هل بدأ تنفيذ الأحلام القديمة على أرض الواقع?

هل بدأ تنفيذ الأحلام القديمة على أرض الواقع?
        

شهوة الأطماع الصهيونية في مياه العرب

          تحتل المياه حيزاً رئيسياً في التفكير الاستراتيجي الصهيوني, لدرجة أنه يمكن تأكيد, ودونما أي مبالغة, أن هذه المسألة وفي أحيان كثيرة, تقود وتوجه هذا التفكير. ولا غرو, فالمياه في الحياة, وكلما ندرت أو شحت - كما هو الحال في منطقتنا - ازداد التفكير فيها وفي وسائل الحصول أو السيطرة عليها. ودون الخوض في تفاصيل المشروع الاستيطاني الصهيوني في منطقتنا واستهدافاته المتعددة يسعنا هنا أن نؤكد أن هذا المشروع ارتبط منذ ولادته وفي مراحل نموه المختلفة ارتباطاً وثيقاً بالمياه توسعاً وامتداداً, تخطيطاً وتنفيذاً. وكما قال أحد الباحثين في هذا الموضوع, فإن طبول حرب المياه قد دقت منذ أن خلق الفكر اليهودي المعاصر الصهيونية, وبدأت هذه الحرب التي لن تنتهي إلا بانتهاء الصهيونية من عالمنا.

          أدركت الصهيونية, ومنذ البدء, أهمية وحيوية المياه لمشروعها إن أريد له النجاح استناداً إلى أمرين:

          أولهما: كان المشروع الصهيوني استيطانياً وزراعياً في أساسه,وذلك من ضمن السعي لربط اليهودي بالأرض, الأمر الذي لا يتأتى إلا من خلال الزراعة, ما يعني ضرورة توفير أو وضع اليد على مصادر المياه الكافية لتلبية المشاريع والمستوطنات الزراعية, لذلك رأينا الأفواج الأولى من التسلل اليهودي إلى فلسطين تتجه, بناء على التوجيه الصهيوني, نحو الأماكن التي تكثر فيها المياه, وتكون إما صالحة للزراعة أو قابلة للاستصلاح الزراعي.

          ثانيهما: أن الهدف المعلن للمشروع الصهيوني كان تجميع شتات يهود العالم في فلسطين, وقد جاء في الفقرة الثانية من قرارات المؤتمر الصهيوني الأول فيما يتعلق بمساحة الدولة اليهودية المزمع إنشاؤها, أن تكون كافية لاستيعاب خمسة عشر مليوناً من اليهود, مما يعني ضرورة توفير المياه اللازمة لتلبية الحاجات المختلفة منها لهذا الكم البشري, علماً بأن موارد فلسطين الذاتية من الماء زهيدة ولا تستطيع أن تسد الحاجة المائية لهذا العدد من السكان. ولا يعقل أن تكون الصهيونية وهي تفكر في إنشاء دولة اليهود في فلسطين قد غفلت عن عجز طاقتها المائية عن تلبية متطلبات مشروعهم. فلا بد والحال هذه أن يكون قادة الصهاينة قد وضعوا في اعتبارهم السيطرة على موارد مائية من خارج فلسطين كيما يصبح ممكناً إنجاز مشروعهم.

          ويجدر بنا هنا أن نوضح نقطتين:

          أولاً: أننا عندما نتحدث عن تاريخ الأطماع الصهيونية في المياه العربية فإننا لا نتحدث عن تاريخ مضى وانقضى, أو عن حدث تاريخي طواه الزمن, وانما عن مشروع وضع في وقت مبكر ومازال قيد التحقيق, منه ما أنجز ومنه ما ينتظر. ولعلنا لانخرج كثيراً عن السياق إذا أوردنا جملة حاييم وايزمن الشهيرة في حينه عندما قال (النقب لن يهرب), وحصلوا عليه فيما بعد وكذلك, وقياساً على هذا القول, فإن ما حققوه من سيطرة حالية على مياه عربية لا ينفي اطماعاً أخرى وفق مبدأ (النقب لن يهرب) أي ما لم يتحقق في ظرف ما, سيتحقق في ظرف آخر.

          ثانياً: هناك إشكالية في فهم مدلول عبارة (الأطماع الصهيونية في المياه العربية), حيث يفهم من هذه العبارة أنها تشير إلى المطامع الصهيونية في تلك المياه العربية التي تقع خارج ذلك الجزء من فلسطين الذي احتله الصهاينة عام (1948), وأقاموا عليه دولتهم, وكأن المياه الواقعة هناك (داخل فلسطين) هي مياه (إسرائيلية) لا تدخل ضمن المياه العربية الواقعة في دائرة الاستهداف الصهيوني, وما نريد أن نجليه هنا هو التالي: أننا في فهمنا العام, ومثلما لانخرج فلسطين من إطار الأرض العربية, وكذلك لا نخرج مياهها من المياه العربية المسروقة, فهي مياه عربية سرقت من أراضيها, وإنما لمستلزمات البحث نركز على الأطماع الصهيونية في المياه التي تقع خارج حدود فلسطين التي احتلت عام 1948.

          هناك من الباحثين من يعيد الأطماع الصهيونية في المياه العربية إلى العهد التوراتي القديم, ويرى جذور هذه الأطماع في تعاليم التوراة, وثمة من يذهب إلى أن اليهود وضعوا, ومنذ القدم, نصب أعينهم السيطرة على أرض ومياه الآخرين, وأن ضرورة الوصول إلى الفرات والنيل والسيطرة عليهما هو, من ناحية اليهود, واجب ديني.

          وثمة من يستنبط الأطماع اليهودية في المياه العربية من العلم الصهيوني, حيث يشار إلى أن الخطين الأزرقين فيه إنما يرمزان إلى النيل والفرات.

          وعلى ما في هذا التوجه من إغراء للبحث, ومع أننا لا نملك ما ينفيه, نود هنا أن نحصر أنفسنا في التاريخ المعاصر للصهيونية, وهذا التاريخ على أي حال, لا تنقصه الأقوال والأفعال التي لا تدع مجالاً للريب في حقيقة النوايا تجاه المياه العربية المجاورة لفلسطين.

الأطماع في النيل

          تعود أول الاطماع المعبر عنها في مياه النيل إلى مطلع القرن الماضي وبالتحديد إلى عام (1902), ففي سعي هرتزل الحثيث للوصول إلى فلسطين اقترح في ذلك العام على الحكومة البريطانية, كخطوة أولى نحو فلسطين, فكرة توطين اليهود في سيناء, وأرفق اقتراحه بفكرة الاستفادة من مياه النيل, وتم إرسال بعثة كشفية صهيونية إلى مصر لدراسة الفكرة على أرض الواقع.

          ولتوفير المياه اللازمة لهذا المشروع, ورد اقتراح تحويل مياه النيل إلى سيناء (مكان التوطين) من ترعة الاسماعيلية عبر أنابيب تمر من تحت قناة السويس لتصل إلى الاجزاء الشمالية الغربية من المنطقة المختارة, وقد قدر في حينه أن المياه المطلوبة من النيل تبلغ نحو أربعة ملايين متر مكعب يومياً, ولإقناع المعتمد البريطاني في مصر, اللورد كرومر, بهذه الفكرة, قلل الصهاينة من كمية المياه التي يرغبون في سحبها من مياه النيل, فهرتزل يقول مخاطباً كرومر في 25 مارس 1903 إننا بحاجة إلى مياه الشتاء الزائدة التي تجري عادة إلى البحر ولا يستفاد منها.

          ولقد وافقت الحكومة البريطانية في حينه على هذه الفكرة, إلا أنها عادت فرفضتها لأسباب عديدة, وكمن المشروع في الأدراج الصهيونية غير أنه لم يمت, ولم ينفك الفكر الصهيوني عن الحلم به, وبقي هذا الطموح كامناً يبرز من حين لآخر بها, الا أنه لم يكن مستعداً لدفع الثمن المطلوب لقاءها وهو الانسحاب من الضفة والقطاع.

          وعادت هذه الفكرة إلى الظهور في أواخر السبعينيات, وتحديداً في الشهر التاسع من عام 78 على شكل مشروع قدمه المهندس الصهيوني اليشع كالي على صفحات جريدة (معاريف) العبرية في مقال بعنوان(مياه السلام) وعرض فيه مشروعاً متكاملاً للتعاون في نقل مياه النيل واستغلالها في سيناء وغزة والنقب, وإذا كان هذا المشروع قد طرح على يد شخصية غير (حكومية) إلا أن المستوى الرسمي الصهيوني أكد هذه الفكرة على لسان اسحق موداعي وزير الطاقة عام 79, فقد أوردت صحيفة (الفجر) المقدسية تصريحاً له في 5/1/1979 قال فيه (إن أنهار الليطاني والنيل واليرموك, يجب أن تدخل ضمن إطار خارطة الطاقة في الشرق الأوسط ويجب إحياء سيناء بواسطة النيل).

          وعلى النغمة نفسها أكد اليعيزر افتاي رئيس لجنة المياه في الكنيست في 19/10/1981, (أنه يتوجب على إسرائيل أن تطالب مصر في إطار تطبيع العلاقات معها بتحقيق العرض القديم بتحويل مياه النيل إلى النقب. فليس من المعقول ـ حسب قوله ـ أن تصب مياه النيل اليوم في البحر, بينما إسرائيل حائرة تتخبط بمشاكل نقص المياه).

          ويؤكد الباحث المصري الدكتور حسن بكر (أن لإسرائيل مطامع في مياه النيل تعود إلى بداية هذا القرن, إذ إن دوائر البحث الإسرائيلية ترى في نهر النيل المصدر الذي سيحل مشكلتها المائية في المستقبل, الأمر الذي يجعلها تولي عناية خاصة لكل من مصر وإثيوبيا في هذا المضمار).

          ويورد الباحث نفسه أن هذه الفكرة عادت عام 1986 للظهور في الصحف (الإسرائيلية) بمناسبة مؤتمر (ارماند هامر) للتعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط الذي افتتح في جامعة تل ابيب, وقد عرض في المؤتمر ورقة عمل تقوم على مشروع نقل مياه النيل من مصر عبر صحراء سيناء إلى قطاع غزة والنقب.

          تشير هذه التصريحات الصهيونية المتتالية بضرورة الاستفادة من مياه النيل إلى أنهم لم يقلعوا عن هذه الفكرة, وأنها مازالت تراود أحلامهم ويسعون جادين لتحقيقها, ويعود ذلك أساساً إلى حاجة النقب إلى الإعمار, الأمر الذي لا يتأتى إلا من خلال المياه.

          فالنقب, بمساحته الشاسعة, كان التحدي الأكبر لليهود في فلسطين, وكثيراً ما كان بن جوريون يردد أن بقاء الدولة اليهودية رهن بازدهاره واحيائه وليس عبثاً أنه اختاره مكاناً لإقامته. ورغم سعي العدو منذ عام 48 لإروائه عبر مختلف المشاريع المائية, وأهمها مشروع المياه القطري, فإنه مازال بحاجة إلى المزيد من المياه التي يصعب توفيرها إلا عبر النيل وفق الرؤية الصهيونية, وإذا ارادت مصر أن تثبت رغبتها في السلام حقاً, فلا يكون ذلك, وفق المنطق الصهيوني, إلا بالتنازل عن مياهها, شريان الحياة الوحيد لديها.

الأطماع في المياه اللبنانية

          حين سأل إمبراطور ألمانيا هرتزل عن مساحة الأرض التي ترغب الحكومة الصهيونية فيها, أجابه الأخير إن هذا يتوقف على عدد المهاجرين اليهود الذين ستتمكن الصهيونية من حشدهم فيها, فكلما ازداد عددهم, اتسعت مساحة الرقعة المطلوبة. ولكن بعيداً عن هذه الشهية الصهيونية التوسعية النابعة من جوهر المشروع الصهيوني, فإن أسباباً محددة أخرى كانت تقف وراء محاولاتهم مد حدود الدولة المرغوبة إلى حدود فلسطين, وكانت أنظارهم تتجه في الشمال نحو لبنان ومياهه, وإلى الليطاني تحديداً.

          فقد دأب هذا النهر العربي على إسالة اللعاب الصهيوني, وحاولوا مراراً توسيع الحدود التي ستخضع لسيطرتهم بحيث تشمله ضمنها.

          يبلغ طول نهر الليطاني من منبعه بالقرب من بعلبك إلى مصبه في البحر المتوسط شمال مدينة صور نحو 170كم, ويقدر تصريفه السنوي بنحو 800 مليون متر مكعب.

          وكما أسلفنا, فقد كان هذا النهر الذي يجري من منبعه إلى مصبه في الأرض اللبنانية, كان محط أنظار قادة الصهيونية, حتى أنهم لم يخفوا هذه الأطماع, بل صرحوا بها وعملوا جهدهم من أجل تحقيقها. وقد وردت أولى محاولاتهم للاستحواذ على مياه الليطاني في التصريح الذي قدمته المنظمة الصهيونية إلى مؤتمر الصلح الذي انعقد في فبراير 1919 حيث جاء فيه بصدد حدود فلسطين كما يرغبونها كالتالي: (ان حدود فلسطين يجب أن تسير وفقاً للخطوط العامة المذكورة أدناه: تبدأ في الشمال عند نقطة على شاطئ البحر المتوسط بجوار مدينة صيدا وتتبع مفارق المياه عند تلال سلسلة جبال لبنان حتى تصل إلى جسر القرعون, فتتجه إلى البيرة متبعة الخط الفاصل بين حوض وادي القرن والمنحدرات الشرقية والغربية بجبل الشيخ (الحرمون)).

          وفي موقع آخر من التصريح نفسه جاء (كما يجب التوصل إلى اتفاق دولي تحمى بموجبه حقوق المياه للشعب القاطن جنوب نهر الليطاني), يتضح من هذا التصريح أن المطمع الصهيوني في مياه الليطاني لم يبدأ حديثاً.

          ويتضح أن أسباب الحياة في فلسطين, وفق المنظور الصهيوني, تقتضي السيطرة على وادي الليطاني, ولنتذكر أن هذا الكلام كان قبل أكثر من نصف قرن, لم يقف الإلحاح الصهيوني باتجاه الليطاني عند هذا الحد, بل تتالى في إصرار ممنهج غريب, ينم عن تخطيط دقيق لما يهدفون إليه, ففي 18/4/72 نشرت صحيفة معاريف وثيقة سرية كان بن جوريون قد أعدها عام 1941, ويحدد فيها الحدود المطلوبة لدولتهم, كما يلي: (إن حدود الدولة اليهودية المزمع انشاؤها تشمل شرق الأردن وأراضي النقب القاحلة, كذلك مياه نهري الأردن والليطاني يجب أن تكون مشمولة داخل حدودنا), وفي هذا العام, وان كان بمستوى آخر, عرضت شركة يهودية على الرئيس اللبناني الفريد نقاش طلب منحها امتياز استغلال المياه اللبنانية, بما في ذلك نهر الليطاني لتزويد الأراضي اللبنانية بالمياه والكهرباء, ونقل الفائض منها الى فلسطين, إلا أن الرئيس اللبناني رفض العرض.

          وبعد حرب الأيام الستة مباشرة صرح ليفي اشكول, رئيس وزراء العدو آنذاك, في مقابلة لصحيفة اللوموند الفرنسية, (إن إسرائيل لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى مياه الليطاني تذهب هدراً إلى البحر وان القنوات في إسرائيل أصبحت جاهزة لاستقباله).

          على أن الصهيونية لم تكتف بإعلان نواياها تجاه الليطاني, بل إنها وقفت حائلاً, بتحد ووقاحة منقطعي النظير, أمام محاولات لبنان الاستفادة من مياهه, وعرقلت بالتهديد وغيره, كل المشاريع التي كانت تطرح على الحكومة اللبنانية لبناء السدود والمشاريع الإنمائية الأخرى عليه, علما أن قانون مصلحة الليطاني اللبناني أقر منذ عام 1954 كما تتوافر دراسات علمية في لبنان تعود إلى عام 48 أو قبلها للاستفادة المثلى من مياه الليطاني, غير أن هذه الدراسات بقيت في الأدراج, وقد صرح أكثر من مسئول لبناني بأن التهديد الإسرائيلي هو الذي يحول دون المضي في استغلال مياهه لمنفعة أهله. ولا بد أن الصهاينة كانوا يتصرفون على أنه لا بد أن يأتي الوقت الذي يضعون يدهم فيه على الليطاني ولا يريدون إنقاص موارده.

نهرا الأردن واليرموك

          لم يكن نهرا الأردن واليرموك العربيان بأحسن حظاً من نهر الليطاني والمياه اللبنانية عموماً, من حيث استهداف العدو لهما من ناحية, وعدم القدرة على الدفاع عنهما من ناحية أخرى, بل إنهما, من نواح عديدة, ولأسباب عديدة أيضاً كانا يحظيان باهتمام صهيوني أكبر, فهما يقعان, كما رأينا من مذكرة الحركة الصهيونية إلى مؤتمر الصلح عام 1919, الذي أوردناه آنفاً, ضمن المنطقة التي كانت الصهيونية تخطط لأن تكون تحت سيطرتها لإقامة (الوطن القومي) عليها.

          فإلى جانب أهمية المياه التي يوفرها حوض الأردن وروافده العديدة, كانت الصهيونية ترى في شرق الأردن وسهل حوران (جزءا من فلسطين) التي يجب أن تمنح لليهود.

          وقد جاء في المذكرة الصهيونية آنفة الذكر: (أن السهول الخصبة الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن, كانت منذ أقدم أيام التوراة مرتبطة اقتصادياً وسياسياً بالأرض الواقعة غربي الأردن).

          وإذا كان الليطاني والأطماع الصهيونية بشأنه لم ترد إلا عام 1919, فإننا نجد أن الأمر يختلف هنا, إذ تجاوز اليهود في هذه المنطقة مجرد المطلب أو التصريح بالرغبة إلى الفعل, وبوقت طويل قبل ذلك العام.

          فلإدراك اليهود القديم لأهمية اليرموك, أغنى روافد الأردن وأغزرها ماء, قاموا عام 1884 في خطوة عملية نحو السيطرة عليه, بشراء أرض بمساحة 100 ألف دونم في جنوب سوريا, يشرف بعضها على المجرى الأعلى والأوسط لليرموك وتقع قريبة منه, وأقاموا هناك أول مستعمرة لهم قرب سحم الجولان باسم (تفئيرت بنيامين) لكن هذه المحاولة ولأسباب عديدة, فشلت في حينه, إلا أن اهميتها تكمن في أنها شكلت دلالة قديمة العهد على بوصلة النوايا الصهيونية, وعلى أي حال, فكون تلك المحاولة باءت بالفشل لم يعن, بالنسبة للصهيونية, الإقلاع عن المخطط بل إنهم - وكما في كل مجال آخر - لم يتركوا فرصة تفوت إلا وجدوا فيها وأكدوا, بهذا الشكل أو ذاك, رغبتهم أو حقهم أو مطلبهم في حوض الأردن وروافده, فهذا بن جوريون يؤكد عام 1920 في رسالة منه إلى حزب العمل البريطاني: (من الضروري ألا تكون مصادر المياه التي يعتمد عليها مستقبل البلاد خارج حدود الوطن القومي في المستقبل. فسهول حوران التي هي بحق جزء من البلاد, يجب الا تنسلخ عنها. ولهذا السبب طالبنا دائماً بأن تشمل أرض إسرائيل الضفاف الجنوبية لنهر الليطاني وإقليم حوران حتى اللجاة جنوب دمشق وجميع الأنهار التي تجري من الشرق إلى الغرب أو من الشمال إلى الجنوب. إن أنهار أرض إسرائيل هي الأردن والليطاني واليرموك, والبلاد بحاجة إلى هذه المياه) وفي سبتمبر من العام نفسه اتخذت الحركة الصهيونية قراراً جاء فيه: (يصر سكان فلسطين بالإجماع على أن تشمل الحدود الشمالية القسم الأسفل من الليطاني وكل منطقة وادى الأردن وروافده ومجاريه, ويطلبون من المندوب السامي البريطاني اتخاذ الخطوات اللازمة).

          وبالتأكيد كان السبب المائي هو أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الحركة الصهيونية لأن تعارض بقوة وتقاتل بالظفر والناب, كما يقال, للحيلولة دون سلخ شرق الأردن عن (حدود الوطن القومي) الوارد في وعد بلفور, وتمت معارضتهم الشديدة لإقامة إمارة شرق الأردن. فقد كانوا حريصين على ألا يشاركهم أحد السيطرة على مخزون المياه في المنطقة, الأمر الذي يتعارض وإقامة كيان سياسي آخر ستكون له مصالح في هذه المياه.

          وعندما فشلت الحركة الصهيونية في إقناع بريطانيا ضم شرق الأردن ومياهه في وعد بلفور, لجأت إلى أساليب أخرى لتحقيق الغاية نفسها وقد استطاعت عام 1926 وإن بأسلوب آخر وضع اليد على نهر الأردن, وذلك من خلال ما عرف باسم (مشروع روتنبرج), ففي ذلك العام وافقت حكومة الانتداب في فلسطين على منح (شركة كهرباء فلسطين) التي يملكها اليهودي الروسي بنحاس روتنبرج, حق استخدام كل موارد المياه على ضفتي الأردن لتوليد الكهرباء.

          وقد أعطي هذا الامتياز لمدة 70 عاماً, ومن جملة ما نص عليه هذا الامتياز حرمان أي جهة من استخدام المياه في منطقة المشروع من قبل أي جهة ولأي غرض إلا بموافقة الشركة, ولقد كان واضحاً أن هذا المشروع هو مشروع صهيوني تمويلاً وهدفاً, ولم يكن القصد منه إلا وضع اليد على مياه النهر بأي حجة كانت, كهرباء أو غيره, إلى أن تحين الفرصة المناسبة للاستيلاء عليه, وقد استغلت الشركة الحقوق الممنوحة لها بموجب الامتياز, بأن حرمت كل المزارعين العرب من الاستفادة من مياه النهر وهو المقصود, وقد وصفه أحد النواب البريطانيين في حينه بأنه أغرب امتياز سمح به في حياته, إذ إنه يعطي أصحابه حقوقاً خيالية في شريان حيوي كنهر الأردن. ومما له دلالة في هذا الشأن, أن صاحب الشركة أصبح عام 1929 رئيساً للمجلس الوطني اليهودي في فلسطين, وأن هربرت صموئيل, أول مندوب سامٍ بريطاني لفلسطين كان أول مدير للشركة. وقد واصلت الشركة المذكورة ممارسة صلاحياتها وفق الامتياز المذكور حتى الحرب العربية ـ الصهيونية الأولى عام 1948.

          ومن ناحية أخرى واصلت الصهيونية حرب المياه على جبهات أخرى, مستفيدة من الدعم البريطاني الأمريكي لها, وقد تجلى هذا الأمر في أغلب الموفدين الذين سميت المشاريع المائية باسمائهم, إلى فلسطين لدراسة أوضاعها المائية واقتراح الحلول المناسبة لها. وإن كنا هنا لا ننوي التعرض تفصيلاً لكل هذه المشاريع, فإننا نكتفي بأن نورد أهم ما ورد فيها بما يخص موضوعنا.

          فلقد اقترح أيونيدس في مشروعه عام 46 تخزين فائض اليرموك في طبرية (علماً بأن اليهود كانوا يخططون لأن تكون طبرية ضمن حدودهم) وبذلك تضمن الصهيونية السيطرة على مياه اليرموك. كما أنه أعطى اليهود في فلسطين حق السيطرة الكاملة على الموارد المائية فيها. أما لودرميلك, فقد قدم مشروعه المعروف باسمه, بناء على طلب الوكالة اليهودية, وأجمله في كتاب أسماه (أرض الميعاد). ولتأكيد انحيازه المطلق لليهود, اقترح فيه تحويل مياه الأردن الأعلى ونهر اليرموك ووادي الزرقا لإرواء سفوح الوادي ومرج بن عامر وبيسان والجليل وبئر السبع والنقب, وقد كان أخطر ما في هذا المشروع أنه كرس المطلب الصهيوني بألا يقتصر استخدام مياه نهر الأردن على حوض فقط, بل يمكن تحويل هذه المياه لإرواء مناطق بعيدة عنه (النقب). كما أنه خرج بتوصية أخرى, وهي ليست مستغربة فقط, بل بالغة القذارة, حيث قال: (وإذا وجد العرب أنه من غير المستحب لهم السكن في أرض مصنعة, فسوف يتمكنون بسهولة من الإقامة في السهل الرسوبي العظيم لوادي دجلة والفرات) ثم تلاه, مشروع هيس عام 48 والذي لم يحد عن الخطوط العامة لمشروع لودرميلك, بل كان بمنزلة البرنامج التنفيذي له. إن هذه المشاريع والتي تولاها بريطانيون أو أمريكيون, ما كانت ولا بأي حال من الأحوال لتخرج عن المخططات الصهيونية. فكلها تمت بدعوة أو إيحاء واستجابة لمطالب الحركة الصهيونية, وليس أدل على هذا مما قاله الصهيوني عمانوئيل ينومان رئيس لجنة مسح أراضي فلسطين في تقريره عام (48) إنه (لمن حسن الحظ أن الذين كانوا مسئولين عن وضع تفاصيل مشروع التقسيم كانوا على علم ومعرفة بوجهات نظر لودرميلك وأنهم اتخذوه لحد بعيد قاعدة عينوا على أساسها حدود المناطق العربية واليهودية).

          وقد ازدادت قدرة العدو بعد عام 1967 على سرقة المياه نظراً للأراضي الجديدة التي احتلها, وغدا بمقدوره التحكم بمياه الأردن واليرموك وفرض شروط بشأن استغلال مياهها, والوقوف بوجه أي محاولة إنمائية عربية مستفيدة من هذه المياه, وهذا ما أكدته لجنة الشئون العربية في البرلمان المصري في تقرير لها بهذا الشأن, إذ جاء فيه (إن إسرائيل حسنت موقفها المائي من خلال احتلالها مرتفعات الجولان والضفة الغربية, وأن احتلال الجولان جعل من المستحيل على الدول العربية تحويل مياه روافد نهر الأردن, وتحكمت إسرائيل في حوالي نصف طول نهر اليرموك مقارنة بحوالي (10 كم) فقط قبل الحرب. وهو ما أدى إلى جعل أي تنمية لنهر الأردن رهن قبضة إسرائيل).

          وتفادياً للإسهاب في هذا المجال, نكتفي بإيراد تصريح مفوض المياه الصهيوني تسميح شاي عام 87 تعقيباً على المشروع الأردني السوري لإنشاء سد الوحدة, إذ قال: (إن إسرائيل بحاجة إلى 50 مليون متر مكعب من مياه اليرموك في فصلي الشتاء والربيع و50 مليون متر مكعب من مياه اليرموك في فصلي الشتاء والربيع و25 مليون متر مكعب في الصيف,حيث تقوم بتحويل هذه المياه إلى بحيرة طبرية لرفع منسوب المياه فيها بسبب شدة البخر, وتخطط للسيطرة على (80 ـ 90) مليون متر مكعب من المياه عام 1991.

          واذا قامت سوريا والأردن بإنشاء سد الوحدة على نهر اليرموك, فإن ذلك سيعيق تنفيذ المخطط الإسرائيلي).

          نعتقد أن هذا التصريح يشكل نموذجاً جيداً يقاس عليه لنظرة العدو إزاء أي مشروع عربي يستهدف التنمية المائية في حوض الأردن وروافده.

 

إسماعيل دبج   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات