شعاع من التاريخ.. السلطان.. في قفص تيمور الأعرج..!

شعاع من التاريخ.. السلطان.. في قفص تيمور الأعرج..!
        

          لم يكن بد من أن تلتقي القوتان الآسيويتان العظميان ذات يوم بعد طول زحف من الشرق إلى الغرب.

          وكانت القوة الأولى هي جيوش المغول الجرارة بقيادة تيمور الأعرج - المسمى بتيمور لنك - بينما القوة الثانية الزاحفة إلى الغرب هي الجيوش العثمانية التي انطلقت من تركمانستان إلى الأناضول لتلقي بزخمها على الدول الأوربية المتاخمة لها وتقتنص في طريقها كل الدويلات الغربية لتضمها إلى دولتها الناشئة التي بدأت تتضخم منذ بدأ سلاطينها الغزاة وأولهم عثمان خان الأول ابن أرطغرل قائد إحدى القبائل التركمانية النازحة هربا من المغول إلى بلاد آسيا الصغرى. وكان الزعيم التركماني قد اكتسب إعجاب وثقة الأمير علاء الدين سلطان السلاجقة في قونية بوسط الأناضول بعد أن ساعده في حربه ضد إحدى القوى المضادة التي كادت تهزم جيوشه لولا أن قيض له الله المدد من أرطغرل وقبيلته. وكافأ علاء الدين منقذه بإقطاعه عدة أقاليم ومدن تابعة له, ولما توفي أرطغرل عام 1288 عين السلطان عثمان أكبر أولاده الذي انتقلت إليه الزعامة حاكما على كل الإقطاعيات التي منحها له لتكون بداية تأسيسه للدولة العثمانية, وأصبحت مدينة بورصة في أقصى غرب الأناضول عاصمة الدولة التي أصبح رابع سلاطينها السلطان بايزيد الأول.

الصراع بين المغول والترك

          في ذلك الوقت من عام 1400م,  كان تيمور لنك من نسل جنكيز خان وهولاكو قد تولى قيادة القوة الأولى من جيوش التتار زاحفا من سمرقند في بلاد ما وراء النهرين نحو الغرب واستمر في طريقه إلى الأناضول غازيا كل ما حوله من الإمارات والقبائل فاتحا بلاد خوارزم وكشغر وإيران ومنها سار إلى الصين والهند. وانطلق تيمور لنك بعد ذلك غربا ففتح بلاد الشام بعد أن أكمل تخريب بغداد مقر الخلافة العباسية حتى قيض الله له أن يلتقي بجيوش السلطان بايزيد الأول في آسيا الصغرى. كان سبب إغارة تيمور لنك على الدولة العثمانية أن أمير بغداد والعراق المدعو أحمد جلابر قد التجأ إلى السلطان بايزيد حينما هاجم المغول بلاده. وأرسل تيمور إلى السلطان يطلب منه تسليمه إليه فرفض. وأقسم القائد المغولي على الانتقام فانطلق بجيوشه الجرارة مغيرا على الأناضول حيث التقى في معركة حاسمة مع ابن السلطان الأكبر وأنزل به هزيمة منكرة وقطع رأسه بينما كان بايزيد في طريقه على رأس جيش قوي ضم قوات متباينة الأجناس تابعة له في آسيا الصغرى وشرق أوربا حيث كان يواصل الفتوحات التي بدأها أبوه السلطان مراد الأول في أراضي الدولة البيزنطية التي حاصر ملكها إيمانويل باليولوج.

          ومع استمرار الحصار حول القسطنطينية ضم السلطان بلاد البلغار والمجر ليفاجأ بعد ذلك بهجوم المغول على بلاده في آسيا الصغرى.

          لم يضيع تيمور فرصة أسره لابن السلطان وقطع رأسه وأراد أن يفت في عضد الترك والأوربيين بإرسال الرأس المقطوع إلى زوجة بايزيد (أوليفيرا) العربية وكان يعلم أنها أم ولي العهد المقتول وشقيقة ملك (صربيا) التي تزوجها السلطان خلال غزواته في أوربا وعقد صلحا مع ملك الصرب أسطفان بن لازار ضمنه زواج السلطان من شقيقته مقابل أن يحمي أراضيه في الشمال من أي عدوان خارجي وأن تكون أراضي صربيا هي آخر حدود العثمانيين في أوربا كما أجازه السلطان أن يحكم بلاده على حسب قوانينهم بشرط دفع جزية معينة وتقديم عدد معين من الجنود الصربيين ينضمون إلى جيوشه وقت الحرب..!

          كان تيمور نفسه يعلم كل ذلك من خلال جواسيسه حيث لم يضم بايزيد بلاد الصرب إلى أملاكه ولم يجعلها ولاية كباقي الولايات ليسكن بال الصربيين حتى لا يكونوا شغلا شاغلا له عند وقوع أي حرب. وهكذا قصد تيمور بإرسال رأس أرطغرل المقطوع إلى أمه الصربية أن يوقع الفتنة بينها وبين السلطان. ويدفع معها القوات الصربية التي تشكل أكبر جزء من جيش بايزيد إلى التهاون في المعركة أو التمرد والخروج منها في الوقت الحاسم. وقد حدث هذا بالفعل عندما تمرد ملك الصرب على السلطان وأرسل يستدعي شقيقته الغاضبة من بايزيد.. وخاصة بعد أن دارت معركة جديدة حامية بين قوات المغول وقوات بايزيد حيث أسر ولدها الثاني موسى عندما انتصر المغول ووقع السلطان بايزيد أسيراً في يد تيمور لنك..!

السلطان في القفص

          كانت ثالثة الأثافي عند (أوليفيرا) عندما بلغها وهي في قصر شقيقها ملك الصرب أن ولدها موسى الأسير قد عاد إلى العاصمة العثمانية بورصة ومعه جثمان زوجها السلطان ليدفنه في ضريح آل عثمان.

          لم يكن جثمان السلطان وحده هو ما جاء به موسى, بل كان معه جثمان امرأة قتلت نفسها حزنا على بايزيد وانتحرت إلى جانبه. أما القائد المغولي فقد أخذ على موسى كي يفرج عنه بأن يدفن الاثنين معا..!

          دارت رأس (أوليفيرا) وهي تستمع إلى ولدها موسى وهو يحكي لها قصة النهاية لزوجها السلطان.. وحكايته مع فتاته التي انتحرت من أجله.

          كان رأسها يدور وفي ذهنها سؤال كبير.. أي امرأة تلك التي قتلت نفسها من أجل بايزيد?

          ألم تكن هي زوجته أحق بأن تدفن إلى جواره في قبر يضمهما معا?! ولماذا لم يحدثها السلطان أبدا بحكاية المرأة الرومية كما أسر بها إلى ولده وهما معا رهن الأسر?!

          كانت المرأة الأخرى هي هيلانة ابنة ميليناس أحد قادة الروم في جيش القسطنطينية التقى بها بايزيد وهو لا يزال فتيا بعد قائدا للفرسان في جيش أبيه السلطان مراد يتصف بالجرأة والشجاعة.

          ووقع الفارس الفتى في هوى هيلانة في أثناء المفاوضات بين القائد العثماني والقائد البيزنطي الرومي كما علق به قلبها. وهامت الفتاة الشقراء بحب الفتى الأسمر. وذات ليلة بعد انتهاء المفاوضات وجد بايزيد أن الفتاة قد هجرت أهلها ورحلت عن ديارها ولحقت به بعد أن تسلط على شعورها وملك قيادها. ولم يكن أمام بايزيد إلا أن يستسلم لهواها. وحين سقط السلطان مراد في ساحة المعركة مع الروم التف حوله جيشه ونادى بولده الفارس القوي سلطانا خلفا لأبيه. وبعد أن كانت هيلانة مجرد عشيقة لبايزيد سراً صارت عشيقة السلطان جهرا. واستطاعت الفتاة الرومية أن تلف شباكها حول بايزيد الذي كانت ترافقه دائماً خلال معاركه وحروبه, تشاركه خيمته وأفكاره حتى لم يعد بايزيد يفارقها أو يستغني عن وجودها بجواره. وخلال لقاءاتهما أقنعت هيلانة عشيقها بأن يتخلص من أخيه يعقوب الذي كان يرى نفسه أحق بتولي السلطنة بصفته أكبر الأبناء. وفي مساء ذلك اليوم مات الأمير يعقوب خنقا في حجرته بالقصر.

          تلك كانت البداية. أما الذي جرى بعد ذلك بسنوات وبعد أن ظهر العدو الجديد لبايزيد متمثلا في تيمور لنك الذي اقتحم أنقرة في قلب الأناضول حيث دارت معارك رهيبة كان النصر فيها للقائد المغولي. وبعد أن دارت الدائرة على الأتراك وقع السلطان أسيرا وتشتت رجاله إثر سلسلة من الخيانات والانسحابات من القوات الأوربية التابعة التي كانت تحارب تحت لوائه.

          وفي مضارب القائد المغولي المنتصر جيء بالمغلوب إلى الغالب فأكرمه وأجلسه إلى جواره ثم قال له: (ماذا كنت تصنع بي لو وقعت أسيرا بين يديك?), قال السلطان بايزيد: (كنت أحبسك في قفص من حديد وأطوف بك في مملكتي). وهز تيمور لنك رأسه قائلا: (أنت حكمت وهذا ما سأصنعه بك)!

          ووضع السلطان بايزيد في القفص الحديدي!

نهاية مفجعة!

          ذات يوم دخل الحارس على القائد المغولي يخبره أن بالباب فتى يريد مقابلته, واستقبل تيمور لنك الفتى الذي لم يكد يقف حتى نزع الثوب عن صدره فإذا هي الفتاة هيلانة. وقالت الفتاة للقائد: (لست كما تظن يا سيدي. بل أنا فتاة مسكينة جاءت تطلب منك رجاء هو آخر رجاء لها في الحياة, فأنا حبيبة السلطان بايزيد أسيرك المحبوس في القفص. وقد جئت لأشاهد حبيبي للمرة الأخيرة).

          وأكبر تيمور لنك في الفتاة شجاعتها ولبى طلبها, وأمر الحارس أن يفتح قفص الأسير ويأخذها لتلتقي به.

          وقفت الفتاة أمام بايزيد الذي لم يكد يصدق عينيه, ولكنها أطلقت لسانها وقالت بصوت ثابت ولهجة صارمة:

          - بايزيد. لقد وصلت إلينا أخبارك وعلمنا بما لحق بك. وها قد جئتك حاملة إليك رجاء مُحِبَّة لا تطيق العيش بعدك. فضع حدا للعار الذي تعيش فيه. واقطع حبل حياتك بيدك, أنا بانتظارك وسأموت معك على مرأى منك.. الآن.. فوداعا!

          وغرست الفتاة في صدرها خنجراً كانت تحمله. ولم يكد السلطان يرى المشهد حتى وثب على حديد قفصه فظل يضرب رأسه ضربات متتالية حتى فجت جمجمته وسقط يتخبط في دمه.

          وأرسل تيمور لنك يستدعي موسى ابن السلطان من سجنه. وأذن له بأن ينقل جثمان أبيه بكل احتفال إلى عاصمته بورصة بعد أن أخذ عليه عهداً بأن يدفن معه جثمان فتاته هيلانة التي شهد شجاعتها ووفاءها.

          وانتهت حياة السلطان بايزيد الأول في العاشر من مارس عام 1403م عن عمر لم يتجاوز الرابعة والأربعين بعد فترة حكم امتدت ثلاث عشرة سنة

 

سليمان مظهر   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات