مدن المصارعة ومصارعة المدن

 مدن المصارعة ومصارعة المدن
        

يوشك عدد سكان المدن أن يكون نصف البشرية, ويشتكي هذا النصف من أنه يصارع الحياة في هذه المدن وتصارعه, وهي أزمة خانقة يبحث هذا المقال عن مصادرها ويستشرف حلولها.

             يعود بناء المدن إلى زمن بعيد جدا. فطبيعة البشر الاجتماعية جعلت الناس يرغبون في أن يكونوا معا. ولم يكن ذلك من أجل الرفقة فحسب, بل من أجل الشعور بالأمن والحماية, فقد كانت المدن توفر الحماية ضد هجمات العدو عندما كانت هذه الحوادث سائدة في القرون الماضية. كما زودت المدن مواقع يستطيع فيها المزارعون تخزين منتجاتهم وتوزيعها. كما أتاح إنشاء الأسواق أن يسعى كثيرون من سكان المدن وراء سبل عيش غير الزراعة. يقول كتاب The Rise of Cities: (ما إن انتهى سكان المدن من عبء تأمين ضروريات الحياة حتى اتجهوا إلى إنشاء فيض من أنواع التجارة المتخصصة: صناعة السلال, صناعة القدور, الغزل, الحياكة, دبغ الجلود, النجارة وصناعة الحجارة - كل ما كانت تستطيع السوق استيعابه).

             وخدمت المدن كمركز توزيع فعال لمثل هذه البضائع. كما عززت أيضا الاتصال بين الناس في وقت كانت فيه وسائل النقل بطيئة ومحدودة, فزاد ذلك سرعة التغيير الحضاري والاجتماعي. وصارت المدن مراكز الابتكارات وروجت التطور التكنولوجي. وبتدفق الأفكار الجديدة, برز على الصعيد العلمي, الاقتصادي, والفلسفي تجدد فكري.

             لاتزال المدن اليوم تقدم الكثير من هذه الميزات. فلا عجب إذن أن تستمر في اجتذاب الملايين - وخصوصا في البلدان حيث صارت حياة الأرياف صعبة بشكل لا يحتمل. ووفقا لمجلة Social Affairs: (تعم البشرية حركة نزوح لم يسبق لها مثيل, ومعظم النازحين يقصدون المدينة سعيا وراء حياة أفضل, فكثيرون بهرتهم الأضواء الساطعة, أو اضطروا إلى النزوح من الريف بسبب الاضطراب السياسي والاقتصادي, الضغط السكاني, وتدهور الثروة البيئية).

فبأي سرعة تنمو المدن?

             يقدر البعض أن الناس يتوافدون على المدن بنسبة مذهلة تتعدى المليون نسمة في الأسبوع. وفي أكثر من 200 مدينة في البلدان النامية, يتخطى عدد السكان اليوم المليون نسمة. كما يبلغ عدد السكان في نحو 20 مدينة عشرة ملايين نسمة. ويذكر فدريكو مايور, المدير العام السابق لليونسكو, أنه بحلول عام 2035, سيسكن (ثلاثة بلايين شخص إضافي في المدن الموجودة اليوم). وللاهتمام بعدد السكان المذهل هذا, يقول مايور: (سيكون علينا أن نبني خلال السنوات الأربعين القادمة ألف مدينة يسكن في كل منها ثلاثة ملايين نسمة, أي ما يعادل خمسا وعشرين مدينة في السنة).

             وعلى الرغم من الاختلافات, فإن لدى مدن البلدان النامية والمتقدمة شيئا مشتركا - المشاكل. يقول كتاب (العلامات الفارقة): (تذكر دراسة حديثة أجراها مجلس السكان أن نوعية الحياة في مدن كثيرة من العالم النامي اليوم أردأ منها في المناطق الريفية). وفي استطلاع في (ديلي تليجراف) عن لندن, أكبر مدينة في أوربا, تبين أن اللندنيين, مع كونهم أصحاء وأغنياء أكثر مما كانوا قبل 25 سنة, هم أقل سعادة عموما. فمن سكان لندن الذين جرى استفتاؤهم, يعتقد كل 6 من 7 أن الحياة في المدينة صارت أسوأ في السنوات العشر الماضية. وتقول صحيفة (الإندبندنت): (إننا سنصير أكثر تعاسة).

             لاحظ كتاب (5000 يوم لإنقاذ الكوكب): (صارت مدننا النامية الكالحة والخالية من الإبداع أبشع من أن يعاش فيها وأبشع من أن ينظر إليها... بسبب المشاكل التي تعتريها). فما هي المشاكل التي تواجهها المدن? وأي حلول يلزم أن يسعى وراءها لإنقاذ المدن من أزمتها?

الجريمة

             يكتب هنري سيسنايروس في (الوجه الإنساني في البيئة الحضرية): (عندما يكثر وجود الفقراء في منطقة معينة, تتفاقم مشاكلهم بشكل سريع, وترافق وجودهم بكثرة في مناطق محدودة - ومعظمهم من الأقليات - نسب بطالة عالية جدا, لأن سوق العمل قد لا تستوعب العدد المتزايد من طالبي العمل, والمروع أن ذلك غالبا ما يقود إلى الجريمة المنظمة). تذكر مجلة (آسيا ويك): (في مانيلا, حيث تنشط أكثر من 40 عصابة خطف منظمة, تقول ست من كل عشر عائلات إنها لا تشعر بالأمان في بيوتها أو في الشارع). وفي لاجوس, عاصمة نيجيريا, وفقا لصحيفة (ديلي تشامبيون): (فشلت العائلة, والمدارس, والأندية في أداء واجبها في أن تحول دون تورط الشباب في الجريمة).

             وتبتلي الجريمة المدن في البلدان الغربية أيضا. مثلا, يقول كتاب: (أزمات المدن الأمريكية): (تشهد المدن اليوم نسبة عالية من العنف بشكل لا يصدق. وتفشي العنف في المدن الأمريكية خطر إلى حد أن المجلات الطبية بدأت تخصص جزءا مهما لهذا الموضوع باعتباره واحدة من أهم مشاكل الصحة العامة في أيامنا).

             وقد ارتفع معدل الجريمة بشكل مذهل في مدن أوربا الشرقية السابقة خلال السنوات العشر الماضية. وفي بعض هذه المدن, تراوحت الزيادة بين 50 و100 في المائة, حتى أنها تتراوح في مدن أخرى بين 200و400 في المائة. وعن موسكو تقول مجلة (تايم): (إن العصابات المشابهة لعصابات المافيا حوّلت مدينة كانت في العهد السوفييتي واحدة من أكثر المدن أمنا في العالم إلى شبه عاصمة إجرامية)... يقول الملازم أول في الشرطة جينادي جروشكوف (مرت 17 سنة وأنا أقوم بدوريات, ولكن لم يسبق لي أن رأيت هذا القدر من الجرائم في موسكو, ولا شيء بهذه البشاعة).

             تذكر الصحيفة الألمانية Suddeutsche Zeitung: (يتحدث الخبراء في علم الإجرام عن بعد جديد تتخذه الجريمة في المدن الأوربية. وتعابيرهم حافلة بالتشاؤم, والصورة التي يرسمونها قاتمة). وتخبر الصحيفة عن استطلاع شمل آلافا من سكان المدن الأوربية, يكشف أن الجميع تقريبا يخافون أن يقعوا ضحية الجريمة. فأكثر ما يخافه الناس في ألمانيا, المملكة المتحدة, وهولندا هو الجريمة. ويحتل الخوف من الجريمة المرتبة الثانية في الدانمارك, سويسرا, وفنلندا. ويحتل المرتبة الثالثة في إيطاليا, فرنسا, واليونان. ومن 12 بلدا شملها الاستطلاع, كانت إسبانيا البلد الوحيد حيث لم تدرج الجريمة بين الأسباب الثلاثة الأولى).

البنى التحتية

             يستنزف عدد السكان الكبير طاقة المدينة, فتعجز عن تزويد الخدمات الأساسية مثل توفير الماء والصحة العامة. على سبيل المثال, في إحدى المدن الآسيوية, يقدر أن هنالك حاجة إلى 500 ألف حمام عام. رغم ذلك أشار استطلاع حديث إلى أنه لا يوجد سوى 200 حمام صالح للاستعمال.

             يقول كتاب (الوجه الإنساني للبيئة الحضرية): (يتجمع الفقراء في مدن عدة حيث يجري فيها تجاهل المشاكل البيئية بسهولة كبيرة - حيث تتداعى شبكة المجارير, تُنقى المياه بطريقة غير ملائمة, تغزو الحيوانات الضارة الأراضي المليئة بالنفايات وتكتسح المساكن, يأكل الأولاد الطلاء المحتوي على الرصاص مما على جدران شقق الأبنية المتصدعة... ولا يبدو أن هنالك من يهتم).

             بالإضافة إلى ذلك, تواجه المدن الغربية صعوبة في تزويد سكانها بالخدمات الأساسية. وذكر الكاتبان بات شوت وسوزان وولتر في كتابهما (أمريكا بين الأنقاض - البيئة التحتية المتصدعة): (في حين أن التسهيلات العامة في أمريكا تبلى بسرعة فهي لا تستبدل بالسرعة نفسها). وقد دق الكاتبان ناقوس الخطر بالنسبة إلى عدد من الجسور الصدئة, والطرقات المتهدمة, وشبكات المجارير المتداعية في المدن الرئيسية.

             وفي باريس, يجري التقاط 20 طنا من غائط الكلاب من أرصفة المدينة! وبالإضافة إلى الكلفة والإزعاج, هنالك عامل أخطر قد برز, فغائط الكلاب هو مصدر مرض يسببه الطفيلي Toxocara canis. وقد وجد أن نصف أماكن لعب الأولاد وصناديق الرمل حيث يلهون في المدينة ملوث ببيوض الطفيلي المجهرية الشديدة المقاومة التي تدخل البيوت على نعال الأحذية وعلى مخالب الحيوانات المنزلية المدللة. والتعب, والأوجاع البطنية, الأرجيات, ومشاكل القلب والشرايين هي أعراض باكرة للمرض.

             وقد بيّنت الوقائع أن هنالك مدنا كبرى عدة عرضة لاختلالات ناجمة عن أسباب كثيرة ومتنوعة. ففي فبراير 1998, بقيت مدينة, أوكلند في نيوزيلندا مشلولة الحركة أكثر من أسبوعين بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وحُرم سكان ملبورن في أستراليا من المياه الساخنة طوال 13 يوما عندما قطعت إمدادات الغاز بسبب حادث في أحد مصانع الإنتاج.

             وهنالك المشكلة التي تواجهها في الواقع كل المدن, وهي مشكلة ازدحام السير. وفقا لمجلة (تايم): (يوجد تضارب جوهري - عدم تطابق - بين حجم المدن وشبكات المواصلات فيها. فعلى المدن الأقدم أن تكيف وسطها التجاري لاستيعاب حركة سير أكبر لم تكن في الحسبان عند إنشائها). وتشير المجلة إلى أن ازدحام السير في مدن مثل القاهرة, سان باولو, وبانكوك, صار الخبز اليومي. وفي الواقع, يقول أحد التقارير عن بانكوك إن (السائق النموذجي يقضي ما يعادل 44 يوما في السنة محدقا في المصدم الخلفي للسيارة أمامه).

             وقد بينت دراسة أجريت في إيطاليا أن ازدحام السير يتطلب الكثير من أوقات سكان مدن إيطاليا. وبحسب جمعية Legambiente, يقضي المواطنون في كل من نابولي وروما140 دقيقة في وسائل النقل كل يوم. وإذا افترضنا أن معدل العمر هو 74 سنة, فعندئذ يخسر الساكن في نابولي سبع سنوات من حياته بقضائها في وسائل النقل. والوضع سيئ بشكل مماثل في مدن أخرى, فالناس في مدينة بولونيا يخسرون ست سنوات, والذين في ميلانو خمس سنوات.

البيئة

             ولكن السيارات تطرح مشكلة أخرى أكثر خطورة - تلوث الهواء. تقول صحيفة (التايمز) اللندنية إن تلوث الهواء في أيامنا هو (عدو أكبر من التدخين). والوضع خطير بشكل خصوصي في المدن الكبرى. والأطفال المنقولون في عرباتهم يتأذون بشكل خصوصي لأنهم يكونون على المستوى الذي تصرف فيه السيارات دخانها. لكن تلوث الهواء يهدد أيضا راكبي السيارات, ويقال إن التلوث داخل السيارات أعلى ثلاث مرات من خارجها.

             وفي إنجلترا وويلز, يقتل الهواء الملوث ما يقدر بمائة ألف شخص سنويا. ووفقا لدراسة أجراها صندوق الحياة البرية العالمي WWF في مدينة روما تبين أنه في المدينة (يحتوي المتر المكعب من الهواء ما معدله 24ميكروجراما من البنزين), وهو رقم أعلى بكثير من الحد القانوني الذي يبلغ 15 ميكروجراما في المتر المكعب. وعلى أساس هذه الدراسة أوضح العلماء أن تنفس الهواء الملوث يوما واحدا في روما يعادل تدخين 13 سيجارة. وتقول صحيفة لوموند: (يزداد تلوث الهواء سوءا برغم الجهود المتضافرة لمحاربته, وهو يخلق تهديدا على صحة الملايين العائشين في باريس وفي مدن فرنسية أخرى).

             وتسهم السيارات أيضا في ملوث آخر تدعوه (ديلي إكسبرس) (أسوأ ملوث في زماننا), إنه الضجيج, في اليابان ذكر تقرير أن الضجيج في المدن أثار شكاوى أكثر من أي ملوث آخر. وفي ألمانيا تكشف دراسات أن هذا النوع من التلوث يزعج 64 في المائة من سكان المدن. والناس الذين يبدو أنهم تكيّفوا مع الضجيج يتكيّفون (دائما على حساب أجسامهم ), كما تقول الاختصاصية في الضجيح أرلين بورنسافت. وتضيف: (الضجيج مجهد وفي النهاية يستسلم الجسم بطريقة ما). ويعتبر ماكسيس تسابوجاس, مستشار لمنظمة الصحة العالمية, الضجيج (أحد أكبر مسببات الإجهاد في الحياة).

ماذا يخبئ المستقبل?

             منذ خمس عشرة سنة, لاحظ صحفي أنه على الرغم من أن المدن الكبيرة كما يبدو (تتشارك في الأزمات نفسها, فلكل واحدة طابعها الخاص, وبالتالي طريقة خصوصية للصراع من أجل البقاء). ولاتزال المدن عند عتبة الألفية الثالثة تصارع, وكل واحدة بطريقتها الخاصة. ولا يعتقد الأغلبية أن معركة الصراع من أجل البقاء جرت خسارتها. مثلا, عبر محافظ سابق لمدينة تورنتو الكندية عن التفاؤل, إذ قال: (لا أعتقد أن المدينة تنهار. إنها تواجه تحديات, لكنني أعتقد أنه بإمكاننا حل المشكلة).

             من الضروري بمكان (حل المشكلة). فمنذ خمس سنوات كتب الصحفي يوجين لندن: (مصير العالم متعلق بمصير مدنه). ويقول إسماعيل سراج الدين من البنك الدولي (سابقا): (عندما ننظر إلى مدننا نرى مستقبلنا).

             تبذل اليوم جهود دءوب تستحق المدح في سبيل تحسين الحياة في مدن كثيرة. فقد أنهت مدينة نيويورك أخيرا تجديد ساحة تايمز سكوير في مانهاتن. وكان هذا المكان مشهوراً في السابق بمؤسسات تعمل في مجال الفن الإباحي, وتعاطي المخدرات والاتجار بها, وبالجريمة. كما وصفت مقالة في مجلة (نيوزويك) مشروع النفق المائي الثالث الضخم الذي يجري العمل فيه في المدينة منذ 30 سنة تقريبا. وهو يعتبر أكبر مشروع للبنى التحتية والوحيد من نوعه في النصف الغربي من الكرة الأرضية. وتبلغ نفقته نحو خمسة بلايين دولار أمريكي. والهدف منه تزويد مدينة نيويورك يوميا بنحو أربعة بلايين لتر من المياه العذبة.

             كما سهّلت التقنيات الجديدة انتقال بعض الأعمال إلى خارج المدن - مصطحبة معها عمالا كثيرين. فإذ يصير التسوّق والعمل من خلال الإنترنت شائعين, قد يخف ميل الناس إلى الذهاب إلى المناطق التجارية المزدحمة. يذكر كتاب (مدن في الحضارة): (يمكن أن نتوقع أن ينجز ذوو الأعمال الروتينية, وخصوصا العمال بدوام جزئي, أعمالهم كلها من بيوتهم أو من أي مكان عمل في جوار بيوتهم, مخففين بذلك حجم السير الإجمالي. وفي هذه البيئة الجديدة, قد تتناثر ملايين القرى حول العالم, مانحة الأفراد الساكنين فيها رفاهية حياة البلدات من جهة, ومن جهة أخرى الغنى الحضاري الذي تتسم به المدن التاريخية العظيمة, وذلك من خلال الكمبيوتر والإنترنت).

             يعتقد مراقبون كثيرون أنه رغم التكنولوجيا الموجودة, ستستمر الخدمات والفرص التي تقدمها المدن في اجتذاب الناس. وكما يقول تقرير من اليونسكو: (على نحو صائب أو غير صائب, يبدو أن المدينة تمنح التقدم والحرية, فرصا جديدة, وإغراء لا يمكن مقاومته). فأين يكمن الحل?

             ما يلزم تذكّره هو أن المدن تتألف من البشر وليس فقط من الأبنية والشوارع. لذا ينبغي أن يتغير الناس لكي تتحسن حياة المدينة. يقول لويس ممفورد في كتابه (المدينة عبر التاريخ): (أفضل رصيد للمدينة هو الاهتمام بالناس وتثقيفهم. وإذا وجب التخلص من إساءة استعمال المخدرات, الجريمة, التلوث, الخربشات على الجدران, وما شابه, فهنالك حاجة إلى أكثر من وجود مكثف للشرطة, للمخططات الهندسية, أو المشاريع التنموية, فيجب أن تتم مساعدة الناس على صنع تغييرات في طريقة تفكيرهم وتصرفهم)

 

وائل إبراهيم يوسف وريمة إبراهيم يوسف   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




المدينة بأضوائها الساطعة مازالت تجذب الآخرين





المدينة تواجه تحديات كثيرة