المرأة والإبداع في مواجهة الدونية والسيطرة الذكورية

المرأة والإبداع في مواجهة الدونية والسيطرة الذكورية
        

كتابة المرأة الإبداعية يمكن أن تتطور إلى خصائص وسمات ظلت مغيبة طوال الفترة التي انفرد فيها الرجل بكتابة النصوص الأدبية, فهل يمكن أن يتغير هذا الأمر وأن نشاهد ولادة جديدة لأدب المرأة بعيدا عن الإحساس بالدونية والسيطرة الذكورية?

          نظرياً, وبعيداً عن التصوّر التمييزي, العنصري, تتوافر المرأة العربية ومنذ الأزل, على نفس الإمكانات الإبداعية المحتملة لدى الرجل. والتذكير بهذه البديهية يُسعف على تبديد الكثير من الالتباسات التي تُرافق, في الفترة الراهنة, الجدالات المتصلة بإبداعية المرأة العربية في مجالات متعددة ومتنوعة والتي ظلّت مطموسة بسبب شروط اجتماعية معينة أو نتيجة فهم محدود للإبداعية وفهم ضيق لفعل التعبير عن قيم حياتية تتعدى السياق الظرفي.

          ومنذ سبعينيات القرن الماضي, عندما برزت أقلام نساء عربيات متميّزة في مجالات الشعر والقصة والرواية, اتخذ النقاش حول هذه الظاهرة الإبداعية المكتوبة منحى لا يخلو من مغالطات ونزوع إلى الاختزالية وتذويب الظاهرة في مستنقع خطاب ذكوري آيس يعزف عن رصد التعبيرات الناتئة الحاملة لبذور المناهضة وزحزحة مركزية الذكورية العربية, المستأثرة بالتشريع والتقييم ومنح المشروعية للإبداعات التي تعتبرها ذات جدارة.

          ومع المسافة الزمنية, يتبيّن اليوم, أن الكثير من تلك الالتباسات التي حفّت بمناقشة إبداعات المرأة العربية المكتوبة, يعود إلى استعمال مصطلحات ومفهومات ذات طابع جوهرانيّ تُسقط على هذه الظاهرة المعقّدة, المنغرسة في سباق تاريخي واجتماعي يستوجب الاستحضار.

          في طليعة تلك المصطلحات المغلوطة, مصطلح (كتابة نسائية) الذي يُستشفّ منه افتراض (جوهر) محدد لتلك الكتابة يُمايز بينها وبين كتابة مفترضة للرجل. وبترابط مع هذا المصطلح, نجد أن الذين بادروا إلى رفض الممايزة بين الكتابتين, استندوا أيضا إلى مفهوم عام للأدب, له عناصر مكوّنة (ثابتة) ترتكز على تشابه المشاعر والخبرة الفنية والجمالية وتشغيل المخيّلة, وهي عناصر مشتركة بين الجنسين, ومن ثم لاسبيل إلى الحديث عن فروق أو تمايزات بين أدب يُنتجه رجل أو أدب تكتبه امرأة!

          إن هذا الطرح, رغم منطقيته الخادعة, ينطوي على مغالطة وتعميم يحتميان بالتجريد, ويغفلان إعادة تحليل الإشكالية وتبريز عناصر تخصيصها في ضوء سياقها التاريخي والاجتماعي, بترابط مع أسئلة الثقافة والإبداع في المجتمعات العربية, وبترابط مع دورها في تكسير المنوالية ووصائية (التعبير بالنيابة). وإذا كنا لا نجادل في أن التعبير عن الذات فنيا, له عناصر مشتركة بين معبّر رجل أو امرأة, فإن الذات المعبّرة تخضع وتستجيب لتجربة حياتية, فيزيقية, مشروطة اجتماعيا وتاريخيا وقانونيا بشروط تترك بصماتها على نوعية التعبير الإبداعي ومضمونه وتشكلاته. وهذا بالضبط هو ما يستوجب التنسيب عند صوغ إشكالية المرأة والكتابة من خلال استبدال التخصيص بالتعميم لتحديد ما هو مغاير في كتابات المرأة العربية على اعتبار هذا التخصيص والاحتفاء بما يمايز إنما هو تأكيد للاختلاف بوصفه عنصرا ديناميا في الحراك الاجتماعي, يستهدف الإسهام في ضبط (regulation) خطوات المجتمع العربي برمّته, وهو المجتمع الذكوري بامتياز, كما أوضحت ذلك العديد من الدراسات السوسيولوجية.

          بتعبير آخر, نحن ننظر إلى الإبداع في جوانبه المشتركة بين الرجل والمرأة على أنه نزوع إلى تغيير ما هو قائم وتطلّع إلى إزاحة ما يعرقل استبدال الرؤية والمتخيل الاجتماعي. لكننا, في الآن نفسه, ننظر إلى إبداعات المرأة العربية المكتوبة على أنها تعبير ضروري ومطلوب لكي تستقيم جدلية التحويل والتعديل والتجديد, أي إزاحة الاستقطاب الذكوري الأحادي لمفهوم الإبداع وتجلياته. وهذا ما يفتح الطريق لكي نطالب, نظريا, بأن يكون لإبداع المرأة العربية أفق مغاير, يستدرك ويكمل ما أغفلته إبداعات الرجل, ويعيد للجدلية تعارضاتها الحيوية المخصبة.

          في ضوء هذه الملاحظات, نحاول الآن تحليل إشكالية (المرأة العربية والإبداع المكتوب) من خلال استعادة وتحليل أربع محطات:

          - موقع هذه الإشكالية من قضية المرأة العربية في التصوّر العام.

          - الكتابة بوصفها أدبا والأدب بوصفه علاقة مع الذات.

          - علاقة المرأة العربية بالكتابة.

          - صوغ إشكالية الإبداع المكتوب عند المرأة العربية.

          إن ما نتوخاه من إعادة تحليل هذه العناصر المكوّنة لإشكالية المرأة والكتابة, هو الابتعاد عن التعميم والتجريد لنقترب أكثر من أسئلة تكتسب شرعيتها من اقترانها بسياقات محددة لا تبغي الوصول إلى أحكام جوهرانية, نهائية, وإنما تتقصّد تخصيص المجال الذي يُطرح فيه السؤال ومحاولة التطلع إلى أفق أجوبة ممكنة.

المرأة: الكتابة والقضية

          عندما طُرحت قضية المرأة في العصر الحديث - كما هو معلوم - جاء الطرح مقترنا بوعي متعدد الأبعاد والمظاهر. وهو وعي أنضجته كتابات ونضالات ذكورية ونسائية, إلا أنه دخل في منعطف حاسم عندما تولّت النساء أنفسهن المطالبة والتعبير والتنظيم لانتزاع الحقوق المهضومة, وتقويم الحيف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المفروض على المرجع نفسه. وهذا المسار الذي عرفته قضية المرأة في أوربا وأمريكا هو الذي عرفناه في المجتمعات العربية منذ الثلاثينيات بغض النظر عن حجم وصلابة النتائج والمكتسبات المتباينة عندنا وعندهم.

          وحتى لا نضيع في التفاصيل, سنكتفي بالإشارة إلى العناصر المشتركة التي كانت أساس حركات تحرير المرأة والدفاع عن قضيتها, وهي عناصر سلبية تحول دون تنظيم المجتمع تنظيماً متوازناً, ولذلك أصبح موضع رفض يحظى بالإجماع:

          - الحيف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي في حق المرأة.

          - إبعاد المرأة عن السلطة والمشاركة في اتخاذ القرار.

          - الاحتكام إلى منطق ذكوريّ في المجالات الاجتماعية والسلوكية مما يعوق تحرير المرأة ويحول بينها وبين تحقيق النديّة والتكافؤ مع الرجل.

          - إعادة إنتاج هيمنة الرجل عبر محافل مؤسسية مؤثّرة, مثل المدرسة والدولة والأسرة.

          نتيجة لهذا التدبير الاجتماعي الجائر, وتحت ستار من أغلفة إيديولوجية متعددة, ظل صوت المرأة مبعدا, محروما من إسماع كلمتها ونقل همومها ورأيها بوصفها مواطنة تضطلع بمسئوليات جسام داخل المجتمع.

          ليس غريبا, إذن, أن تركز حركات الدفاع عن قضية المرأة, على انتزاع حق الكلام لأنه وسيلة مزدوجة لفضح التسلّط الذكوري والمؤسساتي, وأيضا لبلورة وعي يوجّه نضال المرأة ويوسع نطاق قضيتها.

          على هذا المستوى, لا نجد أن الكتابة الأدبية, كما سنحدد بعض ملامحها, قد لعبت, منذ البدء, دورا في تخصيص قضية المرأة وإبراز سماتها المميزة. صحيح أن نصوصا كثيرة, مثلا, قد نشرتها نساء اتصلت أسماؤهن بمجال النضال النسائي مثل: ملك حفني ناصف, وهدى شعراوي, ومنيرة ثابت, ودريّة شفيق, لكنها كانت كتابات ذات طابع اجتماعي, إصلاحي, لا يمكن إدراجها - رغم بلاغتها - ضمن الكتابة الأدبية بمعناها العميق, إنها بالأحرى, تندرج في الخطاب السياسي العام للمجتمع.

          غير أن تنامي قضية المرأة وما أحرزته من مكاسب, كان فيه ولاشك, تعزيز لحق الكلام والتعبير الفني بالنسبة للمرأة الكاتبة. بعبارة ثانية, فإن قضية تحرير المرأة العربية اقترنت بحركة سياسية اجتماعية مشتركة بين الجنسين, وكانت تتوخى تجديد البنيات المجتمعية والعلائق المواطنية كشرط ملازم للنهضة والتحديث. ومن ثم, نجد أن الكثير من الأحزاب والزعماء والمفكرين وضعوا قضية تحرير المرأة على رأس اهتماماتهم وتحليلاتهم. لكن ظاهرة ارتياد المرأة العربية لعوالم الكتابة الإبداعية ضمن سياق الحقل الأدبي العام وصراعاته وتحوّلاته, هو ما أضفى على هذه التجربة طابع الخصوصية وجعلها وسيطا في صوغ أسئلة مختلفة. ومن أهم تلك الأسئلة التي تسهم كتابة المرأة العربية في صوغها, سؤال الذات الفردية, ووضعها الاعتباري داخل المجتمع العربي. ذلك أن الكتابة الإبداعية تقتضي التباعد عن الخطابات التعميمية ذات النبرة الجمعية التي تستهدف تأطير المجتمع ولحمه وإبراز السمات المشتركة التي تتيح التعايش لأفراده وتنظيم صراعاتهم.

الذات كوسيط

          في الكتابة الإبداعية, تغدو الذات وسيطا كيميائياً يحلل مختلف الخطابات والقيم والتجارب لصوغ نص يقع على الحدود من كل ذلك, ويلامس المشاعر والأفكار والمواقف معيشة من منظور ذات المبدع ووضعيته, وعبر لحظات التحوّل التي تتيح وضع الإيديولوجيا موضع تساؤل.

          من ثمّ, فإن المرأة عندما تكتب, رغم تشاركها مع الرجل في (المناخ) العام, فإنها تكتشف أن لذاتها الفردية وضعا اعتبارياً مغايراً داخل سُلّم القيم الذكورية وتحت وطأة المعاملات والأحكام المسبقة.

          في مجال الدفاع عن الحقوق والمطالبة بالانصاف, يكون صوت المرأة مشدودا إلى تحقيق حريتها المصادرة من لدن مجتمع وتاريخ حوّلاها إلى متاع تابع لمشيئة الآخر/الرجل, أو كما تعبر عن ذلك سيمون ديبوفوار:

          (... ما يُحدّد وضعية المرأة بطريقة خاصة, هو أنها مع كونها حرية مستقلة مثلها مثل أي كائن بشري, فإنها تكتشف نفسها وتختار طريقها داخل عالم يفرض فيه الرجال عليها أن تتحمل مسئوليتها ضد الآخر).

          أما في مجال الكتابة الإبداعية, فإن المرأة تواجه وتستوحي ذاتها الحاضرة و(سلالتها) التاريخية, فيما هي تعيش داخل واقع مطبوع بالحيف وتقسيم الأدوار تقسيما يفرض عليها أن تكون امرأة بشروط الرجل.

          في الكتابة, تستطيع المرأة أن تتخلى عن المقتضيات (الأخلاقية) التي تطوّقها كامرأة مشيّأة أو خاضعة لـ(إرادة) المجتمع, لتقترب من تلك الأصقاع الحميمية التي تجعل ذاتها تبرز في خصوصيتها وتميّزها ومعارضتها لقيم الذكورة السائدة.

          بتعبير ثان, المرأة الكاتبة تستطيع, مثل الرجل الكاتب, أن تذهب إلى حافة جنونها لتستعيد حريّتها وإنسانيتها المغيّبتين, ولتسائل الرجل في مقاييسه وقيمه الموروثة وتحاصره بصورة المرأة المتحققة داخل حرية الكتابة بعيدا عن الصورة التي شيّدتها استيهاماته. 

الكتابة بوصفها أدبا

          تجنّبا لسوء تفاهم محتمل في هذه المسألة, نشير إلى أن تاريخ الأدب العربي قد عرف منذ العصور القديمة, أسماء شاعرات وأديبات, ولكننا نحرص, في هذا التحليل, على التمييز بين مفهومين, على الأقل, للأدب: مفهوم يربطه بجملة من المعايير والتصورات البلاغية والأخلاقية, ومفهوم يفتحه على المتغيرات الكثيرة التي حملتها الأزمنة الحديثة وكذلك طرائق تنظيم المجتمعات واحتداد الصراع بين الفرد ومؤسسات الدولة المفترسة لحقوقه وحريته.

          من هذا المنظور الثاني, تغدو الكتابة, بوصفها أدبا, هي مساءلة الذات والذاكرة والجسد للاقتراب من موقعها داخل سراديب ودهاليز تقود إلى الضياع والتشظّي واهتزاز الهويّة. وهذا شرط مشترك بين الرجل والمرأة لأن (تطور) المجتمع آل إلى تعزيز الاستلاب ومضاءلة قيم التكافل والتواصل, إلا أن المرأة التي فُرض عليها, لآماد طويلة, أن تعيش مهمّشة, خاضعة للحيف والدونية والاستغلال غير المشروع, تمتلك تجربة شعورية واجتماعية مغايرة لتجربة الرجل المتشبث بمنطق الذكورية وسلطتها. لذلك, عندما تكتب المرأة أدبا, أي نصوصا لا تتوخى المطالبة بحقوق مباشرة والتنديد بقوانين جائرة أو سلوكيات موروثة, فإننا نتوقع أن تكون هذه الكتابة نبْشا في الذاكرة والجسد, واستعادة للذات بحمولاتها النفسية ومجابهاتها العنيفة لكلِّ ما, ومَن يخنق هويتها ويهتضم حريّتها.

          بعبارة أخرى, فإن المرأة الكاتبة, رغم اشتراكها مع الكُتّاب في شروط تنعكس على الكتابة الحديثة شكلا ومضموناً, فإنها بحكم تكوينها الفيزيقي ووضعيتها الاجتماعية وإرثها التاريخي, تتوافر على عناصر من شأنها أن تُخصّص تجربتها الحياتية وأن تُميّز كتابتها الإبداعية وسط طرائق واتجاهات مشتركة بينها وبين الرجل.

          لكن هذا التميز في كتابة المرأة مشروط بوعيها لوضعيتها وبالسياق الذي تكتب فيه, وبالسلطة الخاصة التي تمنحها إياها الكتابة.

تأريخ كتابة المرأة

          في ضوء ما تقدم, يمكن أن نستعيض عن التأريخ لكتابة المرأة العربية في العصر الحديث, باستجلاء التجارب التي سعت إلى تحقيق هذا التمايز في الكتابة الأدبية العربية, أي الوقوف عند كتابة المرأة التي سعت إلى استرجاع منطقة وسلطة كان الرجل الكاتب يضطلع فيهما بدور النيابة أو الوصاية. ونحن لا ننكر وجود كتابات لأدباء رجال تتعاطف مع المرأة وتحاول أن تتقمّص أوضاعها ومشاعرها, لكنها تظل مع ذلك مختلفة عن كتابة المرأة الواعية لخصوصية تجربتها وشروطها.

          من هذه الزاوية, نجد أن كتابة المرأة العربية الإبداعية, رغم اشتراكها في خصائص كثيرة مع كتابة الرجل, فإنها تملك أن تُقلق الرجل المتشبّع بقيم المجتمع الأبوي, الذكوري. ويمكن أن نشير في هذا الصدد, إلى نموذجين أثارا سُخط وغضب العقلية الوصائية:

          أ- تجربة الكاتبة مي زيادة التي سعت إلى بلورة كتابة تعلو على الظرفية والمطلبية, وترتاد عوالم الذات المستترة وأسئلتها المحيّرة. ورغم أنها لم تكن تجهر بدعوة إلى كتابة نسائية مناهضة, فإن حساسيتها ولغتها, وممارستها لحرية الحوار مع الشعراء والكُتاب المعاصرين لها, جعلت المجتمع الذكوري يحاصرها ويلفظها لتنزوي عن الحياة وهي تشارف الجنون, ولعل مي زيادة هي أول كاتبة عربية دفعت ضريبة الدفاع عن حق الاختلاف انطلاقاً من الكتابة الأدبية ومن ممارسة حرية الإبداع.

          ب - النموذج الثاني يتشخّص في كتابات ليلى بعلبكي وفي ما تعرضت له من محاكمة بعد إصدار مجموعتها القصصية (سفينة حنان إلى القمر) سنة 1964, فبالرغم من أن صكّ الاتهام ينص على انتهاك ليلى بعلبكي للقيم الأخلاقية المتصلة بالجنس, فإن المحاكمة تترجم, في العمق, ضيق المجتمع الذكوري بصوت المرأة المقلق الذي يسائل السلوكات الذكورية الوصائية المغيبة لنصف المجتمع. وإعادة قراءة روايتها (أنا أحيا), الصادرة سنة 1958, تؤكد أهمية وجرأة الأسئلة الضمنية لهذه الرواية التي تضع موضع تساؤل كلا من مفهوم الرجل للمرأة ومفهومه للشهوة والجسد, وكذلك وصاية الأب على ابنته الراشدة.

          أكثر من ذلك, فإن رواية (أنا أحيا) شخّصت بشكل حداثي مجدد في التعبير, الوعي المغلوط للرجل والمرأة العربيين في الخمسينيات نتيجة فصلهما بين حرية الفرد والجسد, وبين الالتزام السياسي المسقط من حسابه حرية المرأة وكينونتها المختلفة.

          في ضوء هذين المثالين, نستطيع القول إن الكتابة الإبداعية للمرأة العربية التي تتسم بمثل هذه الخصائص, هي مؤشر قطيعة بدأت ممهّداتها تتكون وتتنامى في أحشاء المجتمعات العربية منذ نهاية الأربعينيات لتُفسح في المجال أمام صوت (الأنا العميق) للمرأة التي أخذت تسترجع حقّها في الإبداع والقول المختلف عن خطابات تولّت النيابة عنها فجمّدتها في صورة ثنائية: إما المعشوقة المؤمثلة أو المتعهّرة المبتذلة!

          صوت المرأة الإبداعي, في هذا المفهوم الجريء, المغاير, هو قطيعة عميقة مع ماض طويل لم تكن شروطه المادية وعلائقه الاجتماعية تُتيح للمرأة أن تمارس الإبداع في مثل شروط الرجل, وبعض الإشراقات القليلة, المتقطعة, من نصوص كتبتها نساء عربيات عبر القرون, إنما هو استثناء سمحت به الظروف لنساء ينتمين إلى أسر مترفة أو إلى فضاء السلطان. لكن الفرق يظل كبيراً بين تلك المقطوعات الشعرية, وبين نصوص مثل تلك التي كتبتها مي زيادة وليلى بعلبكي ولطيفة الزيات وفدوى طوقان وآسيا جبار ونوال السعداوي وصولا إلى رضوى عاشور وسلوى بكر وحنان الشيخ وليلى العثمان وعالية ممدوح وسمية رمضان ونورا أمين ومي التلمساني وهدى بركات وهدى حسين ومرام المصري وربيعة ريحان, واللائحة طويلة على امتداد الرقعة العربية.

هل هو إحساس بالدونية?

          إن هذا النوع من الكتابة الإبداعية, رغم أنه يندرج ضمن مجال الحقل الأدبي العربي العام بتياراته وطرائقه الغنية وإرغاماته, فإنه يتوافر على ما يباعد بينه وبين كتابة الرجل, لأن الذات الكاتبة عند المرأة تمتلك وعيا بالشروط التي تفرض عليها دونية غير مُبرّرة, فتعرف كيف تستبطن تجاربها الحياتية من واقع معيش يجعلها تتخلص من القيم الذكورية المهيمنة التي لا تُقرّ بالاختلاف. كتابة المرأة, إذن, أرض شاسعة للحرث, وفضاءات تحتاج إلى ذات المرأة العربية بما هي عليه وإلى مغامراتها الوجودية, لتستكشف, لحسابها الخاص, صورتها العميقة, بدلا من أن تظل - كما كانت - مرآة للرجل يستعملها ليضخّم صورته أو ليشْحن نفسه بالحيوية والمحفزات.

          إن أخذ المرأة على عاتقها مسئولية التعبير عن ذاتها تعبيرا أدبيا متفاعلا مع منجزات الطرائق الفنية المكتسبة, هو ما يجعلنا نقول باحتمال وجود أفق لكتابة المرأة يستنطق مشاعر وتجارب مغايرة لما يكتبه الرجل. وعلى هذا الأساس, نُبرر الطرح النظري الذي يقول بأن كتابة المرأة العربية - داخل الإطار الإبداعي المشترك بينها وبين الرجل - تستطيع أن تبلور خصائص وسمات تضيء مناطق وفضاءات ظلّت مغيّبة طوال الفترة التي استفرد فيها الرجل بكتابة النصوص الإبداعية.

          ومن هذا المنظور, فإن من شأن ذاكرة النساء المبثوثة في نصوصهنّ الإبداعية أن تساعد على تعديل التاريخ وتصحيحه, لأن علاقة الإبداع بالتذكّر - كما نعلم - قوية وأساسية, خاصة عندما يتمكّن المبدع/المبدعة من فتح الذاكرة على المستقبل.

          في الاتجاه نفسه, يجب التأكيد على أن إبداعات المرأة العربية المكتوبة, هي بحاجة إلى قراءة واعية للشروط والتحوّلات قراءة تُسهم في هدم كثير من الأحكام المسبقة تجاه المرأة, وتسير باتجاه التأكيد على قيمتي الغيرية والاختلاف اللتين يحملهما - ضمن ما يحمل - إبداع المرأة العربية المكتوب.

إشكالية الكتابة النسائية

          في ضوء الملاحظات السابقة, نحاول الآن, صوغ إشكالية الإبداع المكتوب عند المرأة العربية.

          لقد تجنّبنا استعمال مصطلح (الأدب النسائي) أو (الكتابة النسائية) حتى لا يُفهم, لأول وهلة, أننا نفترض وجود اختلاف بالجوهر يميّز كتابة المرأة عن كتابة الرجل, ذلك أن صفة الإبداع أو عناصره الأدبية ليست معطاة مسبقا, ولا منفصلة عن تحقّقها وسياقها. وعندما يتعلق الأمر بالإبداع الأدبي, فإن سماته ومكوناته تنتمي إلى ذخيرة مشتركة من النصوص والممارسات والعلائق باللغة والمخيّلة والأشكال وتنويعاتها... ومع ذلك يجب التمييز بين شيئين:

          أ- اشتراك الخصائص الأدبية بين الثقافات والأجناس لا يعني وجود مفهوم أحاديّ, ثابت, للكتابة والأدب, وإنما هناك مجالات تتيح تغيّر مفهوم الكتابة الأدبية باختلاف السياق والمتلقي واستراتيجية الكاتب. إن المبدع لا يكتب نصّا معطيً مسبقاً في خصائصه ودلالاته وتشكّلاته, بل هو يُحيّن إنتاجه للنص من داخل التراث الإبداعي وفي ضوء أسئلته وتجاربه الذاتية وعلائقه بالمجتمع والكون. من ثمّ لا يكون التكرار أو المحاكاة أو النسج على المنوال هو ما يُبرّر الكتابة الإبداعية, بل اختلافها وخصوصيتها داخل النّسق/الأنساق الأدبية المعاصرة والموروثة.

          كون الكتابة صادرة عن امرأة لا يضمن لها, تلقائياً, الخصوصية والتميّز, كما لا يضمن لها أن تُنتج أدباً جيداً بحسب المقاييس المعتبرة عند النقّاد والمتلقّين.

          لكن, رغم ذلك, نجد أن السياق الذي أشرنا إليه والمتعلق بمفهوم الأدب في العصر الحديث وارتباطه بالذات وخصوصية التجربة, يُفسح أمام المرأة الكاتبة أفقاً مغايراً يتعدّى نطاق (التعبير) أو امتلاك (أسرار) الإبداع. وإذا كان هذا الاشتراط مطروحاً أيضاً على الرجل الكاتب, فإنه, عند المرأة, يأخذ طابع الإلحاح والضرورة باعتبارها متوافرة بالقوة, على خصوصية اجتماعية وفيزيقية وتاريخية تضمن لها أن تكتب باتجاه أفق مغاير يستنطق ويستوحي ويشكل عوالم طالما لفّها الصمت وحجَبَها النسيان.

          إن هذا لا يعني مطلقاً التحديد المسبق لمجال كتابة المرأة, وإنما المقصود الإلحاح على عنصر التّذْويت في الكتابة بوصفه عنصرا ملازماً للأدب الرافض للاجترار واستنساخ الخطابات الأخرى, ومن ثم الإلحاح على حضور عَيْن المرأة وصوتها ولغتها وحميميتها ورؤيتها للصراعات داخل المجتمع الذكوري, الأبوي.

 

محمد برادة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات