اكتساح القسطنطينية

اكتساح القسطنطينية
        

          أول شيء فعله البابا جان بول الثاني حين زار سوريا في مايو 2001, أن قدم اعتذاره إلى الكنيسة الأرثوذوكسية لإنطاكية وسائر المشرق, عن مباركة بابا روما سنة 1198 لتوجه الحملة الصليبية الرابعة إلى القسطنطينية بدلاً من فلسطين. فما قصة تلك الحملة وما سبب الاعتذار? هذا الكتاب هو الجواب.

          الكتاب الذي ترجمه وقدم له إدغارهولمز ماكنيل قديم - جديد, فهو قديم لأنه نشر منذ ثمانين عاماً ولكنه باللغة الفرنسية القديمة وأسلوبه بدائي تماماً كما ورد في المخطوط, فلم يحظ بالاهتمام لصعوبة المطالعة والمتابعة. فالمؤلف كان أمياً, فارساً بسيطاً من صغار الفرسان الموالين لكبار الفرسان من النبلاء, ولذلك فقد أملاه على غيره بأسلوب ساذج بسيط يشبه إلى حد بعيد بعض قصص ألف ليلة وليلة, أو الحكايات التي كانت تقرأ من قِبل ما يسمى بـ (الحكواتي) في ليالي الشتاء, وتحفل بالتعابير التقليدية للاستطراد والمراجعة, كقولهم (هذا ماكان من أمر فلان وأما ما كان من أمر الآخر فإنه...), وهكذا.

حروب الفرنجة.. إلى متى?

          الدافع لهذا الفارس البسيط لإملاء أحداث الحملة, هو ما شاهده من أهوال وفظائع مروعة, ومذابح أُنزلت بشعب هم من أبناء دينه وإن اختلفت المذاهب, وذلك بغية الاستيلاء على ثرواته وخيراته وكنوزه وتحفه وأمواله, فاهتز ضميره وتزلزل كيانه, مما أقض مضجعه وجعله يلجأ إلى هذه الوسيلة كاعتراف ليبرأ مما يعانيه من عذاب الضمير.

          وقيمة هذا الكتاب اليوم, في أنه تأكيد آخر بأن الحملات التي يشنها الغرب على العالم العربي والإسلامي في الماضي والحاضر, إنما تهدف إلى الاستيلاء على مصادر الثروة في تلك البلاد ونهب خيراتها, وما أشبه اليوم بالأمس, فالغاية واحدة ولو اختلفت الشعارات. ففي الماضي كانت تأخذ طابعاً دينياً والدين منها براء, ولقد أصاب العرب حين دعوها بحروب الفرنجة.

          في تقديم الكتاب يقول المترجم: (لم يحظ مخطوط كلاري من قبل بالاهتمام الذي يستحقه وذلك بسبب انحساره في ظل مواطنه: جفري فيل هاردوين. وأول إصدار له كان عام 1924 ولم يكن له ترجمة باللغة الحديثة), ويضيف: (وآمل أن يجد القارئ هذه الترجمة - وهي من الفرنسية القديمة إلى الإنجليزية - مثيرة لاهتمامه. فالمؤلف كان فارساً عادياً خاض تجارب مذهلة, وشاهد الكثير من الأهوال والفظائع وسجل كل ذلك بكلماته البسيطة العفوية).

          هذا والكتاب يتألف من قسمين. التقديم: وفيه يتحدث المترجم عن المؤلف والمخطوط والإصدار والقيمة التاريخية, وقيمة المؤلف كمؤرخ زامن الأحداث وعاشها, وأخيراً الترجمة وما بدله من تسميات إلى ما يعادلها بالإنجليزية.

          أما القسم الثاني فيتضمن المخطوط كاملاً, وملحقاً يفصل الحديث عن الأسطول والقوات التي استخدمت في الحملة.

          وينهي المترجم التقديم بقوله: (من بين الأحداث المروعة والعديدة التي وقعت في العصر الصليبي, نواجه بالمفاجأة المذهلة, وهي: قرار الفرسان الفرنسيين ورجال البحر البنادقة الذين كانوا أعدوا حملة لإنقاذ الأرض المقدسة, فإذا بهم يحولونها إلى القسطنطينية, وينتهون بالاستيلاء عليها). ويورد المترجم ما ورد في آخر المخطوط على لسان روبرت كلاري حين يقول:  (والآن لقد استمعت إلى الحقيقة, وكيف جرى اكتساح القسطنطينية, مِن شاهد عيان كان هناك وسجل ما شاهده وسمعه).

انتقام وأطماع

          يبدأ المخطوط بحديث عن نشوء فكرة الحملة الصليبية الرابعة, وكيف أنها أعدت أصلاً للانتقام من انتصارات صلاح الدين, والتي كان بعضها عسكرياً كمعركة الاستيلاء على القدس, ومعظمها - كما يدعي المؤلف - بسبب دهائه الذي حقق له فتوحات من دون معارك أو قتال, هذا بالإضافة إلى خيانات بعض القادة وتعاونهم. ويذكرون على سبيل المثال حصار عسقلان الذي صمد لحصار صلاح الدين, وكيف أنه ساوم ملك القدس الذي كان أسيراً عنده بأن يقنع المحاصرين على الاستسلام مقابل إطلاق سراحه, وهذا ما حدث بالفعل. ثم يذكرون حصار صور الذي كان  الماركيز مونت فيرات وحاميته يعانون خلاله ويلات الجوع والعطش وخيانة الإغريق وإعراضهم عن نجدتهم, وكيف أنهم أنقذوا المحاصرين بصعوبة بعد أن أشرفوا على الهلاك. ويبدو أن الحديث عن معاناة الماركيز وكفاحه إنما كان بهدف ترسيخ زعامته والالتفاف حوله, وتنصيبه ملكاً على ما تستولي الحملة من أمصار.

          ثم انتقل الحديث إلى الجهة التي ستتوجه إليها الحملة, ومع أن الهدف كان الأرض المقدسة إلا أن البعض اقترح مصر (بابليون) أو الإسكندرية, والبعض الآخر اقترح التوجه إلى سوريا, وذلك لفقر موارد فلسطين والثروات المتوقع توافرها في تلك البلاد. واستقر الأمر على قرار مفاجئ: وهو التوجه إلى القسطنطينية!

          أما الأسباب التي دفعتهم للتوجه إلى القسطنطينية فمنها ما هو حقيقي وأعلنوه صراحة فيما بينهم, وهو ما تزخر به خزائن القسطنطينية من أموال وكنوز, وقصوره من جواهر وتحف, مما يعوض الحملة النفقات الباهظة التي بذلت في إعدادها, فالأسطول وحده بلغت تكاليفه (100000) مارك عجز الفرسان الفلاندر عن تسديدها كاملة للبنادقة مما جعل هؤلاء يفرضون الاشتراك في الحملة, واشترطوا أن يحصلوا على بقية ديونهم أولا, يضاف إليها خمسون في المائة من الغنائم.

          ثم إن ذلك يعود عليهم بغنائم مجزية. وأما السبب المعلن فهو الانتصار للإمبراطور السجين هو وزوجته نتيجة تآمر أحد رجال السلطة عليه, وإعادة ابنه الذي كان أثناء المؤامرة في زيارة أخته بألمانيا إلى مملكة أبيه مقابل مبالغ اتفق عليها.

          لقد قام قادة الحملة بإرسال وفد إلى البابا (إنوسنت) برسالة يشرحون فيها الأسباب التي جعلتهم يغيرون خط سير حملتهم ووجهتها وذلك انتصاراً لولي عهد الإمبراطور, وعاد الوفد بالصليب المقدس ومباركة البابا بكتاب يصف فيه إغريق القسطنطينية بالمتمردين والعصاة لروما. إلا أن البعض لم يطمئن وطالب بسؤال المطارنة المرافقين للحملة فيما إذا كان قتالهم لن يكون إثماً, فأجابوهم بأنهم لن يكونوا آثمين لأنهم يدافعون عن الشرعية وينصرون الحق, وعندها تقدم الجميع للاعتراف وتسلم رباط الأخوة في الإيمان.

مجازر وفواجع

          يفصل المخطوط المعركة المروعة مستعيناً بمخطط للقسطنطينية  يشير فيه إلى مواقع المعارك التي كانت على مراحل وتخللتها مجازر وفواجع.

          والمدينة كما هو معروف على شكل مثلث متساوي الساقين, أحد ضلعيه يطل على بحر مرمرة والآخر على خليج القرن الذهبي في مدخل البوسفور والقاعدة على اليابسة, ولقد أقيم على مدخل الخليج سلاسل هائلة تتصل من أحد طرفيها برأس المثلث والآخر بالشاطئ الآخر للخليج في موقع برج غلطة وترفع السلاسل برافعة (منجنيق) لمنع دخول مراكب الغزاة.

          ولقد اكتشفت الحملة ضعفاً في البرج فاخترقته إلى الخليج, ومنه نفذوا إلى المدينة بعد معارك ضارية, حيث أقاموا معسكراً مؤقتاً إلى حين المعركة الفاصلة.

          وحدثت المعارك وانتهت بهرب الإغريق ليلاً خارج المدينة, وانطلق المهاجمون ليحتلوا المدينة, وتقاسم أغنيائهم القصور والبيوت الفارهة دونما اعتبار لسواد المقاتلين وعامتهم وفقرائهم, ويعتبر كلاري ذلك خيانة منهم لمواليهم ورفاقهم في الحملة, وخص الماركيز نفسه بقصر بوكولئون كما استولى على كنيسة أيا صوفيا.

          واستولى النبلاء والفرسان من علية القوم على أفخم القصور, ثم صدر الأمر بإحضار جميع الثروات والكنوز والأموال إلى إحدى الكنائس, وأقاموا على حراستها عشرة من كبار الفرسان الفرنسيين ومثلهم من البنادقة إلى حين اقتسامها.

          وأكبر فصول المخطوط ذلك الذي يصف فيه المؤلف الكنوز والتحف لأنه يتحدث مفصلاً عن كنوز المدينة وتحفها حينذاك, ولو رحنا نستعرض ما وصف من الكنوز التي استولى عليها الصليبيون لأصابنا الذهول من كثرتها وروعتها, وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن القسطنطينية كانت قبل الحملة واحدة من أغنى حاضرات العالم المسيحي على الإطلاق.

          لقد أعقب الاستيلاء على القسطنطينية سلسلة من النزاع على السلطة, من قبل اللاتين والإغريق سواء بسواء, فمع أن الحملة أطلقت سراح الإمبراطور وتوجت ولده ألكسيس ووفى الرجل بوعوده, إلا أنهم طالبوا بالمزيد, فأدى ذلك إلى خلعه وتولى وزيره مورزوفلس السلطة, ثم انتهى الأمر بمقتل الوزير واستيلاء اللاتين على الحكم, وتنصيب (بولدوين) من فلاندر إمبراطوراً وأصبحت القسطنطينية وما جاورها ملكاً للمسيحيين اللاتين إلى أن جرى حصار (أدريانوبل) وتدعى حاليا (إدرنه).

          وفوجئ الصليبيون بملك (فلاشيا) جون بالهجوم عليهم وسحقهم. وعاد اللاتين إلى القسطنطينية وتزوج بولدوين ابنة جون مكرهاً لتعزيز مكانته, وما لبث أن مات وخلفه أخوه هنري. وانتهت الحملة عام 1206 بعد أن استجمع الإغريق قواتهم وحرروا القسطنطينية وطردوا اللاتين منها.

          ويأتي هذا الكتاب ليميط اللثام عن حقائق طال خفاؤها وإذا كانت تكشفت أمام الملأ فإن هذا الكتاب يعتبر برهاناً آخر لأن الكاتب لم يكن مجرد منظّر وإنما هو شاهد عيان ومشارك في غمار المعركة

 

روبرت كلاري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات