انكسارات الرؤى المستحيلة

 انكسارات الرؤى المستحيلة
        

           قال أحمد أنيس وهو يضع رزمة النقود على مكتبي:

           - ثلاث ساعات وأنا أتنقل بين البنك المركزي وبنك مصر وبنك فيصل.

           أودعت رزمة النقود درج المكتب:

           - ما فعلته جزء من عملك, فلم تشكو?

           رسم على وجهه ابتسامة معتذرة:

           - لم أقصد الشكوى, لكنني أشرح ما حدث.

           لما ضاق وقتي عن استيعاب مسئولياتي, عهدت إلى أحمد أنيس بأن يقدم لي من وقته بدلا من وقتي الذي لم يكن بوسعي أن أضيعه. مكانتي تفرض الحاجة إلى الوقت. أختلف مع ما يحتاج إليه أحمد أنيس. هو لا يريد إلا الأجر الذي ينفق منه على احتياجات يومه.

           كنت أضيع الوقت في انتظار المصعد, ودوري أمام شباك السينما, وفي مكتب شركات الطيران, وداخل البنك, وصالة الاستقبال بعيادة الطبيب, والوقوف بالسيارة في إشارة المرور, والوقوف في طوابير وصفوف, انتظارا لشيء أطلبه. واللقاءات الشخصية, وأحاديث التلفون, والتوقيع على أوراق مهمة, وبلا قيمة. وكان الطريق يبتلع أكثر من ساعة بين البيت في مصر الجديدة, والمكتب في المهندسين.

           ماذا يحدث لو أني لم أعترف بالوقت? لو أني أنكرت وجوده أصلا? أصحو وأعمل وأنام. لا يرتبط ما أفعله بشروق الشمس ولا غروبها, ولا أيام السبت والأحد إلى نهاية الأسبوع. حتى الساعة أنزعها من يدي, فلا يشغلني ما فات ولا ما أترقبه. لكن الآخرين يصرون على السنة والشهر والساعة واللحظة. يصرون على الوقت.

           هذا ما أفعله بالضرورة.

           الوقت الذي لا يضيع, لا يمكن أن أسترده, أو أعوضه. حرصت على أن أختصر من عاداتي ما يضيف إلى وقت الإنجاز. لم أعد أحلق ذقني صباح كل يوم. ربما أخرت حلاقتها إلى صباح اليوم الثالث. تبينت أنه لم تعد الذقن غير الحليقة تليق بمكانتي. أوصيت على ماكينة كهربائية, أستعملها في الأوقات الضائعة, في جلستي وراء السائق. وكنت أرجئ تنفيذ بعض ما يجب إنجازه, فأنهيه في وقت واحد.

           قرأت أن الوقت هو الرمز النهائي للسيادة, وأن هؤلاء الذين يسيطرون على وقت الآخرين لديهم القوة. من يملكون القوة يسيطرون على وقت الآخرين.

           أريد أن أفيد من كل ساعة, كل دقيقة, كل ثانية. لدي الكثير مما يهمني أن أنجزه. الحياة قصيرة إن لم نحسن استغلالها. نضيف إليها وقت الآخرين, ما نحصل عليه من وقتهم. لن تمضي حياتي على النحو الذي أطلبه, ما لم تأخذ من حياة الآخرين. إنهم يجب أن يضيفوا إلى حياتي, يعملوا لها.

           أزمعت أن أحصل على الوقت الذي أحتاج إليه من رجل, شاب, عنده الفائض من الوقت.

           أطلت الوقوف على باب الحجرة, حتى رفع أحمد أنيس رأسه من الأوراق والملفات المكدسة على المكتب:

           - أفندم يا سعادة البك.

           سعدت للذهول - وربما الخوف - الذي نطق في ملامحه.

           لم أتردد على مكتبه, ولا أي مكان في المبنى. المرئيات ثابتة منذ الباب الخارجي, وصعودي الدرجات العشر للسلم, ثم الميل إلى اليمين, والسير في الطرقة المفروشة بالمشاية الحمراء, الطويلة, على جانبيها لوحات أصلية, وإضاءة خافتة. شندي الساعي - في نهاية الطرقة - يسرع إلى فتح الباب. تطالعني الحجرة الواسعة, المطلة على النيل: الأبواب والنوافذ ذات النقوش البارزة, والزجاج المتداخل الألوان, والأرفف الخشبية رصت فوقها كتب وأوراق وأيقونات صغيرة وشمعدانات, والأرض فرشت عليها سجادة تغلب عليها النقوش الحمراء, فوقها كنبتان متقابلتان, يتخللهما طاولات وكراسي, والمكتب الضخم في الوسط, من الأبنوس والصدف, وقبالة الباب مرآة هائلة تغطي معظم مساحة الجدار, وتدلت من السقف نجفة كريستال هائلة.

           بدا أحمد أنيس مرتبكا, لا يدري إن كان عليه أن يظل في وقفته أم يقبل ناحيتي.

           أشرت إليه, فلم يغادر موضعه. أهملت ما ينبغي على رئيس العمل أن يحرص عليه. يستدعي مرءوسيه ولا يذهب إليهم. تأتيه أخبارهم, ويضع جدارا غير مرئي بينهم وبينه.

           قلت:

           - أحيي إخلاصك.

           - هذا هو عملي.

           فاجأته بالسؤال:

           - هل المرتب يكفيك?

           وهو يغالب الارتباك:

           - أدبر نفسي.

           - ما رأيك في عمل بعد الظهر?

           وشى صوته بالانفعال:

           - سيادتك.

           ثم في استسلام:

           - أنت الرئيس ومن حقك.

           قاطعته:

           - لا شأن لهذا العمل برئاستي.. إنه عمل آخر.. إضافي.

           رنوت إليه متمليا: القامة القصيرة, المدكوكة, الجبهة الواسعة, الوجنتين البارزتين, الأسنان التي اختلط فيها السواد والصفرة, البشرة الدهنية, دائمة التفصد بالعرق.

           حدست السؤال الذي لا بد أنه سيخاطب به نفسه: لماذا اخترته دونا عن بقية الموظفين?

           فتشت عن الكلمات لأشرح له بواعث اختياري. ثم تنبهت إلى أنه ليس من حقه أن يسألني, ولا أن يناقشني فيما أختار.

           تركت له معظم الوقت الذي كان يسرقني. تحكم فيه بما أثار إعجابي, وربما حسدي. أجاد كل ما أسندته إليه.

           لم يكن يمارس عملاً واحداً, هو سكرتير, وسائق, وطباخ, وخادم. أدهشني بما يعرفه في الأبراج وعلوم الفلك وقراءة الطالع, وفهمه لقوانين الألعاب الرياضية, وحفظه لفروق الوقت في مدن العالم, وللنكات الحديثة, وإجادته تلخيص الروايات والمسرحيات والأفلام بما لا يخل بالمعنى, وتقديم المعلومة التي تعوزني في اللحظة التي أطلبها. ربما لجأت إليه في أوقات الليل يسري عني بحكاياته الغريبة, المشوقة.

           وفر لي النجاح في استثمار الوقت ساعات أخرى: يعرفني مفتشو الجمارك, فيتركون حقائبي بلا تفتيش. لا يفتحون الحقائب أصلا. يتعرف على التاجر, ويعرفني بنفسه, يجري لي ما لم أكن طلبته من خصم على ما اشتريته. وكان يخلص - بلا متاعب - أذون الشحن, ويتذوق الطعام الجيد, ويشير بالأماكن المريحة, ويجيد تقليد الأصوات والحركات, ويجيد اختيار الطاولة القريبة من (بيست) الملهى الليلي, ويحسن التصرف في الأوقات السخيفة, وينقل فضائح المجتمعات الراقية, ويتحمل العبارات التي يمليها الغضب.

           ما وصلت إليه من مكانة, يدفع من ألتقي بهم إلى انتظاري, فلا يشغلني انتظارهم. ينتظرون حتى الموعد الذي أحدده. من المسموح لي أن أضيع وقتهم, وليس من حقهم أن يضيعوا وقتي.

           أعتذر بالقول: أنا مشغول الآن, هل يمكن إرجاء هذا الأمر إلى وقت آخر? هذه المشكلة تحتاج إلى مناقشة ليس الآن مجالها, سأحدثك عن ملاحظاتي في فرصة قادمة,أملي القرار, لا أتوقعه, لا أنتظره.

           عاودت النظر إلى ساعة الحائط. تثبت من الوقت في ساعة يدي. يدخل الخادم بالصحف في التاسعة صباحا. أطالعها, أو أتصفحها, حتى التاسعة والنصف.

           علا صوتي:

           - أين الصحف?

           - سألخصها لسيادتك.

           لم أفطن إلى وجوده في الفراندة المطلة على الحديقة الخلفية. اعتدلت بحيث واجهته:

           - لكنني أقرأها بنفسي.

           - الأخبار المهمة سألخصها بنفسي.

           ثم وهو يربت صدره:

           - هذا عملي.

           تبادلت كلاما - لا صلة له بالعمل - مع أصدقاء في الكازينو المطل على النيل. أفيد من فائض الوقت, ولا أعاني قتله. تحدثنا في السياسة, والأغنيات الجديدة, ومباريات الكرة, وتقلبات الجو, وفوائد السير - كل صباح - على طريق الكورنيش.

           لم يعد هناك ما يشغلني. أحمد أنيس تكفّل بكل شيء. يتابع تنفيذ القرارات دون أن يستأذنني في إصدارها. حتى المكالمات التلفونية يسبقني إلى الرد عليها. يؤكد وجودي, أو يلغيه. يتمازج الإشفاق والود في ملامحه:

           - نحن أولى بالوقت..

           علا صوتي - بعفوية - حين دفع باب حجرة المكتب, ودخل. تبعه ما يقرب من العشرة.

           يحملون كاميرا وحوامل وأوراق وأشرطة تسجيل.

           أشار أحدهم - دون أن يلتفت ناحيتي - إلى مواضع في المكتب يرى أنها تستحق التصوير.

           لم أكن مشغولا بقراءة ولا متابعة, ولا أستمع إلى الإذاعة, أو أشاهد التلفزيون. كنت أتأمل لوحة الجيوكندا, وسط الجدار, أحاول تبين ما إذا كانت نظرة الموناليزا تتجه - بالفعل - إلى كل من ينظر إليها.

           وضع فمه في أذني:

           - هذا برنامج للتلفزيون.. عن مشوار حياتك.

           - لكنني غير مستعد لهذا البرنامج.. لست مستعدا لأي شيء.

           دفع لي بأوراق:

           - عليك فقط أن تتصفح هذه الكلمات.

           وقلت له - ذات مساء - بلهجة معاتبة:

           - يفاجئني الأصدقاء بالشكر على رسائل تهنئة وهدايا.

           وهو يدفع نظارته الطبية على أرنبة أنفه:

           - عندي قوائم لكل المناسبات السعيدة للأصدقاء, وأتابع أنشطتهم الاجتماعية جيدا.

           مددت شفتي السفلى دلالة الحيرة:

           - أخشى أنهم يفطنون لارتباكي.

           وواجهته بنظرة متسائلة:

           - لماذا لا تبلغني بهذه المناسبات قبل أن ترسل تهانيك وهداياك?

           - وقتك أثمن من أن تبدده في هذه التفاصيل الصغيرة.

           أعدت النظر إلى ما كنت أطلبه من أحمد أنيس.

           لم أعد أرفض قيامه بشيء ما دون أن يبلغني به. كان يرد على الرسائل دون أن يتيح لي قراءتها, ويبلغ المتحدث على التلفون بما يرى أنها تعليماتي, ويبعث بالمذكرات إلى من ينتظرونها, ويوافق على الدعوات التي يثق في ترحيبي بها, ويرفض ما يثق أني سأرفضه.

           طويت الجريدة, ووضعتها على الطاولة أمامي:

           - أنا لم أقل هذا الكلام.

           بدا عليه ارتباك:

           - لكنه يعبر عن آرائك.

           ثم وهو يرسم على شفتيه ابتسامة باهتة:

           - هل فيه ما ترفضه?

           - بالعكس.. لكنه ينسب لي ما لم أقله.

           أحنى رأسه بالابتسامة الباهتة:

           - دع لي مسألة الحوارات والأحاديث, لأنها تأخذ من وقتك ما قد تحتاج إليه للراحة أو التأمل.

           وأنا أعاين إحساس المحاصرة:

           - إذن ناقشني في الأفكار التي ستقولها.

           تهدج صوته بالانفعال:

           - هذا ما سأفعله حين يصادفني ما أحتاج لمعرفته.

           بدا لي أن العالم رتب أموره من دوني. لم يعد لدي ما أفعله سوى التأمل واستعادة الذكريات. مللت ما أحبه من أغنيات, فأهملت سماعها. سئمت مشاهدة الأفلام التي وضعها في الفيديو. فارقني القلق والتوقع والتخمين. تنبهت لانشغال يدي بمسح زجاج المكتب بمنديل ورقي. رنوت ناحية الباب الموارب, أتأكد إن كان أحد قد رأى ما فعلت.

           قلت:

           - أنت تأخذ قراري?

           ارتعشت أهدابه?

           - أنا أحدس رأيك.

           غالبت نفسي فلا يبين ما أعانيه:

           - ماذا أفعل أنا إذن?

           - أنت تخطط وتشرف.. وأنا أنفذ.

           حدجته بنظرة تفتش عن معنى غائب:

           - هذا لم يعد يحدث.

           حدثني عما لم أكن أعرفه في نفسي. أبتعد بنظراتي, ولا أميل إلى المجتمعات, ولا أصلح للخطابة, أو التحدث في اللقاءات العامة. لا يجتذبني ما قد يثير الآخرين, وأعاني التردد في الاختيار, وفي اتخاذ القرار, والمجازفة.

           أومأت على ملاحظاته بالموافقة. لم أحاول السؤال, أو مناقشة التصرفات التي جعلتني ذلك الرجل فعلاً.

           أتابعه بنظرة ساكنة وهو يتحرك في حجرات البيت. يرفع الصور واللوحات من أماكنها على الجدران. ينقلها إلى مواضع أخرى. لا يعنى حتى بأن يلمح - في ملامحي - انعكاس ما يفعله.

           يبدي إشفاقه, فيغلبني التأثر. يغادر الفندق - في رحلاتي خارج البلاد - إلى الجولات الترفيهية, وزيارة أماكن السياحة والتسوق.

           لم أعد أعرف القرار الذي يجدر بي أن أتخذه, ولا ما يجب عليه هو كذلك. اختلطت الرؤى, وتشابكت, فلا أعرف إلا أنه ينبغي أن أسلم نفسي للهدوء, وما يشبه الاستسلام. أكتفي بالمتابعة الصامتة, الساكنة. لا أفكر, ولا أتكلم, ولا أقدم على أي فعل. حتى التصور لم يعد يطرأ ببالي.

           أحمد أنيس وحده هو الذي يفعل كل شيء.

 

محمد جبريل   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات