بداية سيرة ذاتية.. الاغتسال بماء الشمس

 بداية سيرة ذاتية.. الاغتسال بماء الشمس
        

           أواجه على هذه الصفحات واحدة من أصعب المهام: أواجه نفسي لأكتب عمّآ أظنّه وقع خطاي. أتراني أقوى على مواجهة ذاتي والمراحل? أم تراني أستعيد نفسي وهماً وكأنني أتحدث عن سواي في معرض كلامي عن الذات الصغرى التي تُدعى أنا والتي تعارف الناس على تسميتها أمين ألبرت الريحاني. كنت أظن كلما كتبت عن الآخرين أنني أحد أبطال طروادة: أنازلهم, أجادلهم, أقارعهم, أشاطرهم الرأي أوأخالفهم وجهة النظر... وفي كل ذلك كان الوهم يزيّن لي الأمر فأقنع نفسي بأنني المنتصر, وأنني العارف دواخل الأشياء والكاشف أسرار التكوين فأنام على وسادة أوهامي وأستريح.

من رهبة إلى أخرى

           وعيت على نفسي وعلى الدنيا, والناس ينادونني (الأمين الثاني). لم يعن لي هذا الأمر كثيراً آنذاك. كنت أتساءل بين الحين والآخر: لماذا هذا الرقم الملحق باسمي وكيف يتفق الناس على الرقم ذاته في مناداتي?! فتجيبني والدتي لورين (غداً تدرك الأمر يا بني). ومرّت الأيام حتى اعتدت هذه التسمية إلى أن جاء يوم أقام فيه والدي حفل استقبال في بيتنا في شارع الحمراء في بيروت لضيف كبير قادم من نيويورك. في حفل الاستقبال ذاك, ربيع العام 1948, وكنت في السادسة من عمري, أجلسني المحتفى به إلى جانبه قائلا: (أتعلم لماذا أعطاك والدك هذا الاسم أيها الأمين الثاني?) ثم علّق على جوابي المتردد آنذاك: (كي تصبح الكتابة جزءاً منك, وكي تنجح وتصيب شهرة في هذه المهمّة النبيلة تماماً كشهرة عمّك الأمين الأول). لم أفهم يومئذ معنى هذا الكلام لكنني علمت أن محدّثي يُدعى إيليا أبا ماضي. مازال وجه أبي ماضي, بنظارتيه المستديرتين وابتسامته المشرقة وهامته العريضة, يرافقني حتى الساعة وكأنه ينذرني باستمرار (أين وصلت يا رجل?) فأهاب الجواب كما أهاب الاسم الذي أحمل.

           كان والدي يصرّ على تعزيز الأسباب الأدبية في بيتنا فبعد (الأمين الثاني) أعطى شقيقتي اسم مي تيمناً بمي زيادة, وكثيرا ما كان صديق العائلة الشاعر الراحل وديع ديب يردد (هي مي وزيادة) إشارة إلى عطائها الأدبي ونتاجها التأليفي الباكر. ويأتي شقيقي الثاني الذي كانت الرغبة أن يعطى اسم فارس إحياء لاسم الجد, والد أمين وألبرت, غير أن الميل للتجديد في الأسماء كان غالباً رغم بيت الشعر الذي نظمته جدتي لوالدتي مرحبة بالوليد الجديد:

فارس الفرسان أهلاً

أباً وأخاً لأمين



           وعند مجيء شقيقي الرابع, صغير العائلة, كان الوالدان قد اتفقا على تسمية جديدة لم يسبقهما إليها أحد آنذاك وهي مستمدة من أجمل الصفات الإلهية: سرمد. وبعد سرمد الريحاني راح الاسم ينبت ويتردد في بعض بيوت الأصدقاء في بيروت والجبل.

           كانت دراستي الابتدائية في معهد الفرير (فرير دو لاسال) في رأس بيروت, إذ قرّر والداي أن يرسلاني, وإخوتي (إلى مدارس فرنسية أولاً ثم نلتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت.

           غايتهم في ذلك أن نتقن الفرنسية والإنجليزية إلى جانب العربية, وهكذا كان. لكن ما انطبع في رأسي عن الفرنسيين كان خارجاً عن لغة راسين وكورنيي وفكتور هوجو. لا أزال أذكر مدير المدرسة (فرير بيران), وهو ضابط سابق في الجيش الفرنسي, عندما كان يصرخ بوجه سائق الترامواي كل يوم عند الرابعة بعد الظهر كي يوقف حافلته ليتمكن تلاميذ المدرسة من اجتياز الطريق العام إلى بيوتهم. صوته الجهوري كان بمنزلة الجرس الذي تنتظم على إيقاعه حياتنا اليومية داخل المدرسة وخارجها. رجل آخر لا يغيب عن بالي هو (فرير بازيل) الناظر الشرس بسوطه الذي كان سرعان ما يلذع أناملنا الطرية آنئذ إذا ابتسمنا حين لا يجوز الابتسام, أو سألنا حين لا يتوقع السؤال, أو التفتنا إلى زميل على مقعد الدراسة حيثما لا يرتضي الالتفات. رغم كل ذلك, أو بسبب كل ذلك, فإن ما تعّلمناه عهد ذاك حفر إلى الأبد في عقولنا والقلوب.

           بعد انتهائي من المرحلة الابتدائية قرر والداي, ربما بسبب تلك القسوة في تربية الأولاد, أن ينتقلا بي إلى القسم الفرنسي في الإنترناشونال كولدج في رأس بيروت. وكأنني بذلك خرجت من السجن الكبير إلى رحاب الجنة. هنا الأساتذة إخوة للتلاميذ وأصدقاء. أما القصاص فيبقى ولكن بأسلوب آخر: التأنيب الشفهي فالتأنيب الخطي فالاحتجاز لساعة أو ساعتين فحرمان التلميذ من بعض الحقوق التي يتمتع بها زملاؤه... وقد مررت على جميع هذه القصاصات لسبب أو لآخر. غير أن تلك المرحلة كانت غنية بأساتذة تتلمذت عليهم ولايزال بعضي مجبولاً ببعض كل منهم. أذكر من هؤلاء في الأدب العربي: نبل جبران مسعود, بصيرة إليّا حاوي, شاعرية إلياس يوسف زخريّا, غضبة محمد علي موسى وحماسة ميشال عاصي, في الفلسفة: عمق ألبير نصري نادر, في الأدب الفرنسي: نقد موريس دومون وثقافة شارل جينيسليه, في الأدب الإنجليزي: صفاء هنتنجتون بلس وتَوَغُّل توماس ويفر. يمكنني أن أسترسل في وصف كل واحد من هؤلاء وكيف ترك أثراً في نفسي شكلاً وجوهراً وشخصية.

عهد الجامعة

           بعدها جاء عهد الجامعة الأمريكية. كان ذلك العهد ثرياً في صقل الذات جاداً في إيصال النضج إلى مرحلة الوعي والتيقظ. كان يتنازعني ميل إلى العلوم السياسية وآخر إلى الأدب, فاخترت العلوم السياسية لاعتقادي الساذج آنذاك أن ذلك قد يكون أقرب طريق لوصولي إلى الخدمة العامة, خدمة وطني. أتوقف عند أساتذتي الكبار الذين ساهموا, عن قصد أو غير قصد, في تكوين شخصية ذلك الفتى المقبل على الدنيا باندفاع الشباب وهو لا يدري بعد ماذا تخبئ له الأيام. من هؤلاء شارل مالك ووليد الخالدي وفايز صايغ, الأول يقطع قاعة الصف ذهاباً وإياباً, يعالج الفلسفة الأخلاقية, يناقش انعكاساتها على الشئون السياسية والاجتماعية, يطرح معضلة العقل إزاء سلّم القيم, يسألنا, لا يُرضيه الجواب فيروح يفنّد تفاصيل المسألة المطروحة وكأنه يرسم خريطة التشابك الفكري وظلالها النقدية المتشعّبة. والثاني يناقش العلاقات الدولية من الصين إلى البرازيل ومن كندا إلى أستراليا وبوصلته الدائمة فلسطين, فإذا ما وصل بكلامه إلى أرضه المقدسة غصّ العلم بحرقة الكبرياء الجريح وانتفضت الموضوعية تحتضن الوطن بعقلانية تشبه حرارة العاطفة, وبعاطفة تشاهد نفسها أمام مرآة التحليل السياسي الصارم. والثالث يقارن أنظمة الحكم في العالم ويحاول أن يقيسها بمقياس إنساني ديمقراطي فيتوقف عند خيبات أمل متراكمة من الشرق والغرب عظُم شأنها كلما توقفت أمام ظلم سياسي فاضح أو إساءة تاريخية أليمة.

           شهدت السنوات الجامعية تجارب عاطفية متعددة أبرزها قصة حب عصف بي واستمر يكبّل مني القلب والعقل لفترة غير قصيرة. كانت طويلة شقراء تتهادى في مشيتها وتتغاوى في كلامها حتى أسرتني بعد أن تسرّبت إلى ثنايا حواسي والأحلام. تكررت المواعيد, وتكاثرت الوعود والآمال وطالت ساعات السهر وما يرافقها من حلاوة اللقاء. بعد التخرج انصرف كل منا في طريقه إلى مواجهة الحياة. تضاءلت لقاءاتنا فندرت وكانت نهاية مرحلة وبداية أخرى حين كرّت فصول اللهو والعبث.

ضفاف الأرجوان

           بعد عام من تخرجي في الجامعة بشهادة البكالوريوس جمعت كتاباتي الشعرية الأولى, وكنت قد نشرت بعضها في صحف بيروت, وأصدرتها في كتاب بعنوان (لمع مشرقية) سنة 1966. كان والدي المتحمس الأكبر ليرى باكورتي الأولى, وكانت والدتي تهمس في أذني (أرجو أن يأتي اليوم الذي يقال فيه: وكان لأمين عمّ اشتهر, هو الآخر, ككاتب ومفكّر). تضاربت الآراء حول الكتاب. كتب ميخائيل نعيمة يقول: (حسْبُك أن تتعشق الكلمة وأن تتحسّس ما في حروفها من نور وظل,ونغم ولون, وعمق وبعد, وحركة وحرارة, لتكون والشعر على موعد لقاء...), ورأى سعيد عقل أن: (ليست المرة الأولى التي فيها نُعجَب بهذا القلم... باكراً جدا لفتنا إلى نضجه وأناقة بتّه وتطلعه إلى البناء). وأتى غضب جوزف نجيم قاسيا: (لا يا أمين, ما ساءك لو أنك... كتبتَ عند مزوّري الشعر فأعلنوك شاعراً على غرارهم).

           وبقي يوسف غصوب محايداً وقرّر أن: (كل ما هنالك رمزية واضحة لا عيب فيها ولا تكلف. تدخل في أعماق نفسك وتستجلي أسرارها وتسائلها عن غوامضها علّك تجد ما يكون الرابط بينها وبين الواقع...) وربط جورج صيدح بين هذا الكتاب وجذوره التراثية: (لا شك أنك استوحيت الشعر المنثور... حاملا نفحة الحياة الريحانية في (عبر الأنا) وصدى تعاليم المعلم الأمين في (عبر شعبي) وملامح عصرنا الحالي في (عبر المجاز)... كانت (لُمَعٌ مشرقية) بمنزلة الزرع الأول في بستان كلماتي ولُغتي. وأدركت تدريجياً أن هذا الزرع يحتاج إلى كثير من العناية المستمرة لكي ينمو وتورق أغصانه.

           وبدأت الإعداد لشهادة الماجستير في الأدب العربي, وكانت والدتي تدفعني باستمرار لمتابعة دراستي العليا. وما أدركْتُ يومها كم كنتُ محظوظاً لأجدّ في الطلب على يد كوكبة من الأعلام. من هؤلاء: أنيس فريحة في حنينه الدائم إلى بقايا الحضارة القديمة من نقوش أوغاريت إلى (اسمع با رضا), جبرائيل جبور في نحته لمعاني الصحراء والناقة وخيمة الشعر كما تجسدت في شعر عمر بن أبي ربيعة, محمد يوسف نجم في الالتزام اللصيق بالنص وإحاطاته التاريخية, إحسان عباس في التحقيق الموازي للعمل الخلاّق بحيث يكتشف هامشاً لكل مفردة من مفردات القصيد أو المقال, كمال اليازجي في مقارباته التفكيكية للفلسفة العربية, خليل حاوي في تحليله الحاد لنظريات النقد الأدبي المعاصر من وردزورث إلى إيتش. آي. ريتشاردز, وأنطون غطاس كرم في توغّله الإبداعي عبر المدارس الأدبية المختلفة من الرومانسية إلى السوريالية وما بعد الحداثة وهو الذي - بقدسية الكلمة لديه - دفعني لمتابعة الدراسة حتى الدكتوراه. تعددت الدروس التي أفادتني من هذه الكوكبة المميزة. وإن شئت أن أختصرها بدرس واحد لا أنساه فهو قدرة الكاتب على استعادة هندسة العالم بحيث يغتسل من أدرانه وأوجاعه من أجل حياة جديدة.

           عام 1970 صدرت مجموعة كتاباتي الشعرية الثانية بعنوان (على ضفاف الأرجوان) فأشار عدد من النقاد إلى ما معناه أن الكتاب ماض في رمزية تأخذ شكلها الجماعي الاقتحامي. وهنا أكتفي بناقدين اثنين ساهما في بلورة خصائص هذا العمل الجديد. أشار الناقد عصام محفوظ إلى أن (شعر أمين ألبرت الريحاني نشيد متقطع الصوت, متلاحق... يتجاوز التعبير عن الذات إلى صهر الإحساس الجماعي... حيث الرمز مقتحم على الواقع, والمحتوى على الشكل). ورأى الناقد ريمون عقل أن صاحب (على ضفاف الأرجوان) قد (أعطى بلغة مزامير داود رونقاً شعرياً, وعمق إحساس, وصرخة موجعة يتوقف عندها النقد متأثراً...).

           وعندي أننا (على ضفاف الأرجوان) لأننا عاجزون عن التخطي, عن العبور عاجزون عن الهرب من النهر, من ذواتنا. ونموت على أرض عجزنا اليباب لولا بقية من صوت يُعَبِّد لنا الطريق لعبور منتظر.

الموجع المغري

           بعد عام أنهيت أطروحة الماجستير عن الكاتب اللبناني عمر فاخوري ومعنى الأدب الملتزم. ونُشِرَت الأطروحة, في بيروت والقاهرة, في كتاب بعنوان (قلم يفك الرصد) إشارة إلى أحد مؤلفات فاخوري المحورية (الباب المرصود). وبدأت بالعمل مع والدي في دار النشر التي أسّسها منذ منتصف الثلاثينيات باسم دار الريحاني للطباعة والنشر. كما أخذت أساعد والدتي على تحرير مجلّتها (دنيا الأحداث) أولى المجلات العربية آنذاك المتخصصة باهتمامات الفتيان والفتيات في العالم العربي. كذلك بدأت بتدريس مادة الأدب العربي لصفوف البكالوريا في الإنترناشيونال كولدج في بيروت. وجدت نفسي بين نشر الأدب وتدريسه أقرب إلى عالم الكتاب والنص الإبداعي والنقدي مني إلى أي عالم آخر, وذلك في طبيعة التعاطي اليومي مع الكلمة واكتشافي التدريجي لفعلها الموجع والمغري في آن.

           بعد فترة أدركت أن التعليم الثانوي لا يستهويني إذ أفضِّل التعامل مع شباب بلغوا النضج الجامعي فبدأت أدرّس مادة الفلسفة العربية وتاريخ الفكر العربي المعاصر في الجامعة الأمريكية في بيروت. كانت تلك الفترة من أجمل مراحل العمر إذ شعرت أنني في المكان الصحيح وفي المناخ الصّحي الذي يجعلني في احتكاك متواصل مع جيل الشباب الذي أتمرّس وإياه على معايير الفكر النقدي المرتبط بحقيقة التفكير المعاصر في عالمنا العربي.

           وكثيراً ما كان النقاش يطول حول مكانة العقل العربي الحديث ودوره في خلق المفاهيم القادرة على ترجمة القيم العربية ترجمة قابلة لمواكبة العصر. آنئذ كنت أتابع دراسة الدكتوراه وكان أنطون غطاس كرم يشدني إلى محاضراته ومناقشاته التي تثير جدلاً ومطارحة فكرية تكاد لا تنتهي, من عقلانية المعتزلة إلى وجدان الفلسفة الوجودية ومن أرسطوطالية ابن رشد إلى سوريالية أندره بروتون وبول إلويار والمدرسة فوق الواقعية في الآداب والفنون. كنّا نعالج الأدب بتداخلاته العربية والأوربية, كما الحضارات, على كونها ظواهر إبداعية بلا حدود ومجالات رحبة للعقل بلا حواجز أو هويات سوى الهوية الإنسانية.

تريسامينا

           كانت علاقاتي العاطفية آنذاك غير مستقرة حتى ظننت أن القلب عندي قد ضربه الجفاف. يومها كتبتُ في إحدى مقالاتي لصحيفة (النهار) عن (حلم ليلة صيف) بقراءة شكسبيرية جديدة, على مدرج الكولدج هول في الجامعة الأمريكية في بيروت, أشير فيه إلى المعنى الإنساني المستحدث لمادة مستلّة من التراث. في ذلك الاحتفال المسرحي, خريف 1973, تميّزت إحدى الفتيات بأدائها اللافت وجمالها الأخّاذ وصوتها الرسولي ولغتها الإنجليزية الأنيقة. كتبتُ عنها قبل أن أعرفها. وما إن التقيتها حتى شدّني إليها سحر عينين آسرتين وجمال جسدي ينافسه جمال روحي يصعب مقاومته. وتكررت اللقاءات والمواعيد مع تريسامينا, ولم أستيقظ من حلم تلك الليلة إلا على قصة حب تشبه الغرام القاتل. وتدفّقت الأحلام العسلية التي أدّت إلى الزواج بعد أقل من عام. وسال القلم يغمس ريشته بكل محابر الحب التي أثمرت, إلى جانب سيرين وريم وخالد, مجموعة شعرية ثالثة بعنوان (قراءات على وجهها والرحيل) صدرت, بعد أعوام, في بيروت.

مدارات

           عهدذاك كنت منشغلاً بوضع دراسات أدبية حول نماذج من الأدب القديم والأدب الحديث. كانت غايتي أن أبحث (كيف يتم التلاحم بين الفكرة والتعبير عنها). صدرت تلك الدراسات في كتاب بعنوان (مدار الكلمة) عام 1980 في بيروت والقاهرة. وشغل عند صدوره عدداً كبيراً من النقاد تناولوه بالدرس والتحليل. من هؤلاء وضاح شرارة الذي وجد فيه (مرجعاً... وقد تكون أغنى دراسة مرجعية), وجوزف صايغ الذي تساءل: (بأي رزانة وشمول ثقافة, بأي تقميش فعل كل هذا?!), فكتبت روز غريّب وكأنها تجيب: (يحرص على الافتنان في العبارة كما يحرص على كشف المصطلحات النقدية المستجدة وإثباتها...). وقد دفعتني هذه الكتابات عن (مدار الكلمة) لأن أجمع مقالاتي التي نشرتها في صحيفة (النهار) لتصدر عام1982 في كتاب بعنوان (مرايا متعاكسة). وفيها شيء من الأدب وشيء من النقد الأدبي حول مختارات من النتاج الأدبي المعاصر من دنيا العرب ومن سائر الآداب الشرقية والغربية.

           عام 1987 التحقت بكلية بيروت الجامعية (الجامعة اللبنانية - الأمريكية اليوم), وعملت أستاذاً مساعداً لمادة المدارس الأدبية ومديراً لمكتب القبول في حرم الجامعة في جبيل. أجمل ما في تلك الأيام رائحة الأرض الندية على الطريق الساحلي الممتد شمالاً بين القرى والدساكر وبينها البساتين والبيوت الحجرية القديمة التي تناديك وتهذّب ذوقك المعماري دون أن تدري. وأحلى ما في ذلك التدريس أنني كنت أعود مع طلابي إلى كتاب (مدار الكلمة) كتمارين تطبيقية للاتجاهات النقدية التي كنت أدرِّس. في ذلك العام انتقلت وعائلتي من بيروت إلى قريتي الفريكة هرباًمن نيران الحرب في العاصمة ولجوءاً إلى مكان آمن ساكن.

           في ذلك العام أصدرْتُ كتابين جديدين: مسرحية تتناول سيرة الريحاني بعنوان (ويسقط العمر عن درّاجة) وكانت قد أذيعت من الإذاعة اللبنانية لثلاث سنوات على التوالي. ثم الجزء الأول من أطروحتي للدكتوراه حول أمين الريحاني بعنوان (فيلسوف الفريكة صاحب المدينة العُظمى. وتأخر صدور الجزء الثاني من أطروحتي ما يزيد على السنوات العشر بداعي السفر خارج لبنان والابتعاد عن مخطوطات الريحاني الإنجليزية موضوع الدراسة. وبعد عودتي أصدرت هذا الجزء بعنوان (الينابيع المنسية) عام 2000. وقد أطلق البعض على هذه الكتب الثلاثة, والتي دارت حول أحد أعلام الأدب العربي المعاصر, اسم (الثلاثية الريحانية).

الترحال

           أشرت إلى سَفَري والعائلة عن لبنان مايقرب السنوات العشر. وكأنه كُتِبَ لي أن أختبر النقيضين: مساحة الثقافة العربية في مواقع مختلفة من مواطنها, ثم الابتعاد إلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية, إلى الولايات المتحدة الأمريكية. غادرت لبنان وعائلتي إلى بغداد في سبتمبر 1989 لأرأس مدرسة بغداد الدولية التابعة للأمم المتحدة. كانت تجربة فريدة سيما لجهة الإدارة التربوية والثقافية. كانت ليالي بغداد تحمل في طيّاتها نكهة المسك المعتّق. كنت أشعر وكأنني طالع من الزمن العباسي الملفّح بإكسير الحداثة: مجالس الأدب تتجاذب أطراف الأدب العربي منذ طرفة حتى الرصافي والجواهري, ومنذ زمن المأمون حتى فضاء بدر شاكر السيّاب. ما شعرت يوماً بحضور أمين الريحاني في حياتي أكثر من حضوره آنذاك. فقد كان المرافق الخفي الذي يفتح لي أبواب المجالس الأدبية والسياسية والفنية في كل من بغداد والموصل والبصرة وبابل وسامرّاء وسواها من المدن العراقية.

           مع حرب الخليج سافرت وعائلتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث مكثنا في مدينة بوسطن عاماً ونصف العام. هناك ألقيتُ بعض المحاضرات عن الأدب العربي - الأمريكي, ودُعيتُ لأكون عضواً في الجمعية التاريخية لبلدة نوروود مسقط رأس فرد هولنداي راعي جبران قبل ماري هاسكل. تكررت زياراتي لبلدة وُلدِن حيث ولد كل من إمرسون وثورو وحيث أطلقا دعوتهما الاستعلائية في الأدب الأمريكي والتي تركت أثرها في الأدب المهجري.

           هناك تعلّمت أن الطبيعة الأمريكية قادرة, بغناها وجمالها وتنوّعها, على أن تترك في الإنسان أثراً قد يبرز في أعمال أدبية أو فنية فريدة مميزة. هناك الطبيعة كالعِلم تصقل الإنسان وتزوّده بزاد يرفع من شأنه الفكري والروحي معاً. الطبيعة الأمريكية, على نقيض مدن أمريكا, صديقة للإنسان ورفيقة لشجونه وتطلعاته.

           في سبتمبر من عام 1991 لبّيت دعوة إلى البحرين وانتقلت مرة جديدة مع عائلتي لأتولى رئاسة مدارس البيان في المنامة. هناك اكتشفت في المواطن البحريني منتهى التهذيب والسكون والطموح والانفتاح. قارنت بين العراقي والبحريني فوجدتُ في الأول شدة على لين وفي الثاني مرونة على بصيرة. في تلك الفترة كان علي أن أشارك في المؤتمرات التربوية الأمريكية عاما بعد آخر. وكنت ألقي المحاضرات عن الواقع التربوي والثقافي في العالم العربي وأعطي الأمثلة من لبنان ومصر وأنقل إليهم تجربتي في العراق والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية حيث سبق لي ونظّمت عدداً من الدورات التدريبية لأساتذة الأدب العربي.

           في تلك الفترة أعدت النظر في دراسة لغوية لي صدرت, عام 1994 في بيروت, في كتاب بعنوان (لغات عربية). وهو مسح للهجات العربية القديمة في سبيل أصالة لغوية مبدعة. وانعقدت جلسات أدبية في بيروت والبحرين تناقش المؤلف في نزال محتدم وجدال حاد إلى جانب المقالات حول الكتاب في الصحافة العربية. وبعد عامين صدر كتابي (أقاليم النفس المتمادية) في نقد الأدب والثقافة. وقد يكون القسم الثاني من الكتاب أكثر أهمية من القسم الأول سيّما في تحديدي لمعضلات الثقافة العربية وهي: معضلة الحرية, ومعضلة العقل العربي, ومعضلة تصنيف المثقفين. غير أن معظم الذين كتبوا عن هذا الكتاب اكتفوا بتلخيصه دون مناقشة الأفكار التي أثارها أو بعضها على الأقل.

موتي الأول

           قبيل عودتي إلى لبنان مع العائلة كانت سيرين, ابنتنا البكر, قد سبقتنا إلى بيروت ملتحقة بالجامعة الأمريكية لتتخصص في علم الاجتماع. في عامها الجامعي الثاني وفي ربيعها التاسع عشر كان الفاجع الفاتك الذي ترك جرحاً ينزف على الدوام. خطف الموت سيرين من على شاطئ البحر. ما كنت أتصوّر أن القدر سيصفعني الصفعة المميتة. ما كنت أدرك معنى الموت. ما كنت أهابه حتى علمْتُ, أنها غادرتنا إلى الدرجات العلى. عاد جسد سيرين ولم تعد. كان ذلك في 11 أبريل 1995. لم أتمكن من تقبّل الفكرة طيلة أشهر. بعدها رحت أقنع نفسي أن أستعيد سيرين عبر الكتابة. كتابة ماذا? طبعاً الكتابة عنها. ورحت أكتب الصفحات عن سيرين حتى تجاوزت الخمسين صفحة. ولكنني لا أزال أكتب عنها, عن الصبية الجميلة التي لم تعد بيننا. إذن هي غائبة, وهذا ما لا أتحمّله. وبلحظة مزّقت تلك الصفحات وبدأت من جديد. هذه المرة أكتب إلى سيرين, أخاطبها, أناجيها, أخبرها عن معنى الحضور وسط الغياب, وعن وجع الغياب وسط الحضور. كتبت إلى سيرين الرسائل والقصائد, أو لست أدري ماذا كتبْتُ مادمت أنني كتبت لها عنها. وصدرَتْ تلك الكتابات في كتاب بعنوان (طقوس الماء أو رسائل إلى سيرين) في بيروت عام 1999.

           اليوم, وطعم الموت لا يزال يدور في حلقي, أحاول أن أضع فيه بعض المذاقات غير المرة وأنا أعمل في جامعة سيدة اللويزة في لبنان بصفتي نائب الرئيس للشئون الأكاديمية ثم نائب الرئيس لشئون البحث والإنماء. وأجد نفسي بين الحين والآخر, إلى جانب مهامي الجامعية, منشغلاً في كتابة حوارية ثلاثية الصوت ترمز إلى الزمان والإنسان والمكان, أنشر فصولاً منها على صفحات جريدة (النهار), علّني أوهم نفسي بأن الحياة لاتزال ممكنة بعد غياب سيرين.

           في هذه الرحلة الشاقة إلى عالمي الداخلي أجدُني, وقد اغتسلتُ بماء الشموس الربيعية وتعطّرت من جديد بعطر الأرض بعد فصل الشتاء, أُلَملِم أوراقي وأتابع طريقي فقطاري لن ينتظرني. وهو يسير كالزمن دون أن يلتفت من حوله. وإن تخلّفتُ تابعَ مسيره دون أن ينتبه إلى حضوري أو غيابي. يبقى أن أحمل ظهري على ظهري وأكمل ارتحالي في تجاعيد الأيام الآتية.

 

أمين ألبرت الريحاني   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أمين البرت الريحاني





أحد اصدارات أمين البرت الريحاني





كتاب يضم مخطوطات أمين الريحاني باللغة الانجليزية





من اصدارات أمين البرت الريحاني





 





 





كتب أخرى من اصداراته





 





 





مقالات نقدية يضمها كتاب مرايا متعاكسة