نظرة تاريخية على الأحجار العاشقة
نظرة تاريخية على الأحجار العاشقة
الشِّطرنج لعبة الحرب والحب الشِّطْرَنْج, بكسر الشين (ولا يجوز فتحها) وتسكين الطاء وفتح الراء وتسكين النون: هي اللعبة المشهورة التي ابتكرها الهنود في القرن الرابع للميلاد, وظهرت بدايةً في الهند الشمالية. عبر العصور جرى تشبيه لعبة الشطرنج بالحرب, ومن ذلك قول إيمانويل لاسكر, وهو البطل العالمي للشطرنج بين سنتي 1894 و1921: (إن لعبة الشطرنج هي حرب, تجب الاستفادة فيها من كل العوامل الممكنة وفيها تكون لمعرفة النواحي الجيدة والرديئة في الخصم الأهمية الكبرى). بل إن المصطلح الذي أطلقه الهنود عليها منذ البداية هو (تشَتُرَنْجَه) Chaturanja, أي الجيش المشكّل من أربعة عناصر, وهذه العناصر الأربعة تمثّلها على رقعة الشطرنج الفيلة والخيل والرخوخ والبيادق. وفي تلك الفترة المبكرة, كما يذكر المؤرخون, كانت في الهند طريقتان في لعبة الشطرنج, طريقة يلعبها لاعبان وطريقة يلعبها أربعة لاعبين, وتُعرَف هاتان الطريقتان بالصيغة ذات اليدين والصيغة ذات الأيادي الأربع. وأولى هاتين الصيغتين شديدة القرب من اللعبة المعاصرة في أنها تُلعب على رقعة ذات أربعة وستين مربعاً, وتحت سيطرة كل من اللاعبين ثمانية بيادق, وفَرَسان, ورُخّان, وفيلان, وملك ووزير. ويواجه الجيشان كل منهما الآخر, وهدف كل منهما هو أن يأسر الملك الخصم. ويتحقق ذلك سواء عندما يفقد الملك كل قطعه أو عندما يتهدد بالأسر على نحو لا نجاة منه عند النقلة التالية. ويكمن الاختلاف الأهم في تنقيلة الفيل. ففي اللعبة الهندية الأصلية, كان لا يستطيع إلا أن يقوم بقفزة مورَّبة نحو المربع المجاور. وبعد ذلك, ازدادت قوته بتخويله أن ينتقل إلى أي مربع مائل مجاور, أو إلى الأمام مباشرة. خيال فارس أما الصيغة الثانية في لعبة الشطرنج, التي يشترك فيها أربعة لاعبين, فقد ذكرها أبو الريحان البيروني بالتفصيل في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) ولا مجال للتفصيل حولها في هذا السياق. وكانت بلاد فارس هي أول البلاد التي انتقلت إليها لعبة الشطرنج. وأقدم مرجع أدبي يذكر الشطرنج هو قصة خيالية فارسية من القرن السادس للميلاد, أي بعد قرنين من ظهورها في الهند. وأصبحت كلمة (تْشَتُرَنْجَهْ) الهندية تقابلها في الفارسية كلمة (شَتْرَنْك) التي تعني ستة ألوان وذلك لأن للعبة ستة أصناف من القطع التي يُلعب بها وهي: الشاه والفرزان (أي الملكة) والفيل والفرس والرخ والبيدق. وكلمة الـ (شَتْرَنْك) هي التي ستُعَرَّب فيما بعد لتصبح (الشطرنج). وتزعم القصة الفارسية الخيالية أن أردشير مؤسس السلالة الساسانية في فارس (226 - 241م) كان بارعاً في الشطرنج, ولكن الأبحاث التاريخية المعاصرة تقول إن هذا هو محض خيال وحماسة قومية لأن لعبة الشطرنج لم تكن معروفة في زمن أردشير أصلاً. ولم تنتشر لعبة الشطرنج في فارس وحدها, بل في عدد من البلدان الآسيوية, فآسيا هي القارة الأولى التي عرفت هذه اللعبة. وبحلول القرن الحادي عشر كانت قد انساقت إلى الشطرنج الصين وكوريا واليابان وماليزيا وسيبيريا. وفيما بعد شكّلت لعبة الشطرنج لغة مشتركة بين الشرق والغرب, فمثلاً, عندما كان (دييغو لوبيث), قائد الحملة البرتغالية الأولى على (ملقة) سنة 1509م يلعب الشطرنج على ظهر سفينته, جاءه إلى السفينة أحد سكان جاوَة. وعلى الفور تبيَّنَ اللعبة وانخرط في حديث مع لوبيث حول نمط قطع الشطرنج التي يستخدمها أبناء بلده. ويقول المؤرخ المعاصر ليونيل كوتشن: (إلا أن مرحلتين في رحلة الشطرنج الطويلة لهما أهمية خاصة - هما الفارسية والعربية - لأنهما السَّلَفان المباشران للعبة الشطرنج كما يلعبها الأوربيون اليوم). وبالفعل, فإن عبارة Check Mate الإنجليزية, ومعناها (مات الشاه), التي يصيح بها اللاعب الآن تدل على التأثير العربي في كلمة Mate وأصلها فعل (مات) بالعربية والتأثير الفارسي في كلمة Check (الشاه) الفارسية, كما يشير إلى ذلك هارولد موراي, وهو من أكبر مؤرخي الشطرنج في العالم. ولكن بإسقاط العرب للإمبراطورية الساسانية في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب بدأ في العقدين الرابع والخامس من القرن السابع للميلاد الانتشار الكبير للشطرنج في أوربا. والخليفة عمر بن الخطاب نفسه لم يكن يعرف اللعبة, ولكن الإسلام قد نظر إليها بيسر. وكانت مدارس التشريع الإسلامي الأكثر صرامة تحرّمها, غير أن المدارس الأقل تشدّداً قد حلّلتها ولكن بشروط وهي ألا تُلعب اللعبة من أجل المال, وألا تتعارض مع تأدية الفروض الدينية, وألا تُلعب علانية, وألا تُفضي إلى اللغة الغاضبة, وألا تمثّل القطع صوراً شخصية. ومن المؤكد أن هذه التقييدات لم تحل دون تطوّر لعبة الشطرنج عند المسلمين. وترك لنا القرن الثامن حتى القرن العاشر بعض الكتيبات الإرشادية حول الشطرنج, وكذلك بعض المدوّنات عن لاعبين مهمين, ذوي مراتب في البطولة, وعن بعض الذين تخصّصوا في لعب عدة مباريات في وقت واحد معصوبي العيون. وكانت بغداد مركزاً كبيراً للشطرنج. وكان الخليفة العباسي هارون الرشيد لاعباً مهماً. وكان أبناؤه الثلاثة الذين خلفوه تباعاً لاعبين أيضاَ. ولكنهم لم يكونوا جميعا من الفئة العليا: كان الابن الأول, الأمين, ينغمس في اللعبة إلى حد أنه أهمل واجباته ذات مرة إبان حصار بغداد, وقد صاح الابن الثاني, المأمون, في أحد الأيام مستنكراً: (غريب أنني أنا الذي يحكم العالم من نهر السند شرقاً إلى الأندلس غرباً لا أستطيع أن أسوس اثنتين وثلاثين قطعة شطرنج في مساحة ذراعين بذراعين). ويبدو أن إحدى أولى البطولات العالمية قد جرت في إشبيلية نهاية القرن الثاني عشر, عندما تلاقى سبعة لاعبين من صقلية وفاس وطرابلس ومُرْسِيّة. اشتباك القطع ووفقا للمؤرخين المسلمين, فإن اللعبة التي كان يلعبها العرب مطابقة للأنموذج الفارسي. وهي تختلف إلى حد ما عن الصيغة الحديثة. كانت الفرس والقلعة تتحركان آنذاك كما تتحركان اليوم. ولكن كل القطع الأخرى, بقطع النظر عن الشاه (الملك), كان لها مجال حركة أشد محدودية بكثير. والوزير, أو الملكة, مثلاً, لم يكن يستطيع أن ينتقل إلى أي مربّع مجاور بصورة مائلة. وهذا يعني أن سير القطع كان أبطأ بكثير منه في هذه الأيام. والتنقيلات الاثنتا عشرة الأولى, على الأقل, يمكن أن تُلعب بأي نظام من دون مكابدة خسارة فادحة, لأنه كان يمضي وقت طويل قبل أن يكون بالإمكان أن يقع اشتباك بين القطع الرئيسة. وعندما كانت لعبة الشطرنج تُلعب وفقاً للقواعد الإسلامية في لندن سنة 1914 (بين هربت جاكوبز والسير جورج توماس) استغرقت أربعاً وتسعين تنقيلة قبل أن يستسلم توماس. وجاء الفتح العربي لإسبانبا في القرن الثامن - ومن ثم لجنوب فرنسا وجزر الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط بما فيها صقلية - بالشطرنج إلى عالم الغرب المسيحي. ويفترض الباحثون الأوربيون أن هذه العملية قد سرّعها العدد المتزايد من الطلاب الأوربيين الذين ذهبوا إلى إشبيلية وغيرها من مراكز البحث العلمي العربية. ومن قاموس اللغة العربية دخل مصطلح Mattus أي (مات) في قاموس اللاتينية القروسطية قبل العام (1000) للميلاد, ويعود تاريخ الدليل الأول على دخول الشطرنج في البيئة الغربية المسيحية إلى العام (1010) للميلاد. وقد عُرف الشطرنج في روسيا في الوقت الذي عُرِف في أوربا الغربية, ولكن ليس من خلال التوسّع الإسلامي بالتأكيد. ومع ذلك, وكما يقول الباحث ليونيل كوتشن وغيره من الباحثين المعاصرين, فقد كان العرب هم الذين جاءوا باللعب (إلى روسيا أيضاً وتفترض الفرضية الأكثر معقولية من غيرها أنها دخلت عن طريق الطرق التجارية التي تصل جنوب روسيا ببغداد, في القرنين التاسع والعاشر للميلاد). وفي روسيا, سرعان ما خضع الشطرنج للتقريع الإكليروسي وصار محرماً على رجال الكهنوت. وكان يصنَّف مع النشاطات المدانة الأخرى كالعزف على المزامير والكمنجات, والانغماس في الشراب المفرط, وغناء الأغنيات الشيطانية. وفي القرن السادس عشر امتدّ التعنيف ليشمل الناس العاديين. وقد تضمنت مجموعة القوانين المدنية التي أصدرها إيفان الرهيب سنة (1551م) الشطرنج بين (أُلْهِيات الخبائث الهيلينية) وأعلنت أن هذه اللعبة غير قانونية. وثمة دليل من الأراجيز والملاحم على أن هذا المنع كان موضع استهانة على نطاق واسع - وعلى الأقل من الأشراف والتجار. شعبية اللعبة وفي الغرب, في غضون ذلك, واجه الشطرنج في البداية ما واجهه في روسيا من التقريع الإكليروسي. ولكن ذلك لم يوقف انتشار اللعبة. فمن خلال الطلاب العائدين من مراكز البحث العلمي المغربية وصل الشطرنج إلى إيطاليا, وبشكل غير مباشر إلى ألمانيا وسويسرا وبوهيميا والمجر وبلدان البلطيق. وليس ثمة دليل يعوَّل عليه على وجود الشطرنج في إنجلترا قبل الفتح النورماندي - برغم أن كانيوت كان لاعباً - فالمحاجَّة الأرجح تفترض أن اللعبة وصلت إلى إنجلترا عن طريق النورمانديين. وعلى الرغم من هذا السياق التحريمي, ففي إنجلترا على الأقل, وعلى الرغم من التوبيخ الكنسي, فلا شك في شعبية اللعبة واسعة الانتشار في العصور الوسطى. وفي أوربا خارج بريطانيا, كانت رقعة الشطرنج ومجموعة القطع تنتمي إلى الجهاز الأساسي للتروبادور أو المنشدين الجوالين. وبالفعل, كما يقول موراي, فإنه (خلال الجزء الأخير من العصور الوسطى, ولاسيما من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر, اكتسب الشطرنج شعبية في أوربا لم تُبَذَّ ومن المحتمل أنه لم يصبح لها مثيل في أي تاريخ لاحق). ففي الجيتو اليهودي والدير المسيحي, وفي قصر النبيل وفي البيت الفخم لعضو المجلس التمثيلي, أصبح الشطرنج التسلية الشعبية. وتحتوي الرومانسات القروسطية على إحالات خيالية كثيرة إلى اللعبة - إلى الألعاب التي لعبها الإسكندر الكبير وشرلمان وإلى شعبيتها في بلاطي مريام والملك آرثر. ولكن مراجع أخرى تجعل من الواضح أن لهذه الخيالية أساساً في الحياة المعاصرة - ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالحب. فإن لانسلوت زار محبوبته غينيفر مدّعياً أنه سيلعب الشطرنج, وتريستان زار محبوبته إيزولد متذرّعاً بالزعم نفسه. وكان أدب السلوك الفروسي في الشطرنج يتطلب من الفارس أن يخضع براعته لبراعة محبوبته, والمحبوبة قد تعلّمت كذلك أن معرفة اللعبة ستزيد من فرص مطارحتها الغرام. مناورات العشاق وقد منح الشطرنج نفسه لحكايات الحب المجازية, كما في قصيدة فرنسية من القرن الرابع عشر, مثلاً, عنوانها (أحجار الشطرنج العاشقة) رسمت توازياً بين حركات اللعبة ومناورات العشاق. ولكن النشاط الغرامي الذي قد يرتديه الشطرنج لا يفسِّر وحده شعبية اللعبة. فما كان وثيق الصلة بذلك إنما هو عزلة النبلاء وقنوطهم في زمن اتجهت فيه الحكومات الأقوى إلى حرمانهم من بعض علّة وجودهم. ويضاف إلى ذلك أنه كان للشطرنج, بوصفه عملاً داخل البيت, احتكار بحكم الواقع. وهكذا أصبح الشطرنج شعبياً, فهو على الرغم من الاستهجان والتعنيف الإكليروسيين الأولين, فقد تمّ استخدامه عند الضرورة بوصفه أخلاقاً
|