جمال العربية
جمال العربية
الملك الشاعرالمعتمد بن عباد شاهد يقول عنه ابن بسّام في كتابه (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة): (وقد كان متمسكا من الأدب بسبب, وضارباً في العلم بسهم, وله شعر كما انشقّ الكمام عن الزهر, لو صدر مثله ممن جعل الشعر صناعته, واتخذه بضاعته, لكان رائعا معجبا, ونادرا مستغربا. يرمي فيصيب, ويهمي فيصوب, والعجب من المعتمد أنه مرى سحابه في كلتا حاليه فصاب, ودعا خاطره فأجاب, ولا تراجع له من طبع, في المُلْك ولا بعد الخلْع, بل يومه في هذا الشأن دهر, وحسنته في هذا الديوان عشْر, فإن أجاد فما أوْلى, وإن قصر فأمره واضح). هذا هو رأي التاريخ الأدبي في الشاعر المعتمد بن عباد, أما رأي التاريخ السياسي في الملك المعتمد, فأمر مختلف كل الاختلاف, لأنه كان بأفعاله وسوء تدبيره مسئولا عن سقوط الأندلس وضياع الحكم العربي فيها. ورث المعتمد الملك عن أبيه المعتضد الذي عمل على تكوين دولة غدت أقوى دولة بالأندلس في عهد ملوك الطوائف (مَهدَها فوق أطراف الأسنة وصيّر أكثر شغله فيها شبّ الحروب وكياد الملوك وإهراج البلاد وإحراز التلاد). وحين أصبح المعتمد ملكا على إشبيلية واصل ما رسمه له أبوه, حتى استفحل أمره بغربيّ الجزيرة, وبسط سطوته على معظم الأمراء باستثناء خصومه ومنافسيه أمراء (طليطلة) من بني ذي النون. ويرتكب المعتمد خطأه الجسيم - الذي أدّى إلى نهايته ونهاية الأندلس المأساوية - حين يتحالف مع ألفونسو السادس أمير قشتالة ضدّ خصومه في طليطلة. ويصبح سقوطها في يدي ألفونسو بداية النهاية, حين طمع ألفونسو في بقية الإمارات الأندلسية ومن بينها إشبيلية نفسها. وعندما يستعين المعتمد بيوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين في إفريقية, يطمع ابن تاشفين في إمارات الأندلس بدوره بدءا بغرناطة فقرطبة فرنْدة ثم إشبيلية, وينتهي الأمر بأسر المعتمد وتوثيقه بالأغلال وحمله هو وآله إلى (أغمات). ويظل المعتمد في أسره سنوات, مغلول السّاقين, وتضطر بناته إلى ممارسة (الغزل) ليواجهن بأجرته مطالب الحياة, ويدخلن عليه في سجنه يزرنه في يوم عيد في أسمال رثة بالية حافيات الأقدام حاسرات الرءوس, عندئذ تبلغ المأساة ذروتها وتعصف بوجدان الأب الملتاع العاجز عن حماية بُنيّاته من عواصف الأسى والتفجع, والندم على خطيئته التي بدأت بالاستعانة بعدوّه, ولكن بعد فوات الأوان! مرارة الأسر والاغتراب, ومشاعر الأسف والندم, تملأ شعر المعتمد بن عباد في أسره, وهو الذي كان - في أوج مُلْكه وعظمته - شاعرا من طراز آخر. يصفهُ ديوانه - في المقدمة الضافية التي كتبها الدكتور حامد عبدالمجيد عنه ملكاً وشاعراً - (بأنه عصفور غرّد وطائر طليق ومُغنٍّ لنفسه معظم الوقت على هواه, دون قيود تكبّله أو مطالب وضرورات تُوجّهه وتقوده). ويقول ديوانه: حين هُوجمت إشبيلية (وهو ملك عليها) خرج مدافعا عن نفسه وأهله, وكان قد أشار عليه وزراؤه بالخضوع والاستعطاف:
هذا شعر جاء كما وصفه لسان الدين بن الخطيب في كتابه (أعمال الأعلام): كثير المعاني, حسنَ المآخذ, لدْنَ معاطف الكلام, رقيقَ الحاشية, كثيفَ المتنْ, كثير البديع, رائق الديباجة, لائق الاستعارة, حسن الإشارة, جمَّ التوليد, لم يُنشده - من الوزراء والشعراء - أشعرُ منه, على كثرة ما اجتُلب إليه, من أعلاق الثناء, ونُثر عليه من دُرّ الحمد, ووُضع في يديه من حُرّ القريض). فإذا أعدنا صياغة هذا الكلام بلغة عصرية, قلنا إن رقة شعر المعتمد ووفرة بديعياته تذكرنا بشعر ابن المعتز الملك الشاعر أيضا, وإن كان ملك هذا الأخير لم يدم إلا ليوم واحد. وإن ما يمتلئ به من صنعة شعرية تأكيدٌ لاقتداره الفني, وحُسْنِ تصرّفه في الصياغة, واتكائه على موروث شعري ضخم, استوعبه واستخلص أجمل ما فيه, وعزف على أوتاره أنغام محنته ومأساته, كما عزف عليها - في صفحة حياته الأولى - أنغام غنائياته الملكية المتوهجة باقتناص أوقات الفرح ولحظات السعادة والتقلب في أحضان العواطف الناعمة الرخية التي توقظه على سهام لحاظ جواريه ومداعبات محظياته, فضلا عن اهتمامه - كابن المعتز - بالبديع. ومن بكائيات المعتمد بن عباد, والتفاتاته الشعرية المشحونة بالأسى ولوعة الندم, أبياته التي قالها في بناته, عندما زُرنه في سجنه - بمناسبة العيد - ورآهن في حال مُزْرية, تذيبُ قلبه وتزلزل اصطباره ومقاومته:
ومن أكثر الآثار الشعرية للمعتمد بن عباد لوعةً وأسى, قصيدته في رثاء ابنيه المأمون والراضي - وكانا أميرين على قرطبة ورندة حين قتلتهما جيوش المرابطين بقيادة ابن تاشفين. ويزيد من حدة اللوعة والأسى ندم المعتمد على أنه هو الذي استعان بيوسف بن تاشفين في صراعه مع أعدائه, فانقلب عليه وطمع في ملكه ومُلْك غيره من حكام الأندلس. يقول المعتمد:
ويروي لنا ديوانه أنه رأى قُمريّةً نائحة على سكنها, وأمامها وكر فيه طائران يردّدان نغما, فبكى ابنيْه المأمون والراضي قائلا:
وفي موضع آخر من ديوانه, يعود المعتمد بن عباد إلى رثاء ولديْه, وبكائهما بشعر صادق اللوعة والأنين, وهما المأمون والراضي اللذان يذكرهما في قصيدته باسميْهما الحقيقيين - دون كنْية -: الفتح ويزيد, مضيفا إليهما ابنه الثالث أبا عمرو سراج الدولة وكان أميرا على قرطبة من قِبل أبيه إلى أن هاجمه ابن عكاشة وقُتل, فثأر له المعتمد بقتل ابن عكاشة وولّى ابنه المأمون عليها. يقول المعتمد:
وحين يستشعر المعتمد بن عباد دُنوّ منيته واقتراب أجله - وهو لايزال يرسف في أغلال أسره - يوصي بأن يُكتب على قبره:
فهل يشفع له كلِّ هذا الشعر الأسْيانِ في غُفران خطيئته الكبرى, حين استعان بأعدائه من الفرنجة ضدّ بني قومه وجلْدته, فانقلبوا عليه - بعد أن شتتوا شمل قومه - وكانوا سببا في نكبته وزوال ملكه, إيذاناً بضياع الأندلس?!
|