علاج (جيني) للصلع

علاج (جيني) للصلع
        

ثمانية من كل عشرة رجال يجتاح الصلع رءوسهم, وهذا المقال يأخذنا إلى أفق واعد يجعلنا نكف عن تحسس رءوسنا!

          إن شعر الإنسان ليس أداة للزينة أو ملمحا للجمال فقط, فله وظائف مهمة تتمثل في الحماية والعزل الحراري وتعزيز الإحساس باللمس. غير أن البشر يعلقون على شعرهم أهمية اجتماعية تفوق كثيرا ذلك الدور البيولوجي الذي خلق لأجله, ولهذا لا عجب في أن تنتشر وصفات ومواد وأدوات ومحال العناية بالشعر لتلتهم جانبا لا بأس به من ميزانية البشرية كل عام.

الرجال.. والنساء أيضاً

          وعلى كثرة وصفات وطرائق العناية بالشعر, فإن معظمها غير علمي, إذ يكاد العلماء والمختصون يجمعون على أن مثل هذه الوصفات إن لم تكن عديمة الفائدة فنفعها محدود للغاية. ولهذا السبب جرت في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي غربلة لما كان متاحا تجاريا آنذاك من مواد قيل إنها تمنع سقوط الشعر, ووجد أن الغالبية العظمى من تلك المواد لا أثر لها تقريبا سوى الأثر التجميلي أو حتى الأثر النفسي المحض. أما ما يمكن اعتباره عقاقير مفيدة بالفعل فلا تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة, وأشهر تلك العقاقير هو مينو كسيديل والذي تم إنتاجه عام 1988 تحت الاسم التجاري روجين, ثم العقار فيناستيريد والذي سُوِّق باسم بروبيشيا. ويستخدم هذان العقاران لعلاج الصلع الذكوري androgenetic alopecia لدى الرجال والنساء على السواء, غير أن النساء يمكن معالجتهن بمواد أخرى مثل هرمون الاستروجين, وهو الهرمون الذي يفرز في جسم المرأة بكميات معتبرة أثناء الحمل, وذلك يفسر لماذا يغزر شعر كثير من النساء في فترات الحمل. وبالإضافة إلى الاستروجين هناك اثنان أو ثلاثة من المستحضرات الأخرى التي قد تفيد في علاج صلع النساء, وفيما عدا ذلك لا يتبقى سوى اللجوء إلى الشعر المستعار والأصباغ التي تعطي انطباعا زائفا بكثافة الشعر, فضلا عن جراحات زرع الشعر, وهي جراحات لها محاذيرها وقد لا تلائم بالطبع كل الحالات.

          ويقول العلم إن كل شعرة في جسمك تنمو من حويصلة دقيقة مطمورة في أدمة الجلد, وتنبت الشعرة من تلك الحويصلة كطبقتين أو ثلاث طبقات دائرية من ألياف مجدولة من خيوط دقيقة ومتينة من مادة بروتينية تسمى كيراتين. أما لون الشعر فيتحدد بعوامل وراثية تملي على خلايا متخصصة بجدار الحوصلة إنتاج أصباغ تترسب في قشرة الشعرة وتعطيها لونها المميز. وعندما تتوقف الخلايا المنتجة للأصباغ عن تأدية وظيفتها بسبب الشيخوخة أو غيرها فإن الشعرة تخرج من منبتها بيضاء معلنة حلول المشيب. ولما كان المشيب يسهل إخفاؤه بالصبغات الاصطناعية, فقد تركزت الأنظار على سقوط الشعر باعتباره الهاجس الرئيسي الذي يؤرق الكثيرين من الجنسين, فلماذا يا ترى يسقط الشعر?

