قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟

القصة القصيرة مثل الحليب؛ ذرة تراب تغبرها. وربما كانت رهافة هذا الفن المتطلب أحد أسباب هروب كبار الكتاب من القصة إلى الرواية. وعندما نكون بصدد قصص هي التجارب الأولى لأصحابها، فإننا نتوقع أن يأتي التعكير من مصادر عديدة، منها المستوى اللغوي، من نحو وصرف وإملاء وقدرة على الاستخدام السليم لعلامات الترقيم، ومنها ما يأتي من البناء، ولكن أسوأ العكارة تأتي من البراءة والرغبة في تغيير العالم، وهذا يسقط القصة في مأزق الوعظ المباشر الذي لا يدخل أبدًا في صميم أي فن. هذه المقدمة ضرورية لتوضيح أسباب الاستبعاد لقصص قد يصير أصحابها كتابًا متميزين في ما بعد، لكن ما أرسلوا به هذه المرة يعاني من هنة أو أكثر من هذه الهنات، التي لم تخل منها القصص المختارة، لكنها تعاني بدرجة أقل مما تعاني القصص المستبعدة. يقول هيمنجواي إنه كان يقول لنفسه عندما تتعثر الكتابة: «اكتب ما تعرفه جيدًا» وهذه نصيحة يجب ألا تغيب عن أي كاتب قصة. وعبارة «ما تعرفه جيدًا» لا تعني تناول الموضوعات التي نعرفها فحسب، بل تناول ما نراه من المشهد بحياد، وللدقة أقول: «بتظاهر بالحياد» إذ لا حياد في الفن، لكن أيضًا لا هتاف ولا هضمًا لحق القارئ في التفسير واستنباط ما هو أبعد من الصورة التي يرسمها الكاتب. لا يصح مثلاً أن نبدأ قصة بهذه العبارة: «تجتر أحزانها في هدوء» هذه البداية تصف مشاعر قطة في إحدى القصص المستبعدة، كذلك لا يجب الإفراط في الأوصاف التي تفرض رؤية الكاتب على القارئ، كأن نصف بطلنا بـ «المسكين» أو العالم بـ «الظالم» .. إلى آخر الأوصاف التي تجعل الكاتب يتجاوز دور المصور، يكفي أنه هو الذي اختار الموضوع والزاوية التي ينظر منها، وليترك للقارئ دوره في التأويل، لأن النص شركة بين كاتبه وقارئه. طبقًا لهذه المعايير، التي لا أظنها قناعات شخصية، اخترت القصص الخمس المنشورة هنا.

  • القصة الأولى «سيمر من هنا نهر» لـ محمد الفخراني - مصر: فهي تقدم بطلاً وعالمًا بين الحقيقة والخيال، في رحلة تذكر بعجائب ألف ليلة وليلة، ربما تكون الرحلة حقيقية إلى مكان عجيب، وربما هي رحلة لم تحدث إلا في خيال المشّاء أو خيال الكاتب فحسب. وكنت أتمنى ألا تبدأ هذه القصة الجميلة بهذه الجملة البيان: «رجل مشّاء، يصاحب العالم».
  • القصة الثانية «الرايات الباردة» لـ عامر أبو شباب - فلسطين: هذه القصة قصيرة جدًا، تقدم لحظة تنويرها بشكل مجازي «يا ستي لحاف الرايات بارد». جملة تقول بشكل فني إن الفلسطينيين يتعرضون للخذلان من العالم. ولكن التعرض لمصدر وجبة العشاء يبدو فائضًا على قصة من حوالي مئة كلمة، وبؤس الجدة وأسرتها باد من دون هذه التفصيلة.
  • القصة الثالثة هي «10% ضريبة مبيعات» لـ محمد طاهر - القاهرة: قريبًا من القصة السابقة تأتي قصة «10% ضريبة مبيعات»، لكنها تقدم مقولتها ببلاغية أقل، خصوصًا أن القصة من أولها تقدم التكلفة المالية لمحاولة ارتباط عاطفي.
  • القصة الرابعة «الراعي البائس» لـ ميلود الجملي - المغرب: محاولة جيدة من كاتبها لتصوير حياة طفل يعمل راعيًا، لكن يضعفها البداية الإخبارية «حرمه أبوه من المدرسة .. إلخ» وهذا جعله يخرج على الالتزام بزمن القصة القصيرة، وهو زمن يجب أن يكون محدودًا وما يأتي من الماضي يتم تضمينه بطريقة الاسترجاع التذكري.
  • القصة الأخيرة «بلا هوية» لـ نبيهة محضور - اليمن: تشترك مع القصة السابقة في الحماس الشبابي ضد الظلم، وأخذها هذا الحماس إلى الأوصاف الزائدة «يرقص كالعصفور المذبوح» أو «ذكرته بحق من حقوقه المسلوبة»، لكنها نجحت في تصوير بؤس شخص بلا مأوى ولا عمل.

----------------------------
سيمرّ من هنا نهر
محمد الفخراني - مصر

رجل مشّاء، يصاحب العالم، كل الأماكن بالنسبة له صالحة للحياة، لذا لم يشعر بضياع عندما وجد نفسه في صحراء بعيدة، من المناسب عدم وصف تلك الصحراء بالبعيدة، فالرجل يصاحب كل أماكن العالم وكائناته، وبالنسبة له لا يوجد في العالم مكان قريب وآخر بعيد، حتى إن فكرة القرب والبعد نفسها لا وجود حقيقيًا لها في رأيه.

يمشي الرجل في الصحراء حتى يسمع أصواتًا تأتيه مع الهواء، وأحيانًا بمفردها، أصوات طيور، حيوانات، بشر، أشجار، مياه، وموسيقى، فيتجه لمنبع الصوت، ويرى في مدى عينيه قرية صغيرة، يتحرك سكانها من بعيد مثل ظلال متحمسة للحياة، فيتوقف قليلاً يستمتع بالصخب القادم من هناك، وعندما يعاود المشي، تخفت أصوات القرية شيئًا فشيئًا كلما اقترب منها، ولا يلفت هذا انتباهه، لأن صدى الحياة هناك مازال يتردد حوله وداخله.

يصل المشّاء للقرية، ولا يكون لها أي صوت.

ليل ملوّن، قمر هائل، والمشّاء يقف عند الحد الوهمي للقرية، يتطلع لسكانها، ويكتشف أنهم ليسوا إلا صخورًا نحتها الهواء، المطر، الليل، والنهار، فجعلوا منها قرية كاملة، حتى أنه رأى آثارًا واضحة لنهر مر من هنا، أو أنها لنهر سيمر من هنا.

فكر المشّاء كيف من بعيد رآهم يتحركون، وسمع صخب حياتهم؟ لكنه كان قد أدرك منذ زمن بعيد أن كل شيء ممكن في العالم.

بدأ يتنقل بعينيه بين سكان القرية، ينتظر على الأقل أن يرحب به كائن واحد منهم، وتمنى أن يكون الطفلة التي تقف بجوار التنين الصغير، لكنها لم تفعل رغم أنها في ما يبدو كانت تنظر إليه، ورأته يبتسم لها ويُعرّفها بنفسه، وقد تذكّر اسمه بسهولة هذه المرة، وهو الذي ينساه في معظم الأوقات.

 يدخل القرية، ومع أول خطوة له يسمع ما يشبه دقات قلب بعيدة، ويلاحظ أن ليست الطفلة وحدها من ينظر إليه، وإنما كل من في القرية تدور عيونهم معه، فيتعمد أن يلامسهم بأطراف أصابعه أثناء مروره بينهم، هل كانت الطفلة تبتسم له، ويحرك التنين ذيله وهو يقترب منهما؟

تزايدت دقات القلب البعيدة التي كان يسمعها المشّاء، وصارت عددًا لا نهائيًا من الدقات العميقة الواضحة، فيميل برأسه قليلاً لكل قلب يمر بجواره، وعندما وصل للطفلة، وانحنى عند صدرها، ينظر في عينيها ويُعرّفها بنفسه ثانية، لم تنظر إليه، لكنها أسمعته دقات قلبها، وقبل أن يرفع رأسه عن صدرها، انفتحت السماء فجأة وهطل مطر جموح، بمجرد أن مسّ سكان القرية جرت فيهم الحياة، حتى صارت كل الصخور كائنات حيّة تتحرك بحماس في كل اتجاه: أشجار، حيوانات، وبشر، جميعهم يطلقون صيحات تجلب الكثير من الكائنات البعيدة، وتجعل القرية تتسع وتتسع حتى تبدو كأنها العالم.

 أول شيء فعلته الطفلة أن عرّفت نفسها للمشّاء، وأطلق تنينها خيط نار في الهواء كأنما يرحب به، تلوّنت القرية بألوان الحياة، جرى المطر في الشوارع التي كانت تتقاطع وتنفتح على بعضها بعضًا، كأنها شارع واحد يتمشى ويتفرع في تلك القرية التي لم يكن فيها أي بيت.

ملأ المطر مجرى النهر الذي مر من هنا، أو أنه النهر الذي سيمر من هنا، وظهرت فيه أسماك تتقافز، صيادون بقوارب وأغان وشباك للصيد.

أمسكت الطفلة يد المشّاء وصحبت معها تنينها، وقفزت بهما لقارب خشبي بسيط ينتظر عند شاطئ النهر.

الطفلة والتنين والمشّاء تركوا أنفسهم للقارب، والقارب ترك نفسه للنهر، والنهر أطلق نفسه لشوارع القرية، والقرية تمشي في العالم، وتصاحبه.

----------------------------
الرايات الباردة
عامر أبو شباب - فلسطين

قبل الفجر كعادتها تصحو مبكرة، تحاول بعناء تنسيق المنزل الذي يشبه حاوية في كثير من تفصيله، بيت استأجرته بمستحقات ابنها الشهيد.

 أرهقها التعب ونظرت لأبنائها وأحفادها العشرة النائمين، بعد وجبة عشاء من فتات الجيران. وكسر شرود التفكير، مقاطعة حفيدها عماد: «مش عارف أنام بردان». تلك الكلمات شجعت فكرة طالما طرقت رأسها، ردت: تعال معي.. الآن الوقت متأخر في الليل «الصاحي نايم، والنايم ما صحي». خرجت الحجة يتبعها الفتى إلى الشارع، وقالت وهي تتلفت: بسرعة نزل الرايات على أعمدة الكهرباء بكل ألوانها غير المتناسقة، نزلهم كلهم ما عدا علم فلسطين.

وفي الليلة التالية تغطى الفتى بشبه اللحاف الجديد، وبعد محاولات مستميتة للنوم نظر إلى جدته وقال: «يا ستي لحاف الرايات بارد».

----------------------------
10 % ضريبة مبيعات
محمد طاهر - القاهرة

العطر وحده كلفه ثلاثمائة وثمانين جنيهًا... كان قد قرر أن يشتريه لا لكي يهديه إليها، بل ليعطر به تلك الورقات التي يرسل بها إليها في المساءات... يشعر دومًا بتلك النبضات الرومانسية بداخله... الوريقات نفسها كلفته عشرين جنيهًا... بحث عنها كثيرًا حتى وجدها في ذلك المكان غالي الأسعار...

الآن الدور على ذلك الألبوم لفيروز... قالت يومًا ما، عندما كان يهاتفها من هاتفه المحمول الذي يدفع فاتورته كل شهر بعد أن ترك ذلك النظام المخجل الذي يجعل الخط ينقطع تلقائيًّا بعد نفاد رصيده وهو يكلمها... يومها تحدث معها لمدة الساعتين... الشهر الماضي وصلت فاتورته لخمسمائة جنيه... ذكرت أنها تحب فيروز خاصة ألبوما بعينه ذكرت له اسمه...

بحث عنه كثيرًا حتى دفع سبعين جنيهًا ثمنًا له عندما وجده أخيرًا...

حدثها اليوم كذلك المدة المتفق عليها ضمنيًّا (ساعتين) وطلب منها أن يتقابلا اليوم في نفس الكافيه... المرة السابقة دفع ما يقرب من تسعين جنيهًا... طلبت منه أن يتقابلا بمنطقتها أولًا ثم يذهبا معًا للكافيه، يحسب المسافة والسرعة والزمن فيخرج الناتج بعشرين جنيهًا بيد سائق التاكسي.

كانا قد اتفقا من قبل أن يأخدا وقتهما حتى يستطيعا تحديد ما إن كانا يصلحان لبعضهما البعض أم لا.

فرحت بشدة بالألبوم... تحادثا لما يقرب الساعة وانتهاء الكوبين... طلب الحساب... خمسة وسبعين جنيهًا.

عند خروجهما سارا في الطريق المرصوف بالحجارة... اشترى لها عقدًا من الفل... عشرة جنيهات.

بدا له أنها تريد أن تخبره بشيء ما... ألح عليها كي تخبره...

«أشعر أني أحمل لك ما كنت أحمله قبل أن نقترب من بعضنا البعض... أعني أنني إذا كنت أراك أخًا فاليوم مازلت أراك أخًا، بل ولدي ما يجعلني أراك أخًا جيدًا جدًّا»...

ابتسم لما قالته...

وضع يده بجيبه...

أخرج قائمة تنتهي برقم: 1165، ضريبة استهلاك 10%: 116.5، الإجمالي: 1281.5، العملة: الجنيه المصري، توقيع المستلم.

----------------------------
الراعي البائس
ميلود الجملي - المغرب

حرمه أبوه من المدرسة، ودفع به إلى أحد الكسابين كي يرعى له أغنامه وأبقاره. لم يكن عمره حينها يتجاوز التاسعة، لكن أبناء الحرمان عادة يظهرون أكبر من سنهم.

 وانتقل الصغير المسكين من شقاء إلى شقاء، كان عليه أن يسير بأغنامه كل يوم مسافة طويلة، يغادر قبل الفجر ولا يعود إلا بعد المغرب. أما الزاد الذي يتزود به، فليس إلا الخبز اليابس، وقنينة شاي باردة...كان الرعاة ممن يصاحبهم يذبحون الحملان الصغيرة التي وُلِدَت ليوم أو يومين ويشوونها على الجمر.. لكنه لم يكن خبيثا مثلهم، كثيرا ما وسوسوا له أن يفعل كما يفعلون انتقاما من رب الغنم، لكنه يأبى أن يفعل. بل ربما عاد مُحَمَّلاً بِحُزْمَةِ حطب إلى البيت وكأنه يكافئهم على تجويعه.

كان الرعاة يمضون أيامهم في بهجة ومرح: أكل وشِبَع ورِي ورقص وغناء... يصنعون آلات الكمان من علب الزيت الفارغة، والبنادير من جلود الأغنام، ويعزفون عليها بمهارة وإتقان. وكان الراعي البائس يشاركهم أحيانا بالتصفيق..تمنى أن يحصل على ناي أو آلة كمان كالتي يمتلكها أصحابه، وبحث كثيرا فلم يجد علبة زيت فارغة.

وفي كل مساء، يتفقد الرعاة شباكهم وفِخَاخَهم التي بنوها في الصباح لاصطياد الحمائم والعصافير، فيجمعون ما حصلوه من صيد، ويصنعون منه وجبة مسائية لذيذة.. ولم يكن الراعي المسكين يجد حتى دريهمات قليلة يشتري بها فخا أو شبكة! كانت أجرته كلها من نصيب أبيه، بل إنه كان يأخذ مسبقا أجرة عام أو عامين!

وفي يوم من أيام الحصاد، والشمس تلفح الوجوه بأشعتها الحارقة، وقد هبت رياح شرقية سَمُومٌ تخنِق الأنفاس، آثر مُشَغِّلُهُ أن يكلفه بجمع المحاصيل بدلا من رعي الأغنام! وراح المسكين يحمل أكوام الزرع على ظهره ويركُمُه قريبا من البيدر، غير عابئٍ بالهوام والعقارب الرابضة تحت الزرع اليابس، ويرطب حلقه بين الفينة والأخرى بجرعة ماء دافئة..

أحس بتعب فاستلقى على كومة زرع ليسترجع أنفاسه وبدأ يقلب ناظريه في ما حوله فلا يرى سوى سماء بلورية زرقاء وحقول ذهبية اللون كأنها تسبح في مياه متراقصة، وليس ثمة كائنات حية تسعى سواه!!

