حسين برغوثي واغتيال الإبداع الفلسطيني

 حسين برغوثي واغتيال الإبداع الفلسطيني
        

          فجر اليوم الأول من مايو 2002, كان فجرا كئيبا للمثقفين والمبدعين الفلسطينيين الذين عرفوا حسين برغوثي, الشاعر والناقد والأستاذ الجامعي الفلسطيني, الذي رحل على نحو فاجع ومأساوي وسط اشتداد الهجمة الصهيونية والحصار على شعبنا في فلسطين.

          إن تلك الهجمة وهذا الحصار الصهيوني كانا في مقدَّم الأسباب التي عجَّلت برحيل كاتب ومثقف قدَّم الكثير, وكان لا يزال يعد بالأكثر حين رحل عن ثمانية وأربعين عاما, تاركا لنا إبداعات ذات سوية عالية, وقدرة على التجريب والتفجير غير عادية.

          فبرغوثي لم يمت بأورام السرطان فقط, بل بسرطان أشد بغضا وقسوة, هو سرطان ممارسات الاحتلال البشع.

          كان حسين على موعد مع جرعته في أحد مشافي رام الله, وكانت الجرعة تنتظر تصريحا على جسر من جسور الأردن, غير أن العدو الصهيوني, منع الجرعة الدوائية من اجتياز الجسر, كما لو أنها سلاح نووي, مصرا على أن يظلّ غولا يغتال أجمل ما في الحياة, حياة العربي والفلسطيني خصوصا. وتخسر الحياة الثقافية والفكرية والأكاديمية عَلَماً بارزا, أثار جدلا كثيرا من حوله, بكتاباته كما في سلوكه كأستاذ متحرر من قيود التقاليد الجامعية الجامدة, وقد خسره وأشار إلى افتقاده عدد ممن تلقوا العلم معه أو على يديه, زملاء وتلاميذ عرفوه تلميذاً في جامعة بير زيت, ثم مُدرّساً صديقا للطلبة فيها, و(مريدين) رأوا فيه واحداً من متصوفة هذا الزمان وثواره ومعلميه.

          لقد بدا رحيل برغوثي أشبه بنكتة سوداء, فقد رحل في اللحظة الفاصلة تماما بين اشتداد الحصار على الشعب, وانتشار المجازر في رام الله ونابلس وجنين, وبين لحظة فكّ الحصار عن ياسر عرفات, بعد ذلك المشهد المحتشد بالسواد. ففي الوقت الذي كان الصهاينة يخففون الحصار عن عرفات, بعد ترحيل وتسليم واعتقالات ومجازر هزّت العالم, في تلك الليلة, وبعد الساعة الثالثة صباحا, كان أصدقاء البرغوثي يجتمعون حوله, ويتحدث إليهم ويوصيهم بدفنه بين أشجار اللوز, حيث ولد العام 1954, في قريته (كوبر) (قضاء رام الله), لكنه ظل يناقش المخرج فرانسوا أبو سالم في موضوع مسرحية (لا. لم يمت), التي كتبها برغوثي ليخرجها أبو سالم. ثم فجأة, ابتسم ابتسامة محايدة, كما يقول أحد الحضور, وساد صمت غريب. صمت تلاه عويل زوجته وابنه الوحيد (آثر) (أربع سنوات).

