إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي
        

مصارع الكلمة

          عجيب أمر الرقابة على الكلمة في كل زمان ومكان، إذ يكاد العقل البشري يتفتق عن مد قناة بين المرسلوالمستقبل تجري عبرها الكلمة التي تعترض هذه القناة سدود وحواجز تريق ماءها الرقراق بلا ثمن أو اكتراث  او تحجبها وبالأخص لو كانت هذه المياه ستبعث الحياة في عود أراد له الآخرون الذبول والانزواء، فلا غرابة أن تنع الصحف من اجتياز بعض الحدود أو تحصن المواقع على شبكة الإنترنت العالمية رغم حداثتها أو يمنع الإصدارات هنا وهناك، وإن لم تتمخض عقول الآخرين عن أسلوب منع الكلمة من الوصول إلى جمهورها فلا بأس في حرقها! أو تحرق الكلمة؟ نعم تحرق ولكنها كطائر الفينيق لا تموت، وربما يجذب قبس من نارها الأنظار فتهفو النفوس وتأنس لنارها. خبر طريف شدني ليعيد إلة مخيلتي صورًا لألسنة النيران التي نالت من الكلمة، وسجَّل التاريخ العربي واللعالمي الكثير عنها، ومن المؤكد أنه ليس أخيرا أن منظمة روسية تدعى (لنسير مممعا) مدعومة من قبل إدارة الكريملين أضرمت النار في كومة من كتب المؤلف فلاديمير بيلفن وروايات فلاديمير سوروكين على أنها سموم تؤذي أفراد المجتمع.

          وعلى مبدأ (رب رمية من غير رام) ولأن الكلمة كطائر الفينيق فقد أدى هذا الحظر وهذه التصفيات التي طالت الفكر المطبوع إلى زيادة الإقبال على الكتب المطاردة والتي بتعامل الناشر معها بحذر بالغ. ويبدو أن صلاحيات هذه المنظمة لا تتوقف عند حدود إضرام النار في الكتب التي لا تتوافق مع الرؤية (البوتينية) ولكنها تمتد إلى اضطهاد الكتاب ولا غرابة في ذلك لأن أعضاء (لنسير معا) الذين زادوا عن المائة ألف هم من الشباب الطامحين للسلطة. لم تكن هذه المنظمة الأولى،ولا الأخيرة طبعا، التي تقدم على مثل هذا العمل الشنيع ولكنها حلقة في سلسلة تعود بدايتها إلى السلطان محمود الغزنوي (387 - 421 هـ) الذي كان سباقا في تنفيذ برنامج الخليفة القادر بالله في تصفية فكر المعتزلة.

          وللكاردينال خيمينز أيضا قصة مع الكتاب العربي في الأندلس، فقد عاش هذا الرجل في طليطلة منذ أكثر من 500 عام وهو صاحب فكرة محاكم التفتيش التي لاتزال وصمة عار في تاريخ الإسبان إلى اليوم، فقد جمع خيمينز الكتب العربية في الساحات العامة في المدن الأندلسية وأجج فيها النيران لتلتهمها وتحولها إلى رماد. وأحرق النازيون عطاء كتّاب عالميين أمثال كافكا. والصليبيون حين دخلوا طرابلس لم ترو غليلهم الدماء التي سفكوها وإنما هاجموا مكتبة آل عمار حكام المدينة وفيها 400 ألف مجلد فأوقدوا فيها النار التي استمرت أياما عديدة نال فيها الحاقدون من الفكر الإنساني الذي كان أقوى من نيرانهم. 

          هذا عدا الغضبات العابرة التي طالت الحلاج وابن رشد، والأكثر غرابة أن بعض الكتّاب هم أحرقوا كتبهم كأبي حيان التوحيدي وأبو عمرو بن العلاء الذي دفن كتبه في بطن الأرض حتى ضاع أثرها، وامتدت ظاهرة حرق الكتب إلى العامة بتحريض من الفقهاء المتعصبين. 

          ويحكى أن الأمير الأموي المستنصر بالله (350 - 366 هـ) كان جمّاعا للكتب ولكن حاجب ابنه هشام (المؤيد بالله) والذي يدير الحكم آنذاك وكان يكنى بأبي عامر عمد إلى مكتبة المستنصر فأحرقها وقذف بعضها في آبار القصر، إلا ما كان فيها من كتب النطاسة والحساب. 

          وهكذا كان مصير الفكر عبر العصور حين يقع بين أياد لا تدرك قيمته أو تبدو كلماته كسهام ترقد في كنانة فيستشعر الأقوياء أنها ربما تهدد عروشهم، وربما صار الفكر أيضا محط صراع فأريق دمه ومن ثم اصطلح المتصارعون حول نعشه. 

 

جمال مشاعل