فجأة لمح الصبي شيئا يلمع غير بعيد عنه! دفعه الفضول لاكتشاف الأمر واقترب منه، فإذا به كمان مصنوع من علبة زيت كالذي يملكه أصحابه الرعاة! وانتابته فرحة عظيمة كتلك التي أَحَسَّهَا يَوْمَ خَصَّهُ أَبُوهُ مِنْ دُونِ أَخَوَاتِهِ الثلاث بحذاء بلاستيكي.. وجدها فرصة ليستريح قليلا من عنائه، ويجرب الكمان إن كان يعمل بشكل جيد. استلقى على كومة الزرع وشرع يعزف في هدوء.. فأخذته الألحان برفق إلى عالم فسيح واستحالت السنابل الصفراء في عينيه إلى رياض خضراء، وبدا السراب اللألاء كجداول عذبة تتراقص فتغري الناظر إليها بالخوض فيها... وفجأة قطع عليه خيالاته وأوهامه صوت خشخشة من الخلف فأسرع يخفي الكمان تحت الزرع، وقام ليتبين الأمر فلم يجد شيئا! كان يظن أن ابن مُشَغِّلِه جاء متسللا كعادته ليفزعَه بصفعة مفاجئة من الخلف، لكن يبدو أنه كان مخطئا، لم ير أحدا قريبا أو بعيدا. مَن يمكن أن يتركَ ظل بيته البارد ويخرج إلى هذا الجحيم؟؟ تهيأ ليعود إلى ما كان عليه ثم أعاده الشك ليدقق النظر جيدا، ولما تأكد أن لا أحد حوله، ألقى بنفسه على كومة الزرع ثم دس يده تحتها ليُخْرِجَ الكمان. لكنه لم يجده، قام مفزوعا من مكانه وبحث جيدا فلم يجد، قرر أن يبحث كومة الزرع سنبلةً سنبلةً، وحتى حين فعل لم يظفر بشيء!!

جلس القرفصاء خائبا مشدوها لا يدري ما الذي حدث؟ هل طار الكمان؟ هل تبخر في الهواء؟ مر وقت طويل وهو على تلك الحال يفكر في الأمر، ثم قطع عليه تفكيره العميق صوت خشخشة من الخلف. وقبل أن يلتفت لِيَتَبَين مَن القادم، كانت الكف الخشنة تنهال على خده الصغير بصفعة قوية.

----------------------------
بلا هوية
نبيهة محضور - اليمن

أخذ يقطع الشارع ذهاباً وإياباً.. كما اعتاد الجميع أن يروه هناك، تارة يرقص كالعصفور المذبوح، وتارة يسمح لدموعه أن تغادر سماء عينيه، علها تغسل ما بداخله من كدر، وتارة يداعب أكياس البلاستيك الجاثمة على صدر المدينة، شاحب الوجه بهيئته الرثة، وبقايا ثياب بالكاد تغطي جسده الهزيل، شعره الكثيف المجعد الذي هجره المشط منذ أعوام، يتدلى حول وجهه، وعلى كتفيه الذين نأيا بحمل الأيام, كانت نظراته تائهة، تسافر من عينين رست بهما الأحزان وتحجرت بهما الدموع، لم يبق له إلا ذلك الجسد الناحل، الذي تسكنه جروح الزمن, بعد أن منح عقله فرصة الغياب عن العالم، لم يعد يدري هل غاب عقله عن العالم؟ أم أن العالم غاب عنه؟؟ أم أنه وصل إلى ذروة العقلانية، فآثر العيش كإنسان صامت في عالم حيوانات ناطقة, كبلته بقيود الزيف والخداع.

ساقاه النحيلتان تحملانه إلى المجهول, بخطوات مبهمة لا تعرف مسارها إلا حينما يعضه الجوع فيذكره بحق من حقوقه المسلوبة.. فتقوده قدماه إلى برميل النفايات ليجود بما فيه من بقايا بني جلدته! فيسكت بعضاً من عصافير بطنه!

وعندما يبدأ ضوء الشمس بالرحيل، عن عالم تنكر له وألغى أدميته، تخور قدماه وتنأيا عن حمله، فيبحث عن حضن دافئ يحتويه، فلا يجد إلا تلك الزاوية من الشارع على ذلك الرصيف الذي اعتاد أن يرمي بجسده وآلامه في أحضانه فيتكوم على نفسه، تاركاً سياط البرد تدفئ جسده.
----------------------------
* أديب وكاتب من مصر.