          عن اللحظات الأخيرة مع برغوثي, وفي افتتاحية العدد الأخير من فصلية (الشعراء) التي تصدر من بيت الشعر الفلسطيني (وكان حسين برغوثي أحد مؤسسي هذا (البيت)) كتب الشاعر غسان زقطان: (قبل يومين من رحيله جلسنا طويلاً, فرانسوا أبوسالم ومراد السوداني وأنا.. كنت أحاذر أن أرهقه بالحديث, وبدا, على غير عادته, صموتا في الأيام الأخيرة, كان الكلام يُنهك رئته ويسرق الأوكسجين الذي تحتاج إليه.. فجأة بدأ يتحدث, وبدا أنه يستردُّ صوته وحيويته وقدرته المذهلة على مد تلك الجسور الذكية بين المعرفة والإبداع. تلك بالضبط كانت نقطة حسين القوية, وهناك كان يتبدى امتيازه..). ويضيف زقطان واصفا الجو الاحتلاليّ (في الرابعة صباحا بدأ جنود الاحتلال يطلقون النار في الشوارع المحيطة بالمشفى كان صوت الرصاص يصل إلينا في الغرفة, وكانوا يقتربون من قلب رام الله, وكانت أصوات الركض وإعداد البنادق في أيدي المقاومين تصل إلينا أيضا من الشارع القريب. الدواء الذي انتظره لم يصل بعد, اعتقله جنود الاحتلال على جسر الكرامة..). ثم راح الأصدقاء يدفعون عربة تحمل جسد برغوثي في تلك الصّبيحة الباردة.

أبعاد مأساوية

          إنَّ ما تركه برغوثي, الشاعر والناقد والمفكر والأستاذ الجامعي, سيبقى مادة حوار وجدل وإثارة عقليّة, حين تقوم مؤسسة عربية ما بنشر, وإعادة نشر, كتاباته النقدية والإبداعية. فإلى جانب محاضراته وكتاباته النقدية ومحاوراته مع طلبته وزملائه, أغنى برغوثي مكتبة فلسطين بعدد من الكتب, نذكر منها الدراستين النقديتين (أزمة الشعر المحلي) (سقوط الجدار السابع).

          ورواية واحدة هي (الضفة الثالثة لنهر الأردن). وله في الشعر مجموعات عدة, هي (الرؤيا) 1989, (ليلى وتوبة) 1992, و(توجد ألفاظ أوحش من هذه) 1998, و(مرايا سائلة) 2000, إضافة إلى نص (حجر الورد), وله كتابان في الـ (سيرة) لم يشهد الأدب العربي مثيلا لهما, في اعتقادي, وهما (الضوء الأزرق) الذي يحتاج إلى وقفة متأنية, و(سأكون بين اللوز), وهذا الأخير كان آخر كتاباته, وربما أجملها, وقد نشر جزأين منه في مجلة (الكرمل) (التي يرأس تحريرها الشاعر محمود درويش), وقد كتبه برغوثي بعد اكتشاف إصابته بالسرطان, ولموضوع الاكتشاف هذا قصة ذات بعد مأساوي تستحق التوقف عندما أكتب عن النص.

          لقد جمعني بالراحل لقاء وحيد, لقاء مفاجئ بلا أيّ ترتيب أو مقدمات. ففي إحدى زياراته العلاجية الأخيرة إلى عمّان, التقينا. كان يسعى للتعرف إلى البلد وكل ما يجري فيها. وفي تلك الليلة اليتيمة, كان ذلك اللقاء الأول والوحيد, الذي جعله حسين لقاء ليس أخيرا أبداً, لأن حسين جعل منه ندوة فكريّة, ولقاء محبّة ورباط صداقة, علاقة لا تنتهي حتى برحيله الفاجع لنا.

          فحسين برغوثي, الشاعر والناقد والمثقّف, واحد ممن يسكنون القلب والروح, ولو عبر لقاء عابر وغير مرتّب سلفاً.

تجربة بلا حدود

          من يقرأ شعر البرغوثي, يجد نفسه أمام شاعر تجريبيّ بلا حدود. شاعر مسكون بهاجس الاختلاف والتغريب. لكنهما تجريب وتغريب ينطلقان من عباءة الأسلاف, لتجاوزها وليضيف إليها حداثته المميِّزة والمميَّزة. وإذ نتأمل في تجربته المتمثلة في آخر مجموعاته الشعرية, وهي (مرايا سائلة (اتحاد الكتّاب الفلسطينيين - القدس, 2000), سنرى كم هو فصيح وعميق هذا الألم الذي كان يعبر عنه هذا الشاعر. وكم هي كبيرة, في المقابل, شهوة العيش والفرح لديه. وكم عميق هذا الحفر في بئر أسرار الحياة وكواليسها وكوابيسها.

          هو في الشعر, مثله كما هو في الحياة, يشتهي كلَّ جديد, لكن ليس لكونه جديداً وحسب, بل لما يحمله من تغيير. فليس كلّ جديد تغييريا وحداثيا. لذا نراه في قصيدة بعنوان (التحولات), وهوكثيرا ما يكتب عن الشعر في القصائد, نجده يكرّر ألفاظا وعبارات من حقل التحولات هذا, ففي مطلع القصيدة يقول (صياغة أخرى قصدت), يعني (غير) الصياغة الأولى, و(غير) صياغته الأخيرة. والتركيز هنا على مفردة (غير), وهي مفتاح التغيير في النص. لكنّ النص محتشد بمفردات وألفاظ وتعبيرات تؤدي إلى معنى التغيير, كالخروج, وعدم الاستساغة, والسعي للضفة الأخرى, والاشتهاء لغير ما كان يشتهي, وهو (الخروج عن الذي سمّيت) حينا, و(الرقص النقيض) حينا, وهو دائما يقصد (شيئا لا يحدّ وليست تفهمه الحدود). والقصد يقود إلى القصيد والقصيدة. (القصيدة التي في ذهنها بركة ينعكس فيها ظل القصيدة العظمى للكون, والتي لن تكتمل إلا في نهاية التاريخ, الشاعر بركة, مرآة سائلة تعكس جزءاً من هذه القصيدة, كما تعكس بركة قصر الحمراء جزءا من القصر..).

          كما يشتغل الشاعر في منطقة خطرة جدا على الشعر, بقدر ما يمكن أن تكون مفيدة له, هي منطقة الأسطورة التي تتقاطع مع الموروث, لتفكيك تاريخ الذات وهويّتها الممتلئة بذاتها. وإلى ذلك ثمة حوار في قصيدته بين الفن التشكيلي والشعر, وبين الشعر والتصوير, وبين الشعر وتصميم الأزياء. وفي كتابه (مرايا سائلة) مخرجة سينما أو مسرح.. تعمل على تقطيع الشعر بأسلوب مونتاج.. وتأتأة! 

في ظل (الضوء الأزرق)

سأصعد إلى الضوء الأزرق عارياً, وحدي,

ومن بعيد, حتماً, بقلبي,

سأعرف طيوراً أخرى تسري نحو مسراي ذاته,

طيوراً سأحييها من بعيد,

سأقتل في نفسي كل حزن يكسر روحي,

ويشكو من (وحدة الرحلة), وأرقص.

          بهذه العبارات, ذات النَفَس المتصوف, يتناهى نص الشاعر في سيرته, كما تتناهى روح معذبة بالعالم وبالبشر وبالحياة. روح عذَّبها الخوف وملأتها التجارب, بقدر ما أجّجتها الرؤى والهواجس والأحلام. الروح التي يحتشد النص بها, إلى جوار القلب والعقل والنفْس والجسد, والوجه الذي يرتدي أقنعة (العادية), والشخص الذي يتشبه بـ (مركز الدائرة), في محاولة لتعرية الذات, ولمعرفة (أسرارها) التي ترتبط وثيقاً بما يدعوه الكاتب بـ (الضوء الأزرق).. عنوان النص وإحدى مفرداته (المكوّنة).

          تبدأ الرحلة/ النص من لقاء المؤلف (حسين) بالصوفي التركي المدعو (بري), في أمريكا.. وهذا صوفي (من طائفة الدراويش الدوّارين), من أتباع مولانا جلال الدين الرومي الذي سنّ الرقص لهم وله). الرقص بوصفه طقسا يرتبط بالعقل والوعي والفهم والحالة الذهنية للشخص.

          حيث (الوصول) إلى حالة (الضوء الأزرق) هذا, يتم بإحدى طريقتين: إما بالرقص أو بالعقل.

          الرقص الذي يعني حركة الجسد, التي - بدورها - تعني (الوجود) في الحياة, لا مجرد الوجود فيها. والعقل الذي يمثل المفاهيم, التي تعني الوصول (بكلام يفيض مني عليك, ومنك عليّ, حتى تتعلم أن تفيض من نفسك على نفسك), كما يقول (بري) لـ (حسين). ويوصف من ينجح في (الوصول) إلى الضوء الأزرق (بالعقل الكل) (.. يقصد (العقل الكلي) عند الفارابي, مثلا).

          النص الذي يبدأ باللقاء بين (حسين) والصوفي (بري), وينتهي بالافتراق المؤلم, له بدايات أخرى, عودة إلى حكايات الطفولة, وتداعيات ومونولوجات غنية بالتأمل في الداخل. ففي بداية اللقاء, نحن أمام شخص (منفصم) إلى ظاهر وباطن, داخل وخارج: في الظاهر هو طالب (في برنامج الماجستير في الأدب المقارن في جامعة واشنطن, سياتل). لكنه, داخلياً, كان (على حافة الجنون, أعني يهيمن عليّ رعب ما من أنني سأفقد عقلي), فهو اختار هذه المدينة هرباً من المدن الكبرى (نيويورك) بحثاً عن منطقة طقسها معقول, وعن وقت لترتيب فوضاه.

          علينا الانتباه إلى ثنائيات: داخل/ خارج, باطن/ ظاهر, قشرة/ جوهر. فقراءة نص البرغوثي, قراءة جادة, تستوجب المعرفة المعمقة بمجموعة من مراجع الصوفية, وبعدد من الكتب المختصة بحضارات الشعوب البدائية, وبقدر واف من نظريات علم النفس.. الخ. فمن غير الممكن - مثلا - التوصل, مع الكاتب, إلى معرفة مدلولات (الأزرق), التي ترد في عبارات عدة (الطائر الأزرق, النمر الأزرق, وسواهما) من دون الاطلاع على بعض مصادره التي قد يكون استقى منها تلك المدلولات. وهو يعطينا شيئا من مفاتيحه, فيورد عبارات عن (نص مقدس وجميل جدا, وحتى مذهل, للهنود الحمر يدعى (حلم الأيل الأزرق), في كتاب (نصوص مقدسة), وهو كتاب طريف وضع فيه صاحبه (البيان الشيوعي) من جملة النصوص الدينية...) إلخ.

رحلة الخلاص

          الرحلة الغريبة هذه, هي - في الأساس - رحلة للخلاص مما يعانيه الراوي في اقترابه من حافة الجنون, عبر نقاط احتكاك كثيرة مع (بري) أساساً, ومع آخرين, نشعر معها - كما يشعر الراوي - كم هي الحياة غنية (الحياة نهر)) يقول (بري) في توجيهه لـ(حسين), والنهر واسع, كل إنسان (يغترف منه بحجم فنجانه), وكان فنجان حسين صغيراً! ونشعر كم كان صعباً على حسين - مثلاً - اجتياز (الخطر) الذي كان يخشاه, لولا شعوره بأن في إمكانه, لو (أراد), أن يكون خطراً... حيث (الإرادة) قادرة - وحدها - على تحقيق حرية الفرد. وفي لحظة, تتحقق فيها ذات الراوي, وتتضخم حتى تغدو في حجم (مدينة سياتل), فيحب ذاته هذه, رغم ما يقود إليه الموقف من انفصال عن (المعلم), فالشعور بالحرية يكبر مع تحقق الذات.

          ما بين لحظتي اللقاء والافتراق, يسأل حسين (المعلم) عن أشياء كثيرة, ويسمع من الإجابات ما يفهمه وما لا يفهمه, ما يعتبره لغزا, وما يرى فيه جمال لغة ساحرا, أو نفحة من الجنون, أو ما يسميه شكسبير (عقل في الجنون), حينا آخر. وأهم ما يتعلمه من صديقه الصوفي, أن يحدق في داخله بدلا من التعلق بالخارج, فهو يقول له (هناك كائنات مرحة في الداخل أكثر مما في الخارج), والمرح هذا سمة بارزة في هذا الصوفي تتمثل فيما يدعوه بـ(الحس الذهبي بالفكاهة), وهو شكل من أشكال السخرية, سنجد ظلاله في مقاطع من هذا الكتاب, رغم ما يبدو من هيمنة الشعور بسوداوية العالم.

          وكما أن للحكاية أفكارها وخطوطها, فإن لها ألوانها وتأويلاتها المبتكرة. ففي عنوان (مقدمة في علم نفس الضباب), نرى (بطل الحكاية) على حافة الانهيار, يلجأ إلى الحبوب المنوّمة والمهدئة, ويدخل في علاقة مع ثلاثة من الأمكنة التي ستغير (تاريخه كله. ففي سينماتك (الوهم العظيم), وحانة (القمر الأزرق), ومقهى (المخرج الأخير), سيبدأ لقاء (المؤلف) بـ (أبطاله), الوهميين والحقيقيين (سوزان, دون, جوني, وسواهم من شخوص الحاضر والماضي), حيث جذبته أسماء الأمكنة, وخصوصا (القمر الأزرق), وبتحديد أكثر جذبه اللون الأزرق, فهو يعتقد بما قيل عن هذا اللون إنه (مضاد للهياج الجنسي - كنت ثوراً جنسياً - وقيل مهدئ للأعصاب.. والعصبية إرثي, أبي مشهور بعصبيته). كما يتأثر بقول الطائفة الصوفية النقشبندية إن في الإنسان أنفسا عدة, ولكل نفس هالة أو ضوء خاص بها, والأزرق هو لون النفس الأمّارة بالسوء. أما في بوذية التبت, فالأزرق هو لون أول كائن فاض عن طبيعتنا الأولى التي لا لون ولا هيئة لها. هو لون طاقة الخلق فينا. وإذ يعتقد أن لكل موسيقى لوناً, فإنه يكتشف أن النوطات التي سحرته في إحدى سوناتات موزارت كانت زرقاء!

          حين يعود بنا حسين إلى طفولته, في قريته الفلسطينية, نرى طفلا جبليا فظا, لكن فيه خوفا هو (خوف الجبل من البحر), ومن اللافت أن الجبل سيكون المنقذ له من كثير من البحار التي يجد نفسه أمامها. وسيظل حلم البحر يطارده, هو ذلك الجبلي الفظ, إلى أن يغريه البحر أن يلتقي نفسه, ويبدو في حاجة ماسة إلى الأمان والتوازن, ويشعر بأن العالم يغتصبه حتى القلب, فيبكي ويبكي, حتى يقول له (بري): (دموعك آخر شكل للفيضانات: الآن البحر يرشح منك على هيئة دمع... تعارف طفل الجبل الذي فيك والبحر الذي فيك, وصرتما واحدا, واتسعت, فطوبى لمن يتسعون). وفي عودة إلى طفولته, سنجد أن الروحانيات التي سيبحث عنها, في سياتل, أو سيلتقي بها عرضا, لها جذور في تلك الطفولة, سواء أسمينا (هذه الروحانية جناً, أو قمراً دخانياً, أو لغزاً, أو غولاً أو بلاهة, أو حكاية شعبية...), فقد كان الطفل الجبلي ذاك متعددا يشعر أنه يوجد فيه (أشخاص كثيرون). لكنه بين هؤلاء الأشخاص الذين يسكنونه, كان هو الكائن الذي بلا اسم, بين (المسمى) و(اللامسمى), ومفتونا بسحر اللغة والكلمات المغلقة.

          غربة هذا الكائن لم تبدأ من غربة المكان (الأمريكي), بل من غربته في بيته وبيئته وحارته ووطنه, حين كان الناس يسمونه (الأهبل), و(السطل), و(الأطرش), ثم فجأة راحوا ينادونه بـ(العبقري), وتجسدت غربته المبكرة في (حب الأشياء), بدلا من حب الناس. وكان لقب (الأطرش) يلائمه, لأنه يتيح له أن لا يسمع ما لا يريد أن يسمعه. فنما الطفل وحيدا, كثير التفكير والتأمل في كل ما يلتقي به من (أشياء) كأنه كان يستعد لهذه الرحلة الصوفية, للاستشفاء من وحدته بوحدة أعمق!

          ثمة الكثير من الأفكار والآراء التي تستحق الوقوف عندها, خصوصا فيما يتعلق بموقفه من - وفهمه - مفردات مثل, الحياة, الذهن, الحقيقة, الكلمات, الكتابة, الواقع, الخيال, الذاكرة, وسواها الكثير. وهذه جميعها نتاج تجربة معيشة, أو نتاج ثقافة وقراءة معمقة في الثقافات وحقولها المتعددة: الفلسفات, علوم النفس والمجتمع والإناسة, الآداب والفنون والأديان... الخ. وهنا لابد من إشارة سريعة, إلى التقاطع - أحياناً - بين صنيع كاتبنا - برغوثي وصنيع (بورخس), خصوصا في الاتكاء على تقنيات الكتابة الحلمية, وفي الاتكاء على موروث الشعوب وثقافاتها. كما يمكن الإلماح إلى حضور (كونديرا), من خلال (خفة الكائن...), ويبقى أن أشير, أخيرا, إلى ميزة يندر أن تجدها في كتابات الشعراء النثرية, هي ميزة التفكير النثري التي ترتبط - بلاشك - بقدرة عالية على التركيز, وبإدراك واضح للأشياء, العناصر والمفردات, التي يتناولها النص. ولكن هذا النمط النثري من الكتابة, لا يلغي الإفادة من جماليات اللغة الشعرية وصورها حين يتطلب الأمر ذلك, بل يخلق عباراته ذات الشعرية العالية, ولكن في السياق النثري المذكور. سيظل هذا الكتاب, كما كان مؤلفه, صرخة فكرية وإبداعية في ليل هذه الحياة التي تخذل الإنسان عموما, والإنسان المبدع خصوصا, صرخة محملة بأسئلة لاذعة كالجمر.

بين اللوز

          يصف برغوثي في نص (سأكون بين اللوز) أسبوع انتظار نتيجة فحص الدم, بعد أن شك الطبيب بوجود الإيدز, بأنه يشبه (فصل في الجحيم), ونجده فيه حائرا: هل يخبر زوجته? وابنه آثر ما مصيره? والأقسى أن يتمنّى لو يخبرونه بأنه مصاب بسرطان, هذا أسهل. السرطان وردة, نعمة إلهية... هل يذهب وينتحر في البحر? لكن البحر سيعيد جثّته ويكتشفونه, لن يكون جبانا, سيواجه بترا (الاسم الذي يحبه لزوجته وليس اسمها الأصلي), هي عظيمة, تقول له (المهم أن نموت معا), وحين تخبره الممرضة أن نتيجة فحص الدم (نيجاتيف), يطير (رجعت طفلا) يقول. ويروح يركض في ممرات المشفى, يلتقي بالطبيب المختص بأمراض الدم, يخبره أن النتيجة نيجاتيف, وأنه ليس مصابا بالإيدز, لكن الطبيب يعاجله (تقرير المختبر وصل, عندك ليمفوما, سرطان في الغدد الليمفاوية..) فيقول إنه لا أهمية لذلك. المهم أن بترا وآثر خارج اللعبة الآن, وسيلعب وحده مع الموت/القدر. وخرج من المشفى شارد الذهن, لكنهّ فجأة انفجر ببكاء قديم. وراح, للمرة الأولى منذ بدء المشكلة, يفكر بنفسه.

          زمنياً يبدأ النص من لحظات المرض العصيبة, فيسرد المؤلف حضوره وإقامته في مستشفى رام الله, هو المريض بالسرطان, فيما المشفى يعجّ بجرحى الانتفاضة, فيرى نفسه خارج السياق كـ(مريض متطفل يمشي نحو مصيره وحده... بهواجس فردية. لست زائرا, ولا معافى. ولا جريحا ولا على وشك الشهادة, مريضا عاديا, لفظة حائرة بين قاموسي الموتى والأحياء, بماذا يشعر كائن قدره أن يراقب?). وفي لقطة أخرى, ينظر فيجد نفسه هناك (بين الولادات الجديدة في الطابق العلوي, وبين ثلاجة حفظ الموتى تحت). فأي مغزى وجوديّ لهذه المنطقة التي تقع بين الموت والولادة?

          أما البداية النصيّة, فيبدأ نص (سأكون بين اللوز) بعودة المؤلف/السارد إلى قريته كوبر بعد ثلاثين عاما من الغياب عنها, يقول (أعود للسكن في ريف رام الله, إلى هذا الجمال الذي تمت خيانته). ثم يعود إلى ما قبل العودة (كنت أخطط لعودة منذ زمن, فزرت جبال طفولتي ليلا)...

          وقد أكّد السارد أن ما أرجعه إلى القرية هو إصابته بالسرطان, ووجع في أسفل الظهر مستمر حد الملل. والملل, كما قال عنه كيركجارد (مرعب إلى حد لا يمكنني عنده أن أصفه إلا بالقول إنه مرعب إلى درجة مملة). لذا كان عليه أن يبدأ من هذه المحطة الصعبة (أنا ممن يتقنون البدايات, وليس النهايات. وعودتي بالتالي نهاية غير متقنة... رجعة غير محكمة الحبكة...).

          وفي زيارته للقرية, وبين خرائب (دير) قديم ومهدم, وقف هناك يتأمل في البدايات والنهايات.. يسمع بكاء طفل, أو صوت كائن لا يرى في هذا البر الواسع, يتبع الصوت فيهرب. يتركه فيتبعه الصوت. يتبعه للحقل الأول فيبدو الصوت من الحقل الثاني... ظنه ضبعا, ولكن ليس لضبع (صوت بهذه الرقة... بهذا الحزن والطفولية والشعور الماورائي...) أشعل عود ثقاب وعاد صوب الدير... يتذكر قدورة, عم أمه, والحية الزعراء التي قتلته وطارت تزغرد.

          هذا جزء من الجمال الذي سبق للمؤلف خيانته, وهو ذو أبعاد ومعانٍ متعددة, فمن جمال الطبيعة الظاهر في النص, إلى جمال العيش وتفاصيل المكان في ذاته حينا, كما في علاقة البشر به, أو حتى في علاقة المكان بالعدو المغتصب والمحتل. فالمكان يملك أن يقيم علاقة وثيقة مع أهله وأصحابه الذين سكنوه آلاف السنين, لا تشبهها علاقته بالغزاة العابرين. وهنا يظهر برغوثي مقدرة عالية على فهم تفاصيل العلاقات بين العناصر. فهو ينظر إلى (مستعمرة حلميش عندهم), و(مستعمرة النبي صالح عندنا) ليميز بين تاريخين وعالمين. ويبرز علاقة المستعمرة بالأرض الفلسطينية, أرض القرية, فالمستعمرة (معلقة في الفضاء... لم تلمس الأرض ولا التاريخ بعد). ثم يتحول إلى ساكن المستعمرة متسائلا (ماذا يرى مستعمر جاء من روسيا أو أستونيا, ربما قبل سنة فقط, حين يفتح شبّاكه ويحدّق في نفس هذه الجبال التي أنا فيها الآن? ماذا يرى, أو يدرك, من هذه الجبال التي تسبح في تاريخها وتبزغ منه?). إنه سؤال الفارق بين علاقة حميمة وأخرى سطحية

 

عمر شبانة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات