عالم أقل انفلاتاً

عالم أقل انفلاتاً
        

  • لسنا وحدنا, في عالمنا العربي, من يحس بفيضان المتغيرات العالمية إلى حد المداهمة والإغراق أحيانا, فالبشرية على ظهر كوكبنا, كلها, تعاني هذا الإحساس, مما يعطي انطباعاً بأننا نعيش في عالم منفلت, لكن هناك مقترحات بجعل العالم أقل انفلاتاً, وواجبنا أن نتحاور مع هذه المقترحات مهما بدت مختلفة عما ألفناه من أفكار.
  • كثير من الدراسات المستقبلية صارت تخفق أمام اختبار الزمن مما حتم أن يكون هناك لكل (سيناريو مستقبلي) آخر مضاد يتحاور معه ويصوبه لتكون التوقعات أكثر دقة
  • كان العالم أبسط تكويناً, وأكثر انكشافاً, مما جعل وضع خطط المستقبل أيسر برغم أن معاناة الآباء لم تكن أقل

          لا يشك أي مراقب منصف في أننا نعيش عالماً يمر بمرحلة فيها الكثير من عدم الاستقرار, بمعايير فترات عشناها سابقاً أو عاشها آباؤنا من قبل, حيث كان الاستقرار لا يعني جمود الأحوال على ما هي عليه, بل يعني وضوح الرؤية المستقبلية على المدى القريب, والمدى المتوسط, ففي مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار القديم, على سبيل المثال, كان الخط البياني للحراك السياسي واحدا وواضحا في امتداده نحو المستقبل المنظور والذي يعني الاستقلال السياسي في أفق قريب أو منظور, ومن ثم كانت خطط ما بعد التحرر تُعد بعناء قليل من المعنيين, وأحلام المستقبل تندفع منطلقة من الحلم إلى اللحظة الراهنة, حتى في الشأن الثقافي الذي يشغل قمة هرم المتطلبات الإنسانية.

          كان العالم أبسط تكويناً, والمستقبل أكثر وضوحاً, رغم أن المعاناة لم تكن قليلة, أما الآن, فلا شك في تعقيد وتداخل الصورة المستقبلية, حتى أن سيناريوهات الدراسات المستقبلية كثيرا ما تعاني إخفاقاً مخجلاً أمام اختبارات الزمن, وتبدو مجرد أحلام وردية, أو تصورات هزلية, عندما يأتي الموعد المضروب سلفاً لتحققها, دون أن يتحقق منها شيء! بل كثيرا ما يتحقق العكس الذي لم يكن في الحسبان. لهذا, فإن كل تطور مستقبلي صار ملزماً بأن يصاحبه تصور مضاد, يتحاور معه, يعطيه ويأخذ منه, لتكون الصورة أقرب إلى الممكن عندما يباغتها اختبار الزمن. وهذا التفكير الديمقراطي في مجالات المعرفة لم يعد ترفاً ولا تفضلاً من النخبة, بل أصبح واجباً على هذه النخبة تجاه نفسها, وبمعنى أكثر تحديدا, تجاه تصويب أفكارها وتصوراتها حتى لا تعاني الخذلان وتفقد المصداقية.

          إذن, لا بد من طرح الرؤية, وأن نحترم احتمالات الرؤية المضادة, مؤكدين على أن عصر احتكار الحقيقة, من جانب واحد, قد ولّى بلا رجعة, وينبغي أن يولي, هذا إذا أردنا حقاً أن تكون حساباتنا أكثر دقة.

حقول المعرفة تتداخل

          المثال الواضح القريب الذي أرغب في الحديث عنه هو مفهوم (العولمة), الذي خاضت فيه مقالات وكتب وأحاديث مرئية ومسموعة بلا حصر ولا عد, في مطبوعاتنا وإعلامنا العربي, ولا بد أن نعترف بأن معظم هذه المعالجات كانت أحادية الجانب, وفيها كم من المعالجة المتسرعة والسطحية والانفعال, وكل ذلك بدافع الخوف على الهوية أو التوجس في نوايا (الآخر). ومن ثم بدت هذه (العولمة) وكأنها غول يهم بابتلاعنا! وبرغم أن كثيراً من دواعي الخوف على تآكل هويتنا والكثير من الشك في نوايا (الآخر) تتملكني أيضاً, فإنني أرى أن إغلاق الإطار على الشك والخوف, هو إهدار لفرصة تاريخية ممكنة لإعادة التدقيق في الحسابات, لا من أجل إرضاء (الآخر) أو الادعاء والتظاهر بالتحضر, بل من أجل (الذات العربية) بهويتها التي نعتز بها ونسعى لتجديدها, ومن أجل مصالحنا التي - بطبيعة الحال - ننحاز إليها, ولن يصون هذه وتلك مجرد التمترس بالرفض, وإغلاق العيون لحجب الرؤية, بل سيصونهما - الهوية والمصالح العربية - أكثر, أن نفتح عيوننا على المتغيرات السريعة التي تجري من حولنا, والاستعداد لتقبل ما يلائمنا وهو كثير فيما أرى.

          بهذه الرؤية أقبلت على قراءة كتاب أنتوني جيدنز Anthony Giddens وأعترف بأنني لم أمتلك هذا الاستعداد (الديمقراطي) للاقتراب من محتوى الكتاب إلا بعد أن اطمأننت إلى بعض توجهاته من خلال تصفح سريع وجدتني أتوقف خلاله أمام عبارات مقنعة بانفتاحها على الاحتمالات المتعددة مثل الاستشهاد بمقولة عالم الاجتماع الألماني (ماكس فايبر): (إن العالم الذي نعيش فيه اليوم لا يبدو لنا أو نستشعر أنه يشابه ذلك العالم الذي تنبأ به المفكرون. فبدلاً من أن نقبض عليه ونخضعه بصورة متزايدة لسيطرتنا, فإنه يبدو مستعصياً على الخضوع لها, إنه عالم منفلت). ومن مقولة ماكس فايبرر هذه اختار (جيدنز) أن يكون عنوان كتابه هو (عالم منفلت)(*) ليكرس لهذا الانفلات, بل ليُقرَّ به, وليستشرف آفاقا لكبح جماح هذا الانفلات. والجديد والمدهش أنه عثر على هذا الكابح في حالة (العولمة) أو على وجه التحديد: الوجه الإيجابي للعولمة.

          وهذا ما يدعو للتوقف أمام تفاصيل الكتاب, الذي أود محاورته في هذه العجالة, ولا أقول استعراضه.

          أنتوني جيدنز مؤلف الكتاب عمل عميداً لكلية لندن للاقتصاد, وكتب وحرّر أكثر من ثلاثين كتابا تُرجمت إلى عديد من لغات العالم, وبالمرور على عناوين بعض مؤلفاته يمكننا إدراك ما يمثله فكرياً. فمن بين آخر مؤلفاته نجد (تبعات الحداثة (1989) - الحداثة وهوية الذات (1991) - تحولات العاطفة (1992) - ما بعد اليسار واليمين (1994) - الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية الاجتماعية (1998), (وهو الموضوع الذي ذاع كثيرا في أوساط المثقفين والسياسيين) - وهذه العناوين كلها تشير إلى حالة فكرية مهمومة بمتغيرات حقيقية في الفترة الأخيرة, ومن ثم هو مفكر شديد المعاصرة, ومن ملامح هذه المعاصرة أن اهتماماته تتجاوز تخصصه الأكاديمي لتجادل تخصصات أخرى تتماشى مع عنصر الاقتصاد وإضافات العلوم والتقنية والمتغيرات الاجتماعية والثقافية التي ولدتها هذه الإضافات وتلك المتغيرات. إنه مفكر يمثل تداخل حقول المعرفة, ومن هنا تنبع حداثته واتساع حقول المعرفة التي يتجول فيها, وتنبثق ضرورة الإصغاء إلى ما يقوله, سواء اتفقنا أم اختلفنا معه.

          يرى جيدنز: أننا نحيا في عالم متحول يؤثر في كل جوانب حياتنا تقريباً. وبغض النظر عما إذا كان هذا للأفضل أو للأسوأ, فإننا نندفع دفعاً للانخراط في نظام كوني لا يفهمه أي منّا فهماً كاملاً, بيد أننا نشعر جميعا بتأثيره فينا.

متشككون وراديكاليون

          النظام الكوني الذي عناه جيدنز لم يكن سوى العولمة, والتي عرض - قبل أن يقدم وجهة نظره فيها - لطرفي النقيض في المواقف منها, فالمتشككون - على حد تعبيره - يرون: أن مجمل الحديث عنها ليس إلا لغواً, وأياً ما كانت منافعها وآثارها, والمحن المترتبة عليها, فإن الاقتصاد العالمي ليس مختلفا عما كان عليه في فترات سابقة. أما الراديكاليون - على حد تعبيره أيضا - أصحاب الرأي المناقض, فإنهم يرون أن العولمة ليست فقط واقعاً فعلياً, بل إن تداعياتها يمكن أن تُستشعر في كل مكان, ويذهبون إلى القول إن هذه التداعيات جعلت السوق العالمي (وتبعاته السياسية والاجتماعية والثقافية.. بداهة) أكثر تطوراً مما كان عليه في الستينيات والسبعينيات, ومن ثم لم يعد يكترث بالحدود, مما جعل (الدول القومية) تفقد نفوذها, ويفقد السياسيون معظم قدرتهم على التأثير في مجرى الأحداث.

          وبعد أن عرض جيدنز لموقف المختلفين تجاه العولمة, قدَّم وجهة نظره هو, وكان أقرب إلى من سمّاهم (الراديكاليين) إذ رأى أن الاقتصاد العالمي - بكل تبعاته السياسية والاجتماعية والثقافية.. أيضا - يتوجه نحو (النقد الإلكتروني), حيث الأموال أرقام على الكمبيوتر, مما لم يكن له نظير في الأزمنة السابقة, وبمجرد ضغط بعض الأزرار يتم تبادل أكثر من تريليون دولار في أسواق النقد العالمية, وهو مبلغ لو كان من فئة أوراق المائة دولار ووضعناها فوق بعضها البعض لوصل ارتفاعها إلى حوالي عشرين مرة ارتفاع قمة جبل إيفرست الذي يصل إلى (8848 متراً).

          ومن هذا المثال الخارق, يستنتج جيدنز أن: العولمة كما نخبرها ليست جديدة فقط في العديد من جوانبها ولكنها أيضاً ثورية. وعند هذه النقطة يبدأ افتراقه عن (الراديكاليين), الذين رآهم كالمتشككين, (لم يفهموا بشكل مناسب فحوى العولمة, إذ نظر كلاهما إليها في جوانبها الاقتصادية وحسب), بينما يراها هو ظاهرة سياسية وتكنولوجية وثقافية بالإضافة لكونها ظاهرة اقتصادية. وأنها ظاهرة تأثرت - قبل كل شيء - بالتطور في نظم الاتصالات التي تعود إلى نهاية الستينيات فقط مع حلول عصر الاتصالات عبر الأقمار الصناعية عندما أطلق أول قمر صناعي تجاري عام (1969), ووصل عدد هذه الأقمار الصناعية الآن إلى عدة مئات, مما أذن (لشفرة مورس التلغرافية) أن تعلن عن تقاعدها تماماً أول فبراير عام 1999, وتنتهي كوسيلة للاتصال البحري. ولحاقاً بالاتصالات عبر الأقمار الصناعية انتشر البث التلفزيوني عبر هذه الأقمار, مما قرَّب للأذهان بشكل عملي مفهوم تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة.

قرية كونية أم نهب كوني?

          خلال حماسه للعولمة, لا يخفى جيدنز (بعض آثارها السلبية) فيعترف: والحقيقة أن الإحصاءات ذات دلالات مخيفة. فلقد انخفض النصيب النسبي للعشرين في المائة الأكثر فقراً من سكان العالم, من الدخل العالمي, من 2.3% إلى 1.4% فيما بين الأعوام 1989 - 1998. في حين أن النصيب النسبي لأغنى عشرين في المائة, قد ارتفع. ثم يورد جيدنز أمثلة تنتهي به إلى رؤية أن الحديث عن قرية كونية يمكن أن يوصف بأنه (حالة نهب كوني). وأن النظام المالي يشبه نوعاً من (الاستعمار المعاكس).

          وهنا كان يمكن لجيدنز أن ينسف حماسه للعولمة, لكنه تدارك هذا بالتشديد على أن هذا الجانب هو أحادي النظرة, لأنه يتوقف أمام الظاهرة الجديدة كعولمة اقتصادية لا غير. وبالقفز إلى ما وراء هذه (العولمة الاقتصادية) التي تمثل نوعاً من الانفلات العابر, يأخذنا جيدنز إلى قلب رؤيته الإيجابية للعولمة, كمسعى نحو عالم آخر أقل انفلاتاً, إذ: أصبحت الأشكال الجيوبوليتيكية القديمة غيرمجدية, وثمة تغيرات داخلية في كيانات (الدولة القومية), والأسرة, والعمل, والتقاليد, إذ أصبحت هذه الكيانات - في رأي جيدنز - نظماً صَدَفية Shell Institutions غير مواتية لإنجاز الأهداف التي وُجدت من أجل النهوض بها, ولعله يقصد أنها لم تعد مواتية في ضوء اجتياح المتغيرات الجديدة, وهو يشير إلى هذه المتغيرات وتأثيراتها فيقول: إنها تخلق مجتمعاً عالمياً كوزموبوليتانيا, ونحن أول جيل يعيش في ظل هذا المجتمع الذي لا يمكننا أن نرى ملامحه إلا بصورة مشوشة فقط, إذ يهز هذا المجتمع الأساليب القائمة لحياتنا أينما وجدنا. وهذا - على الأقل في هذه اللحظة - ليس نظاماً عالمياً تدفعه الإدارة الإنسانية الجماعية, بل إنه يظهر إلى حيز الوجود بطريقة فوضوية اعتباطية تؤثر فيها عوالم مختلفة, وهو ليس مستقراً أو آمناً بل إنه يدعو إلى القلق, كما أنه موصوم بانقسامات عميقة.ويشعر العديد منا بأنه سقط في قبضة قوى لا قبل لنا بالسيطرة عليها, فهل يمكننا أن نعيد فرض إرادتنا عليه?

تحول جوهري أم عارض?

          تساءل جيدنز, وهو لا يستطيع إنكار أشكال العالم المنفلت المتعلق ببعض جوانب تلك العولمة, لكنه سارع بالرد على تساؤله كما لو كان يبادر بالرد على أسئلة (المتشككين): أعتقد أن ذلك بإمكاننا, إن فقدان القوة الذي نخبره ليس علامة على العجز الشخصي بل إنه يعكس عجز أنظمتنا. ونحن نحتاج إلى أن نعيد بناء هذه الأنظمة التي بحوزتنا أو إلى خلق أنظمة جديدة, ذلك أن العولمة لسيت أمراً عارضاً في حياتنا اليوم, بل هي تحوُّل في جوهر ظروف حياتنا.

          وفي طريقه نحو استشراف عالم أقل انفلاتاً في ظل العولمة, وبأدوات العولمة ذاتها, أفرد جيدنز مساحة واسعة لفكرة (المخاطرة) كوسيلة من وسائل كبح الانفلات. وكمثال على ذلك, ما تشكله أساليب الزراعة الحديثة من مخاطرة يجب خوضها في سبيل محاصرة الانفلات المترتب على نقص المحاصيل الزراعية مع تزايد أعداد البشر, فمن ناحية صار مستحيلا - من وجهة نظره - الاستمرار في أساليب الزراعة التقليدية وإطعام الزيادة المطردة في عدد سكان العالم, وبالتالي فإن استخدام المحاصيل المهندسة وراثياً, وأساليب الزراعة الكثيفة بات ضروريا, لكن منجزات (العولمة) العلمية, كفيلة بالحد من المخاطرة عن طريق الهندسة الحيوية لتقليل استخدام الملوثات الكيماوية في الزراعة الكثيفة, وهذه الهندسة الحيوية هي أحد تجليات العصر الذي نعيشه.

مفردة مركزية.. الديمقراطية

          ومن الزراعة الكثيفة انتقل الكتاب إلى أدوات معالجة العالم المنفلت إلى عالم أقل انفلاتاً عن طريق التفاعل مع فيض المتغيرات المترتبة على مفهوم (العولمة الحميدة) وذلك بتغيير أنماط لم تعد ملائمة - من وجهة نظر الكاتب - مرتبطة بالتقاليد, وحقوق المرأة, والطفل, والأسرة, وهي كلها أمور تتطلب وقفات خاصة ومعالجة على انفراد لكل منها في ضوء ثقافتنا العربية. لكن هناك مفردة ضمن المفردات التي شملها جيدنز بوعوده لجعل العالم أقل انفلاتا, هي الديمقراطية, وهي مفردة يجب عدم إرجاء تأملها, لأنها قد تكون نواة مقنعة لعالم أقل انفلاتاً بالفعل.

          لكن ما هي الديمقراطية التي يعنيها جيدنز? يقول: ربما تكون الديمقراطية هي أكثر الأفكار المحركة قوة - في عصرنا - وهي نسق ينطوي على المنافسة الفعّالة بين الأحزاب السياسية على مقاليد القوة.

          ويتوقف أمام ما أسماه التناقض الظاهري للديمقراطية, ومفاده أنه في الوقت الذي تنتشر فيه الديمقراطية حول العالم, فإن البلدان الديمقراطية العريقة التي يفترض أن تحذو الديمقراطيات الناشئة حذوها, تسودها خيبة أمل واسعة في العملية الديمقراطية, إذ انخفضت مستويات الثقة بالسياسيين, ويذهب عدد أقل من الناخبين إلى صناديق الاقتراع, وتتزايد أعداد غير المهتمين بالسياسات البرلمانية, خاصة من الشباب. فأي أمل في ديمقراطية هذا شأنها أن تكون وسيلة مركزية من وسائل جعل عالمنا - العولمي - المنفلت أقل انفلاتاً?

          يبدأ جيدنز دفاعه عن أهمية الديمقراطية من منطلقات لا اختلاف عليها مثل أن الحكومات التسلطية لم تعد متوافقة مع الخبرات الحياتية في ظل متغيرات العولمة, إذ تفتقد المرونة والديناميكية الضروريتين للمنافسة في إطار الاقتصاد الكوني الإلكتروني. فما عاد بمكنة القوة السياسية المستندة إلى الهيمنة التسلطية أن تعتمد على مخزون التقاليد. ففي عالم ينهض على الاتصال الفعّال, تفقد القوة الغاشمة Hard Power أي تلك التي تفرض من أعلى إلى أسفل سطوتها.

          هذا مفهوم بديهي, ومقنع, على مستوى قطاعات (القرية الكونية) التي لا تزال تعشش فيها الأنظمة اللاديمقراطية. لكن ماذا عن قطاعات الديمقراطيات العريقة التي يعاني جمهورها إحباطاً من نوع آخر مرتبطا بالأداء الديمقراطي - العريق - ذاته?!

          هنا يأتي الجديد حقاً.. فالديمقراطية الغربية ذاتها في حاجة إلى تعديلات تفرضها علينا متغيرات العولمة وقد أسمى جيدنز هذه الآلية المطلوبة: دمقرطة الديمقراطية Democratizing Democracy بتعميقها وجعلها أكثر وأسرع استجابة للمتغيرات العولمية, إذ باتت البيئة المعلوماتية أكثر إتاحة وانتشاراً. وهذا يتطلب وجود (توزيع فعّال للقوة) و(شفافية) لم يعد ممكناً خداعها في ظل منجزات ثورتي الاتصالات والمعلومات, فضلاً عن رعاية ثقافة مدنية قوية, وتسامح بات من ضرورات التحاور الحضاري داخل المجتمعات, وبين الأمم على السواء, ومن أدوات العيش الصحي في قريتنا الكونية هذه.

          لقد أسمى أنتوني جيدنز كتابه (عالم منفلت) ووضع عنواناً ثانوياً لإيضاح غايته يتساءل: (كيف تعيد العولمة صياغة حياتنا?).. والصياغة المأمولة هي أن يصبح عالمنا أقل انفلاتاً. فهل يذكرنا ذلك بما ذهب إليه شاعرنا العربي حين قال: (وداوها بالتي كانت هي الداء?)

 

سليمان إبراهيم العسكري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات