ملف: عبد الرحمن الخميسي.. سينما عبدالرحمن الخميسي

ملف: عبد الرحمن الخميسي.. سينما عبدالرحمن الخميسي

الحياة للفن، والفن للحياة

في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، كانت الإذاعة هي الوسيلة الوحيدة للترفيه والتثقيف الجماهيريين، وكانت أجهزة المذياع كبيرة الحجم لاتزال باهظة الثمن بما لا ييسر اقتناءها على الأغلب الأعم من المصريين والعرب.

مازلت أذكر هذا المشهد في طفولتي بالمدينة المصرية الصغيرة (المنصورة) آنذاك، إذ تخلو الشوارع فجأة من المارة في الخامسة والربع من بعد ظهر كل يوم، ويتجمع الناس بجوار أقرب مقهى أو دكان يوجد بداخله جهاز راديو، وينصت الجميع إلى الأغنية القصيرة التي تميز المسلسل اليومي، والتي كانت كلماتها القليلة ولحنها البسيط قد سارا على ألسنة الكبار والصغار آنذاك: «حسن ونعيمة، حسن ونعيمة، قصة حب جميلة، نغنيها لعاشق الليل، ونحكيهاعلى الأرغول، ومزماره الحنون يقول: «حسن ونعيمة»، ثم نصمت لنستمع إلى أحداث المسلسل الذي كانت المفارقة أننا نعرف نهايته مسبقًا لأنها قصة شعبية شهيرة، ومع ذلك كنا نذوب مع ما نسمع، ونسبح في بحر الخيال الجميل.

عرفت بعد سنوات أن هذا المسلسل من تأليف وإخراج فنان يدعى عبدالرحمن الخميسي، وبعد سنوات أخرى من الدراسة في بحور الثقافة عرفت أنه فنان شامل بمعنى الكلمة تنقّل بين العديد من الفنون، ومن بينها فن السينما، ليقدم خلال فترة قصيرة لا تتجاوز أقل من عقد من الزمن أربعة أفلام من تأليفه وإخراجه. وكانت رحلته القصيرة في السينما، قبل أن ينتقل كعادته إلى مرحلة جديدة من حياته وفنه، تأكيدًا على أفكار يؤمن بها ولا يتخلى عنها أبدًا بالرغم من اختلاف الأدوات والوسائل.

وعندما أتأمل هذه الأفكار اليوم، أكتشف أن بذورها كانت كامنة في المسلسل الإذاعي «حسن ونعيمة» ذاته، الذي تحول عام 1959 إلى فيلم سينمائي أخرجه هنري بركات، واشترك في كتابة السيناريو مع الخميسي، وكان الفيلم هو البداية الأولى للممثلة الجديدة آنذاك سعاد حسني، التي اكتشفها الخميسي لتصبح فتاة الشاشة العربية بلا منازع طوال فترة الستينيات، وكانت هي وعصرها من علامات حقبة اتسمت بتفاؤل قومي لعله لم يتكرر في تاريخنا القريب. أقول إن «حسن ونعيمة» المسلسل الإذاعي والفيلم كان يحمل الكثير من سمات فن عبدالرحمن الخميسي: إنه يستقي مصادره من الناس، من حكاياتهم وأحلامهم وآلامهم، ويصوغها لهم بقدر كبير من البساطة والتأثير معًا. كما عبرت هذه الحدوتة عن «تيمة» سوف تلازمه طويلاً، وهي أن الحب الإنساني الطاهر والنقي يصطدم دائمًا بحواجز اجتماعية واقتصادية تنتهي به نهاية مأساوية، في إشارة سياسية متوارية إلى ضرورة تغيير الظروف والشروط لكي تتحقق للإنسان إنسانيته. وأخيرًا هناك البعد «الذاتي» الخاص بالخميسي نفسه، إن حسن «مغنواتي»، فنان، يقول عنه الفيلم في جملة حوار كتبها الخميسي: «المغنواتي ابن فن، وكل البلاد بلاده»، وإذا كان ذلك يجعله في نظر قطاع من المجتمع غير مؤهل للزواج من حبيبته نعيمة، حتى إن قصة حبه تنتهي بقتله، فإن ذلك أيضًا هو ما يجعله أهلاً لتقديرنا العميق وحبنا له. لقد كان «حسن» يمثل على نحو ما عبدالرحمن الخميسي، الذي يغني للناس أغنيات تضرب بجذورها في حياة الناس، ويدفع ثمن إيمانه برسالته الفنية حتى لو كان الثمن هو أن يقضي حياته سائحًا في الأرض، فكل البلاد بلاده، بل ربما دفع حياته ذاتها ثمنًا من أجل هذه الرسالة.

أولى الحواديت السينمائية

عندما صنع بركات فيلم «حسن ونعيمة»، وبالرغم مما تقوله عناوين الفيلم من أن الموسيقى التصويرية لمحمد عبدالوهاب وأندريه رايدر، فإن الموسيقى كلها كانت تنويعًا على اللحن الذي وضعه الخميسي للمسلسل الإذاعي، فكأنه يغلف الفيلم كله بطابعه الخاص. سوف تأتي الفرصة الأولى للخميسي ليصنع فيلمه الأول مؤلفًا ومخرجًا عام 1965 مع فيلم «الجزاء»، الذي كتب له الموسيقى أيضا كعادته في أفلامه التي تنتمي إليه. وفي هذا الفيلم يضع الخميسي رؤيته الخاصة عن دور السينما والفن، على نحو ناضج ربما بدا صعبًا على مخرج يصنع فيلمه الأول، لكن لأنه فنان متعدد المواهب أتقن العديد من الأشكال والوسائط الفنية، فقد كان يملك آنذاك بالفعل تلك الرؤية الناضجة.

يعود «الجزاء» إلى ما قبل ثورة 1919 كما تقول العناوين، ليحكى «حدوتة» عن كفاح المصريين ضد المحتل الإنجليزي، وقد اخترنا كلمة «حدوتة» لأنها أقرب إلى وصف «القصة» السينمائية، فهي تصهر في بوتقة واحدة العديد من عناصر القصص الشعبي بالرغم من أنها من تأليف الخميسي. في قلب الفيلم مجموعة من المناضلين الفدائيين الذين يكوّنون تنظيمًا سريًا يهدف إلى تدمير معسكرات المحتل، هناك الشاب مدرس العلوم مصطفى (رشوان توفيق) والمحامي حامد (حسين الشربيني)، اللذان يبدوان شريكين في الكفاح، لكن ما يفرقهما هو حب الفتاة الجميلة رجوات (شمس البارودي). هنا يعمد الخميسي إلى إحدى أدوات الفن الميلودرامية الشعبية لإثراء الحدوتة (وليست الميلودراما كما يتصور البعض أدنى في مراتب الدراما، وهناك دراسة مهمة للدكتور علي الراعي عن قدرتها على صياغة أفكار ثورية)، فمن خلال «مثلث» الحب التقليدي»: الحبيب والحبيبة والغريم، تصبح كلمات مثل الوطنية والفداء والخيانة والجزاء أكثر تجسيدًا وإنسانية.

وعندما يقبض الإنجليز على حامد تصبح دوافعه للخيانة وإفشاء سر زميله مصطفى أكثر قوة. ومرة أخرى وليست أخيرة في عالم الخميسي الفني تنتهي الحدوتة على نحو مأساوي بمصرع مصطفى على أيدي الإنجليز، ومصرع حامد على يد البقال البسيط سلامة (أبو الفتوح عمارة) انتقامًا من هذا الخائن. وتلك النهايات المأساوية تعبر في الحقيقة عن عنصر قد يبدو للوهلة الأولى متناقضًا في أفلام الخميسي، فهو يعي تمامًا أهمية عناصر الفرجة الشعبية على اختلافها (سوف نذكر بعضًا منها حالاً)، لكنه أيضا يرفض دغدغة مشاعر المتفرج بتلفيق نهاية سعيدة تجعله يشعر بأن «كل شيء على ما يرام»، فالأمر على العكس تماما، ولاتزال الرحلة طويلة لتحقيق الأحلام سواء كانت جماعية أو فردية، فتحقيقها يتطلب تغيير شروط الحياة الظالمة أولاً.

عناصر شعبية، وتقاليد سينمائية

تأمل تلك العناصر الشعبية في فيلم «الجزاء»، والتي يأتي في مقدمتها شخصية الراقصة فهيمة (رجاء يوسف)، فهي ليست أبدًا الراقصة كما تظهر في الأفلام المصرية التقليدية كوسيلة لإغراء رخيص، إنها هنا لحم ودم ومشاعر، تشترك في المقاومة لأنها تحب الوطن ورجلها معا. ولا ينسى الخميسي عندما يدخل بنا إلى الملهى أن تكون كل الأغنيات التي نسمعها أغنيات فولكلورية شعبية، وليست من أغنيات الحانات الرخيصة. من جانب آخر فهو يستخدم شخصيات من المسرح الشعبي داخل الحبكة، فأحد أفراد التنظيم السري (أبو بكر عزت) يتنكر في ثياب المجذوب، كما يظهر في مقدمة الكادر «صندوق الدنيا» الذي تبدو كلمات صاحبه كأنها استكمال لأحداث قصة الفيلم، عندما يشير إلى المعركة بين أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة.

إلى جانب هذه العناصر القادمة من الفن الشعبي، هناك وعي بالتقاليد السينمائية الجماهيرية ذات المذاق الخاص بالنسبة للمتفرج العربي، مثل الكوميديا النابعة من داخل المشهد وغير المقحمة عليه، مثل مشهد قيام سلامة البقال متواضع الحال سعيًا إلى مكافأة من المخبر بتعقب البطل مصطفى ليعرف سر مجموعة الفدائيين، فالحلاق عضو التنظيم يحلق له نصف شاربه لكي يلهيه عن المطاردة. كما يستخدم الخميسي عنصر التشويق عندما تخفي الراقصة المتفجرات في خصرها وهي ترقص، في مفارقة ساخرة من مشهد الرقص التقليدي في أفلام السينما المصرية! وهناك أيضا مشاهد توتر المطاردات التي يشعر المتفرج عند نهايتها وقد توحد مع البطل بالسعادة لنجاحه في الهروب من المخبر الشرير.

وبقدر ما يستعين الخميسي بتلك العناصر الجماهيرية، فإنه يكشف أيضا عن رؤية بصرية رفيعة قد لا تلحظها إلا عين المتفرج الواعي، تأمل مثلاً كيف أن المشهد الافتتاحي كله يدور دون كلمة حوار واحدة، حيث يقتحم الإنجليز حيًا شعبيًا للقبض على شقيق رجوات لأنه دافع عنها ضد جندي إنجليزي تحرش بها، إن المسدس يبدو في مقدمة الكادر ضخمًا، بينما تبدو الجموع من المواطنين العزل في الخلفية ضئيلة أمام بطش السلاح. وفي مشهد مهم آخر، يجلس الضابط الإنجليزي ممسكًا بمقود كلبه، ليتحدث إلى حامد المقبوض عليه، ويغريه إذا أفشى أسرار رفاقه بالحرية، وفي اللحظة ذاتها يطلق الضابط للكلب عنانه، ليدرك المتفرج أنها «حرية» مزعومة تليق بالكلاب وحدهم! تماما كما يقع حامد في القمامة وهو يسير مقررًا أن يخون زميله في الكفاح، وهذا نوع من «المجاز البصري» نادرًا ما تراه في السينما المصرية.

دراما العالم المفتوح

بدلاً من كلمة «النهاية» التقليدية مع المشهد الأخير لفيلم «الجزاء»، نرى كلمة «البداية»، وتلك فكرة جوهرية في أفلام عبدالرحمن الخميسي، فالدراما عنده قد تبدو للوهلة الأولى مغلقة على شخصيات بعينها، لكنها في الحقيقة تشير إلى عالم أكبر، لا تنتهي فيه الصراعات على النحو الذي نراه في الأفلام، بل إنها صراع لا ينتهي بين الحلم والواقع. وإذا كانت تلك الفكرة أقرب إلى المعالجة الميلودرامية، فإن الخميسي يأخذها إلى مجال الكوميديا في فيلمه الثاني «عائلات محترمة» (1969)، الذى اشترك في كتابة السيناريو له مهدي الحسيني، وكتب حواره أحمد الخميسي.

في مكان القلب من القصة هناك آثار من المسرحيات الكوميدية متقنة الصنع، التي تعتمد على سوء التفاهم الناتج عن انقلاب الأدوار، لكنك إذا تأملت ما بين السطور فستجد آثارًا من مسحة مأساوية رقيقة، ذات ظلال اجتماعية واضحة. يكشف الفيلم عن قسوة من يملكون المال تجاه من لا يملكون، وهي فكرة سوف تتكرر في الفيلمين التاليين للخميسي أيضًا في تنويعات مغايرة. الرجل الثري المتصابي شوكت (عدلي كاسب) لا يفكر إلا في تراكم الثروة، والشره المادي المفرط الذي يجعله يدوس على كل من يقف في طريقه، وهو يأكل حق الفتاة اليتيمة نوال (مديحة كامل) ابنة أحد أقربائه التي فرض نفسه وصيًا عليها، ثم يطردها من منزله عندما يدرك أن هناك قصة حب تربطها بابنه الشاب ممدوح (حسن يوسف)، بينما يريد الأب أن يستخدمه طُعْما لاصطياد الفتاة العابثة نيفين (ناهد شريف) التي يقرر الزواج من أمها المتصابية اللعوب تفيدة (نادية سيف النصر).

إن كلا الطرفين: (شوكت من ناحية، وتفيدة وابنتها نيفين من ناحية أخرى يخطط للإيقاع بالطرف الآخر) بتصور أن ذلك سوف يجلب الثراء، وإن كانا في الحقيقة مخدوعين لأنهم جميعا أبناء طبقة مفلسة، لكنها تقف حجر عثرة في طريق الطبقة الفقيرة التي لا تبحث لنفسها إلا عن مكان تحت الشمس، أو «حلتين ووابور» كما تقول فاطمة (مديحة حمدي) خادمة نيفين، وتوكل (عبدالمنعم إبراهيم) سائق شوكت. وبالرغم من أن الفيلم يمضي قليلاً في حبكة سوء التفاهم، حين يضطر توكل وفاطمة لانتحال شخصيتي ممدوح ونيفين، فإن هذه الحبكة تكشف من جانب عن صدق إحساس هؤلاء البسطاء بالحياة، كما تسفر من جانب آخر عن مأساة، حيث لا تلقى فاطمة إلا الطرد بسبب جريمة سرقة لم ترتكبها، وربما أوحى لنا الفيلم بأنها سوف تنزلق إلى طريق الرذيلة، في الوقت الذي يظل فيه توكل يبحث عنها بلا جدوى.

سارقو الفرح

نهاية مأساوية مفتوحة أخرى، تؤكدها تلك اللمحة عن عجوز آخر يصطاد أرملة وابنتها، ويكرر الجملة نفسها التي سمعناها على لسان شوكت من قبل: «جوزك كان من أعز أصدقائي، أعزهم». وهناك في الفيلم حرص على تكرار بعض التعبيرات الخاوية من المعنى على لسان هذه الطبقة الجوفاء بدورها، مثل «الحياة عامةً مثلا، واللا إيه رأيك»، أو كلمة «شكليات» في الإشارة إلى السرقة المغلفة بمستندات ملفقة.

لن تخطئ في الفيلم أيضًا إدراك عناصرالفرجة السينمائية (وربما المسرحية أيضا) في محاولة للاقتراب من الجمهور الشعبي، فعندما لا تجد الفتاة البريئة نوال ما يسد رمقها تلجأ إلى العمل كراقصة، بما يحمله ذلك من ظلال ميلودرامية أيضًا. كما تصبح شخصية السائق توكل أقرب إلى شخصية «الفرفور» أو الخادم الذي ينتقم بطريقته من السادة الزائفين، كما يحدث في الحفل التنكري الذي يستخدمه توكل لفضح زيف مشاعر أبناء طبقة الأثرياء تجاه بعضهم بعضًا. وهناك أيضا تلك الأغنية الشعبية التي تدندن بها فاطمة في لحظات سعادتها، وتحمل الأوركسترا نغماتها في الموسيقى التصويرية لتقدمها في تنويعات فرحة تارة وأسيانة تارة أخرى.

هذا التناقض بين الفرحة والأسى، التناقض الذي يتولد من سرقة من يملكون لأحلام من لا يملكون، سوف يصبح أيضا هو جوهر الفيلم الثالث للخميسي «الحب والثمن» (1970)، هذه المرة مختفيًا بشكل رمزي خلف مثلث الحب التقليدي: الزوجة والزوج والحبيب. ومثلما كان الأب في «عائلات محترمة» يسعى دائما لاصطياد الصفقات اللاأخلاقية من أجل المال، ففي «الحب والثمن» رجل ثري يدعى حسام الجوهري (أحمد مظهر)، تكاد حياته أن تتلخص في صفقات يريد أن يصبح فيها هو الفائز الوحيد. وفي الدقائق الأولى من الفيلم (الذي كتب السيناريو والحوار له علي الشوباشي وإبراهيم الموجي، عن قصة سينمائية للخميسي) يتأسس الصراع في أن حسام يقيم حفلاً من أجل عقد صفقاته، ويستأجر عازفة البيانو الشابة سوسن (زيزي البدراوي) لتسلية ضيوفه، بينما تعتز هي بفنها، مما يؤدي إلى التصادم بينهما.

لا يرضى حسام أبدًا بأن يكون خاسرًا في أي علاقة، ويضطر في آخر المطاف إلى أن يحاصرها وأباها بنفوذه المالي حتى يتزوجها لكي «يمتلكها» بالمعنى الحرفي للكلمة. وحين يظهر المهندس الشاب أحمد (ابراهيم خان) في حياتهما، تبدو أمام سوسن إمكانية عمل علاقة إنسانية حميمة، تتطور إلى قصة حب دافئة، تدفعها إلى أن تطلب الطلاق من حسام، الذي يستخدم مرة أخرى كل مصادره لتوريط الحبيب في جريمة، وحين يفرج عنه بما يبشر مرة أخرى بالعودة إلى الحبيبة يلعب حسام بورقته الأخيرة: القتل.

في «الحب والثمن» يتخلى الخميسي قليلاً عن عشقه القديم للعناصر الشعبية، بقدر ما يقترب من صياغات سينمائية وبصرية تميل إلى البلاغة، إن «سوسن» تبدو في العديد من المشاهد بين التماثيل الخزفية الصغيرة في منزل حسام كأنها أحد مقتنياته، وعندما تدخل في حوار مع الزوج يستخدم الخميسي المرآة لنرى صورتين على الشاشة لكل منهما، تأكيدًا للصراع النفسي في أعماق كل شخصية. وعندما يحاول حسام أن ينال حقوقه الزوجية من سوسن فإن العلاقة على الشاشة تبدو أقرب إلى الاغتصاب، وتعيش سوسن لحظة كابوسية يتم التعبير عنها بصريًا بمشهد متخيل من وجهة نظرها للدخول في كهف صخري ربما كان مسكونًا بالوحوش.

من أين يأتي كل هذا الحزن؟

أما فيلم الخميسي الأخير «زهرة البنفسج» فإنه يبدو ملغزاً، إذ ينتمي هذا الفيلم في بطاقة إنتاجه إلى عام 1972، بينما لم يتم عرضه إلا عام 1977، كان الخميسي وقتها يخوض أحد فصول منفاه المتكرر. وهناك إشارات فنية في الفيلم تدل على أنه لم يكتمل، فللمرة الأولى لا يضع الخميسي موسيقى الفيلم، بينما كانت الموسيقى عنده كما سوف نرى جزءًا من نسيج العمل، كما أن المونتاج هنا يبدو غير متماسك، وهناك مشاهد عديدة طويلة هدفها الوحيد إطالة زمن الفيلم دون ضرورة درامية حقيقية.

ومع ذلك سوف نجد في قلب القصة تنويعا على فكرة «الحب والثمن»: هناك صاحب ملهى ليلي يدعى راشد (أحمد توفيق) «يمتلك» الأرملة الشابة الجميلة حياة (زبيدة ثروت) ولا يرضى أبدًا بأن يعطيها حريتها، بينما هي تقع في حب الشاب كمال (محمد لطفي) الذي يمثل لها أملاً في الخروج من الأسر، لولا أنه مصاب بمرض خطير لن يترك له إلا شهورًا معدودة من الحياة. إنها مأساة ميلودرامية متكاملة الأركان، قد تجد فيها بعدًا رمزيًا حتى في اختيار الأسماء، فـ «كمال الحياة» لن يتحقق لأن العمر أقصر من أن ينبغي له، ولا ندري إن كانت تلك المأساوية (ولها جذور قديمة في أفلام الخميسي) قد أصبحت أكثر قتامة في تلك الحقبة من السبعينيات.

إن شئت تأملاً لدوافع تلك النزعة الحزينة عند الخميسي فربما كانت تكمن في أنه كان يرى الأمل في تحقيق أحلامه أملاً بعيدًا، لأن شروط ذلك تحقيقها لايزال بدوره بعيدًا. وهذا جانب ذاتي أيضا في تكوينه الفني والسياسي، وهو الذي قال عن نفسه إنه قضى معظم حياته يدافع عن قيثارته، بدلاً من أن يعزف عليها.

سوف أتوقف بك عند دور لم يلفت انتباه الكثيرين، فنحن نعرف الخميسي ممثلاً سينمائيًا في فيلم يوسف شاهين «الأرض» (1970) في دور الشيخ يوسف، الكهل الذي لم يكمل تعليمه في الأزهر ليعمل بقالاً في القرية، وتتراوح مواقفه بين الوقوف إلى صف الفقراء تارة والجنوح إلى الملاّك تارة أخرى. وإذا كان الخميسي قد نجح تمامًا في إضفاء الطابع الإنساني على هذه الشخصية التي قد يجعلها ممثل غيره أقرب إلى دور الشرير، فإن هناك دوره في فيلمه «الحب والثمن»، هذا الدور الذي يكاد أن يكون بعضًا من ذاته: إنه الأب الفنان الرسام الذي يكسب قوت يومه من ممارسة الفن، لكنه يرفض أيضا الانصياع لطلبات «السوق»، حتى لو عانى من شظف العيش، وتراه يعطي الطعام كله لابنته ليتسلل في الليل ليأكل بقاياه!

بذلك الصوت الإنساني العميق، واسترخاء قسمات وجهه، أخفى الأب والخميسي معًا معاناة الفنان والإنسان والمناضل، لكنها المعاناة التي تكشف عن حزن دفين في أعماله السينمائية، وكأنه صرخة مكتومة تطالب بأن يكون العالم أكثر جمالاً وعدلاً. إنه الفنان الذي يعرف أن نهاية «حسن» المغنواتي العاشق سوف تكون القتل، لكنه لا يتوقف عن الغناء والعشق.

وذلك هو الحزن الذي يتجسد أيضا في موسيقاه التصويرية لأفلامه، والتي تتضمن دائما صوتا إنسانيًا كوراليًا، يصدح في لحظات الشجن والألم، وتتضافر مع الأغنيات الشعبية المنسوجة بعرق الجماهير في الحزن والفرح والعمل والأمل واليأس. إنه حزن مصري خالص، لا ينسى أبدًا أن يسخر ويضحك حتى في أكثر اللحظات قتامة. تأمل تناقض الصورة والصوت مثلاً في فيلم «عائلات محترمة» (إنه تناقض يمتد إلى عنوان الفيلم ذاته)، حين يدور حديث عن الأخلاق بينما الصورة تكشف عن تلصص وضيع، وهو التناقض نفسه في فيلم «الحب والثمن» عندما يأتي التعليق عن أصل العائلة الرفيع، بينما الصورة على الشاشة تكشف عن جذور بالغة التواضع، ليست هنا في الحقيقة أي مفارقة أو تناقض، فتلك هي الحياة كما عاشها عبدالرحمن الخميسي: أحلام رحبة تتحقق فيها كرامة الإنسان، وواقع خانق ينكر على الإنسان إنسانيته، وهي الصورة التي عكسها في أفلامه، لأنه لم يكن يؤمن أبدا بفن غريب عن الواقع، فقد عاش حياته للفن، والفن عنده يعود دائمًا إلى الحياة.
---------------------------------
* ناقد سينمائي من مصر.

 

أحمد يوسف*