الكائنات الدقيقة وهي تبني منازلها المستديرة في الرمل. القراءة أيضا جعلتني دائمة التفكير والاكتشاف، والبحث عن مغزى تلك الخطوط والأشكال الدائرية، بما لها من معان جمة. وخلال سفري حول العالم مشاركة في المعارض الإقليمية والدولية وبفضل رحلة الاستنارة والاستكشاف التي لا تنقطع، كرست مسعاي الدائم لسبر أغوار كل جديد، خاصة في الفن».

استنطاق الدائرة، بأسرارها التي لا تنتهي، تلك الأسرار التي حملتها معها هيلدا الصبية الأردنية حتى أصبحت فنانة مرموقة، هو سر الأعمال الكثيرة، والمراحل المتحولة، للمسيرة التشكيلية للفنانة. عالم من الدوائر الخصبة والثرية والملونة والآسرة، إنه تكوين في فراغ اللوحة، يؤسس لعالم متكامل، مدن من الدوائر المجسمة، تراءت لي قبل عقد كامل منذ بدأت أتابع مسيرتها، مثل كريات في سائل البلازما، وتحولت مع الأيام إلى روبوتات حية في جسد اللوحة.

وحين أقامت هيلدا حياري في قلب مدينة عمَّان جدارية طولها 150 مترًا، نفذتها على مدى شهر كامل، لم تبتعد أيقوناتها الدائرية الأثيرة السابحة في ماء الحياة بل أضافت خطوطا رمزية وأشكالا تشبه صورًا اختزالية للبشر، تلك الصور التي تملا لوحتها بالصخب والحركة والألوان.

وتحضر الدائرة أيضا في تلك الجدارية التي راقبت فيها الساعات تحدد وقت إنجاز كل جزء من موزاييك جدارية الألوان والحياة، التي تفيض بدوائر الكائنات الصغيرة البيضاء والحمراء المؤثثة للفوضى والنظام في آن واحد، وكأنها هي نحن قبل أن نتخلق بشرا.

وتطل علينا الدائرة الثائرة مجددا، وهذه المرة تبدو مثل رؤوس خاوية، وذلك حين قدمت - من خلال عرض فيديو مصور - مجموعة الطرابيش الفارغة التي فازت بالجائزة الأولى في التركيب أثناء بينالي القاهرة العاشر (2006)، هنا أصبحت الثورة الأنثوية - والإنسانية - ضد خواء الأدمغة، حيث راقبنا وجهًا أنثويًا تخرج من شفتيه المكتنزتين بحمرة المساحيق سحابات دخان تنطلق باتجاه قاعة تجلس فيها مجموعة الطرابيش الحمراء الصامتة بلا رؤوس والرامزة للحضور الذكري، من خلال أداة تلف الرأس المستدير بأسطوانة مستديرة خاوية لها ذيل.

في العام نفسه تفوز هيلدا بجائزة قسم التصوير في بينالي آسيا الثاني عشر الذي تقيمه بنجلاديش، وتحضر الدائرة مجددا، مع اختلاف الرمز وتباين التفسير.، حتى أنها تبدو أحيانا دوائر لمجرة من الفرح اللوني، متعدد الطاقات والطبقات.

دوائر هيلدا حياري: انفجار كوني، له كويكبات ونجيمات، ربما، ذرة تدور في فضائها بروتونات وإلكترونات، محتمل، زوبعة تحمل أغراضنا التائهة في الفضاء، ممكن، حتى وهي تختزل الأخبار لتكون في مجموعة منها أقراطا بالآذان، وكأن الأخبار تريد من يسمعها، أقراط دائرية، لأخبار ندور نحن في فلكها، فهي تقدم يومياتنا وتوثقها، كي لا ننسى.

الأفكار تسبق الأعمال، والأعمال تسابق الزمن للحاق بما تفكر فيه هيلدا حياري، والخامات تقدم ذاتها طواعية للفنانة التي تعتزل في الآتيليه لتقدم من داخل صمته صوتا كالبركان لا يهدأ، يجوب العالم ليقدم أبجدية لفن إنساني عابر للثقافات، حتى ولو استخدمت حروفا عربية، فحروفها جزء من دائرة الحياة الثائرة والهادرة التي لا تتوقف.

 

أشرف أبو اليزيد