دورات البناء والهدم

          الحقيقة أنه لا توجد شعرة واحدة في جسم الإنسان يمكن أن تنمو باستمرار أو بغير حدود, فأول جيل من الشعر, ذلك المعروف علميا باسم زغب الحميل سرعان ما يسقط في غضون أسابيع قليلة عقب الولادة, بل ربما يسقط قبيل الولادة في داخل رحم الأم, ليحل محله جيل آخر من الشعر لا ينمو باستمرارأيضا بل ينخرط في دورات متعاقبة, تعرف كل منها بدورة الشعر, وتتألف الدورة الواحدة من ثلاث مراحل هي مرحلة (بناء الشعرة), ومرحلة (هدم الشعرة) ثم (المرحلة النهائية) والتي يمكن اعتبارها مرحلة كمون. وتختلف أطوال هذه المراحل باختلاف موقع الشعرة في الجسم, ففي فروة رأس الإنسان مثلا يبلغ طول مرحلة (بناء الشعرة) ما بين عامين وثمانية أعوام, وفي أثنائها تتكاثر خلايا الحويصلة مكونة الشعرة التي تبرز إلى خارج الجلد وتظل تنمو وتستطيل حتى نهاية فترة البناء, وعندئذ تبدأ (مرحلة الهدم) والتي تستغرق نحو أسبوعين فقط وفيها يحدث موت مبرمج لخلايا الحويصلة فينهار بنيانها ويغدو أثرا بعد عين. وبانهيارالحويصلة يتهاوى جذر الشعرة فتسقط إثر ذلك طبيعيا أثناء غسل الشعر أو تمشيطه, أو حتى لمجرد الاحتكاك بالوسادة أثناء النوم, ويقدر أن نحو ثمانين شعرة تسقط يوميا من رأس الإنسان. وبعد هدم الشعرة يظل المتبقي من كيان الحويصلة الغاربة في مرحلة الكمون مدة شهرين أو ثلاثة ثم يدب النشاط في أطلال الحويصلة إيذانا بدورة جديدة - نمو لفترة عامين إلى ثمانية أعوام, فانهيار في أسبوعين, فاختفاء غامض عن الساحة لمدة شهرين أو ثلاثة, وهكذا. وبالطبع يختلف طول مرحلة البناء من شعرة لأخرى, كما لا تتزامن بدايات ونهايات مراحل بناء الشعر في الشخص الواحد, وإنما ينمو الشعر بالتبادل, فبينما تكون هناك شعرة آخذة بالسقوط تكون هناك عدة شعرات ماضية في نموها, الأمر الذي يعطينا انطباعا خادعا بأن الشعر ينمو باستمرار.

          وفي أثناء البناء ينمو الشعر بمعدل 1 - 1.25 سنتيمتر كل شهر. وعلى ذلك فإن الشخص الذي تبلغ مرحلة بناء الشعرة في رأسه عامين فقط لن يزيد طول شعره على 30سم, وكلما طالت فترة بناء الشعرة كان الشعر أطول, حتى إذا بلغت مرحلة بناء الشعرة ثمانية أعوام كان طول الشعر ما بين متر واحد ومتر وربع المتر تقريبا. ربما يزيد نمو الشعر قليلا أثناء الصيف, إلا أن تلك هي بشكل عام الحدود الطبيعية لنمو الشعر, فأقصر الشعر (إذا لم يُقَص) لا يقل عن 24 سم, وأطوله لن يزيد على 125 سم. نعم نسمع أحيانا عن حالات يكون فيها الشعر أطول من ذلك, إلا أنها حالات استثنائية ينفرد أصحابها بمعدلات غير عادية لنمو الشعر بالإضافة إلى أطوال غير عادية لمراحل بنائه.

اللحية والشارب

          هناك عدة أشكال لسقوط الشعر, أهمها وأكثرها شيوعا ذلك المعروف باسم (الصلع الذكوري) - أشرنا إليه في بداية المقال - وهو يظهر في قرابة 80% من الرجال و40% من النساء بعد سن العشرين. والصلع الذكوري صفة وراثية تنتقل للمرء من الأبوين, في شكل عدد من العوامل الوراثية (الجينات) التي إذا وجدت مجتمعة في خلايا شخص ما جعلته مستعدا وراثيا للصلع, وذلك بأن تجعل حويصلات الشعر بفروة رأسه قابلة للارتباط بهرمونات الذكورة والتأثر بها. ولهذا ينعدم - أو يكاد - حدوث الصلع الذكوري قبل البلوغ حيث لا توجد هرمونات ذكورة آنذاك بالقدر المؤثر, أما بعد النضج الجنسي وبعد أن يبدأ إفراز هرمونات الذكورة في الدم, فإن تلك الهرمونات تمر على حويصلات الشعر في رءوس الأشخاص ذوي الاستعداد الوراثي للصلع فترتبط بخلاياها وتدفعها إلى التدهور أو التضاؤل, فيما يعرف عمليا بـ (تقَزُّم) الحويصلة. ويمكننا أن نشبه تقزُّم الحويصلة بانكماش خزان الوقود في سيارة ما, فبعد أن كانت تلك السيارة تسير طويلا قبل أن تتوقف للتزود صارت تسير قليلا لتتوقف طويلا. هكذا تفعل الحويصلة المتقزمة, فهي تنتج شعرة لا تكاد تنمو إلا لتسقط, حتى قبل أن يبرز طرفها إلى خارج الجلد. ولا تسلم النساء من الصلع الذكوري, حيث إن دم النساء أيضا يحتوي عادة على هرمونات ذكورة, ولكن بكميات أقل بالطبع, الأمر الذي يجعل الصلع الذكوري في النساء مختلفا عنه في الرجال,فبينما يسقط كل الشعر في مناطق الصلع عند الرجال, لا يسقط الشعر كله عند النساء, بل تقل كثافته بدرجة او بأخرى, كذلك يبدأ صلع الرجال بانحسار الشعر عن الفودين ثم يمتد إلى الخلف وللداخل, بينما يبدأ صلع النساء من وسط الرأس ثم يزحف دائريا إلى الخارج. ولم يتفق العلماء على آلية عمل العقار (روجين) في تلك المسألة, غير أنهم تأكدوا من فاعلية وطريقة عمل(فيناستيريد), إذ وجد أنه يُعَوِّق تحويل هرمون التستوستيرون إلى مركب آخر (داي هيدرو تستوستيرون) أكثر ضراوة في مهاجمة حويصلات الشعر وتقزيمها.

          أما العقاقير المعدودة الأخرى ومنها الاستروجين فكلها تؤخر ارتباط هرمونات الذكورة بالحويصلات, ومن ثم تبطئ أو تؤخر سقوط الشعر. ويتمتع الأشخاص غير المعرضين وراثيا للصلع (رجالا كانوا أو نساء) بوجود عوامل وراثية في خلاياهم تُكسِب حويصلاتهم مناعة ضد هرمونات الذكورة, ومن ثم تمر هرمونات الذكورة على حويصلات الشعر مرور الكرام دون أن تجد سبيلا للارتباط بها أو تقزيمها.

          الطريف أن هرمونات الذكورة هذه, والتي تنشر الصلع في رءوس ذوي الاستعداد الوراثي, هي ذات الهرمونات التي تؤدي إلى كثافة شعر اللحية في الرجال, وذلك لأن حويصلات شعراللحية لا تستجيب لهرمونات الذكورة بالانكماش والتقزيم, بل بإنتاج عوامل نمو growth factors تقوي شعر اللحية وتزيده طولا.

          ولكن هل من سبيل إلى إطالة مرحلة بناء الشعرة? أومحاصرة مرحلة الكمون? أو تعجيل نمو الشعرة وإن قصرت فترة بنائها? في عام 1994 اكتشفت عالمة أمريكية تدعى جيل مارتن مع زملاء لها بجامعة كاليفورنيا بسان فرانسسكو أن تعطيل جين بعينه (يسمى FGF5) في خلايا حويصلات الشعر يؤدي إلى زيادة في طول الشعر بمقدار 50%. لا شك أن ذلك الاكتشاف قد وضع أقدام العلماء على طريق جديد لمعالجة سقوط الشعر, فها هنا جين واحد, معروف الهوية والموقع, فإذا تمكنا من تعطيله أفلت الشعر من تأثيراته الضارة لينمو سريعا وقويا. فهل يمكن ذلك? الواقع أن تقانة تعطيل الجينات ليست بالأمر الجديد أو الغامض, فهي معروفة منذ ما يقرب من عشرين عاما, ولذا فإن العلماء يعكفون الآن على إيجاد وسيلة لتعطيل FGF5 في خلايا فروة رأس الإنسان, دون أن يكون ذلك التعطيل مصحوبا بآثار غير مرغوب فيها.

جين الإنسان العاري

          بعد حوالي أربع سنوات من اكتشاف الدور الذي يلعبه FGF5 في سقوط الشعر حدث اكتشاف آخر لا يقل في أهميته. لقد كان معروفا أن عدد حويصلات الشعر في الإنسان لا يتغير منذ مولده وحتى وفاته, فالمرء يولد وبجلده كل حويصلات الشعر المقدر له أن يحمله عبر مراحل عمره, وهو ما يربو على خمسة ملايين حويصلة, تستأثر فروة الرأس بنحو مائة ألف منها بينما يتوزع الباقي على أجزاء الجسم المختلفة. ولذا, فإن تقزم الحويصلة - وهو ما يشبه إخراجها من الخدمة - في ظل عدم إمكان إحلال حويصلة أخرى محلها يعني ببساطة استحالة إعادة الزمن إلى الوراء وإنتاج حويصلات بديلة.

          إلا أن العالمة الأمريكية إيلين فوكس وزميلها يوري جات وزملاء آخرين بجامعة شيكاغو اكتشفوا عام 1998 أن حفز جينات معينة بخلايا جلد الفأر على إنتاج نوع من البروتين (أسموه بيتا كاتينين) يمكن أن يؤدي إلى زيادة عدد حويصلات الشعر في أدمة الجلد أي تخليق حويصلات جديدة لم تكن موجودة من قبل. المؤسف أن زيادة حويصلات الشعر في فئران التجارب جاءت مصحوبة بآثار ضارة, مما يضع عقبات في سبيل الاستفادة الفورية من هذا الاكتشاف, لكن المهم أن الاكتشاف ألقى لأول مرة بظلال الشك حول الاعتقاد بثبات عدد حويصلات الشعر من المهد إلى اللحد, فهنا أيضا اكتشاف يفتح الطريق باتجاه آخر, هو العمل على تطوير طريقة لتنشيط الجين المنتج لبيتا - كاتينين, ومن ثم تعويض حويصلات الشعر المتقزمة بأخرى أكثر شبابا ونضارة.

          وبينما كانت فوكس تعكف مع فريقها على الاستفادة من اكتشافها, كان العالمان وسيم أحمد ومحمد فياض الحق من باكستان ومعهما أنجيلا كرستيانو وزملاء آخرون بجامعة كولومبيا يبحثون واحدا من أخطر وأندر حالات سقوط الشعر في الإنسان, ذلك المعروف بالصلع التام والشامل alopecie universalis. كان العلماء فيما قبل قد درسوا بالتفصيل ذلك النمط الغريب من الصلع التام في سلالات من الفئران عرفت باسم الفئران العارية, ومع أن أفراد هذه السلالات تولد بكامل فرائها, فإن الصلع لا يلبث أن يدهم الفأر في موجة كاسحة تبدأ من أقصى الأمام عند الفم ثم تتحرك بسرعة لتصل إلى نهاية الذيل في غضون أسبوع فقط تاركة الحيوان المنكوب عاريا بلا شعرة واحدة. وبالبحث تبين أن جينا واحدا هو المتحكم في تلك الظاهرة الغريبة, ولقد سمي ذلك الجين hairless أي جين انعدام الشعر. ولم يكن من سبيل ميسر إلى معرفة ما يناظر ذلك في الإنسان, إلى أن ساقت الأقدار في طريق أحمد وكرستيانو عائلة باكستانية لها المواصفات ذاتها, وبالبحث تبين لأحمد وكرستيانو وزملائهما أن الجين المسئول عن تلك الظاهرة في البشر يقع في أحد تلافيف الكروموسوم رقم 8 من الجهاز الوراثي للإنسان, وفي أبريل عام 1999 خطا أحمد وكرستيانو خطوة أعمق بدراسة حالة مماثلة في شقيقتين لا شعر لهما من إحدى قرى جنوبي إيطاليا, وقدما وصفا لكيفية عمل الجين المسئول وطريقة توارثه. ومع أن الكشف عن جين الصلع التام في البشر هو الحلقة الأحدث في تلك السلسلة من الاكتشافات, فإنه يمثل واسطة العقد في منظومة الاكتشافات السريعة التي أسعدت الأوساط العلمية المهتمة بأسباب سقوط الشعر وكيفية علاجه, إذ تشكلت الآن صورة واضحة, وإن تكن مبدئية, عن الجينات المسئولة عن نمو والشعر وسقوطه. ونظرا لأن هذه الاكتشافات كلها جرت في أقل من ثماني سنوات, فإن العلماء ينظرون إلى السنوات القادمة بتفاؤل كبير.

          ويقول العلماء إن تلك الاكتشافات الثمينة يجب أن تحملنا على اليقين بأن تطوير علاج جيني أو علاج كيميائي يستهدف الجينات قد بات قريبا. ربما يستغرق الأمر بضع سنوات أخرى, غير أن المقدمات كلها تشير إلى أن الصلع لن يجد له مكانا على رءوس البشر عما قريب.

 

مدحت مُريد صادق   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





الطفرة في جين واحد مسئولة عن هذا الصلع الشامل لكل الجسم