صعود

 صعود
        

          كانت شجرة الصفصاف الطرية آخر ما ثبت عليه باصرتي, وأنا أفتح باب بيتنا لأغلقه مودعا, في رحلة قدرت أنها لن تطول.

          والدي غرس الصفصافة في أرض دارنا الواسعة. وعكفت - أنا  - على سقايتها يوميا, فالصفصاف يعشق الماء, ويغبه غبا... نمت الصفصافة بنشاط ملحوظ, وبعد أن صارت طولي - يومها - تفرع جذعها الغض إلى فرعين صغيرين على شكل رقم (7), ولم أكن قد سمعت حينها بإشارة النصر (V) بالأجنبية, التي استوردناها من جملة ما استوردناه, وصارت عنوانا يوميا لانتصاراتنا الباهرة!

          قال جدي: عندما تكبر هذه الصفصافة ويشتد عودها ستكون مسماكا جيدا للبيت الذي سنعمره لكم.

          قال أبي: سأبقى هنا. معكم. وأظن أن ظلالها ستوفر لي نوما هانئا في أيام القيظ الآتية.

          وكنت - في سري - أتمنى أن أقطع الغصنين المتعانقين لأصنع منهما (نقّيفة) لصيد العصافير. ولولا خوفي, من غضب الأب وعتب الجد, لنفذت فكرتي, رغم معرفتي أن (نقيفة) السنديان هي الأقوى والأفضل!

          كبرت الصفصافة. وثخن جذعها, وركب جدي حصان الذكرى, غادرنا بحرقة لاتزال تلسع روحي, ودون أن يعمر المنزل المبتغى لوالدي وأسرته.

          ويوم أنجبت القطة التي تربّيها جدتي بيننا, أعجبني أحد مواليدها, رغم غيرتي, وكراهيتي الشديدة لأمه. وصرت أحمله كل يوم إلى جذع الصفصافة. أمسد على وبره الملون الجميل الناعم. بعد أن أملأ فمه الصغير بالطعام, وفيما كنت أستند بيدي اليمنى إلى جذع الصفصافة, كان يلعق بلسانه الدقيق الأملس باطن يدي اليسرى, فصار يحكّني, وتبشرني جدتي بأنني سأقبض مالا, وكلما ازداد الحك كان المال أوفر.

          ولما كانت قريتنا شحيحة في المال, طرت إلى حيث أجده, إلى مدينة ظلت شوارعها العريضة, والمغمورة بالمال والفتيات الناعمات, تجوس في رأسي زمنا دون أن أباشرها.

          لست أول ريفي يصعد إلى المدينة, ولن أكون الأخير! إلا إذا غزت كتل الإسمنت الجافة وعوادم السيارات وأبواقها كل هذه اليابسة الشاسعة. ولكنني من أوائل الذين قرروا الصعود إلى الريف. ذلك النعيم الذي هجرته منذ أمد بعيد.

          وهأنا أقرع باب البيت إياه. الذي صار في حوزة أخي الأكبر - بعد أن التحق والدي بوالده - وبحكم الأمر الواقع. فتحت زوجة أخي, وتجمدت ابتسامة الترحاب المعتادة على شفتيها, عندما لحظت أنني أحمل أمتعتي كلها. ورمت علي نظرة لا حقد فيها, ولكنها تكاد تنطق, إلى أين? البيت ضيق وأولادنا كثيرون!

          تجاهلت ما فهمت. واتجهت إلى آخر شيء ودعته عند رحيلي القديم, إلى الصفصافة, فإذا بها قد حلقت عاليا, إذ هي تابعت نموها عبر الزمن, وتوقفت أنا عن ذلك! وقفت قربها, مددت إليها يدي, وتذكرت مولود القطة الجميل, والحصول على قطة صغيرة وجميلة - وكل صغير جميل - ميسور في قريتنا, ولكنني للوصول إلى نقطة تلاقي فرعي الصفصافة أحتاج إلى سلم كثير الدرجات, وليس آمنا, لمن هو في مثل سني, الرقي في سلم

 

محمد شعبان