2003 سنةٌ عالميةٌ للمياه العذبة

 2003 سنةٌ عالميةٌ للمياه العذبة
        

          أعلنت الأمم المتحدة, في 12 ديسمبر من العام الماضي, بدء السنة العالمية للمياه العذبة. جرى الإعلان بمقر المنظمة العالمية بنيويورك, في احتفال خاص, شارك فيه بعض نشطاء البيئة, واشتمل على فقرات فنية لأحد المغنين الشعبيين الأمريكيين, وكورال أطفال عالمي. وكان الهدف من هذا الإعلان هو تحفيز الجهود لحل مشاكل المياه التي يواجهها العالم.

          وفي حديثه في الحفل, قال كوفي عنان, السكرتير العام للأمم المتحدة, إن الافتقار للماء الصالح للشرب, ولغيره من الأغراض المتصلة بصحة البشر وأمنهم الغذائي, يحيل حياة أكثر من بليون عضو بالعائلة البشرية إلى شقاء في شقاء, وأضاف, إننا نتوقع أن يكون الماء مصدراً للتوتر الدائم, والتنافس الشرس بين الأمم, إذا استمرت الحال على ما هي عليه, وفي الوقت ذاته, فإن الوضع الحالي يمكن أن يكون عاملاً حافزاً على التعاون, ولعل هذه السنة الدولية للمياه العذبة تلعب دوراً مؤثراً في إيجاد خطط وأساليب العمل المطلوبة, على أن يكون ذلك بمشاركة من الحكومات والمجتمع المدني, في كل أنحاء العالم.

          والملاحظ, أن هذا العام العالمي للمياه العذبة يأتي في أعقاب قمة الأرض الثانية - جوهانسبرج 2002 - التي اتفق فيها قادة العالم على أسس مواجهة مشاكل الماء والقصور الشديد في مرافق الصحة العامة, التي يعانيها حوالي بليون ومائتي مليون إنسان, لا يعرفون الطريق للمياه الصالحة للشرب, وأكثر من بليونين وأربعمائة مليون آخرين, يفتقدون الحد الأدنى من خدمات ومرافق الصحة العامة. والحصاد المرُّ لهذه الأحوال,  ثلاثة ملايين ضحية, تقتلهم الأمراض الناجمة عن تلوث المياه, كل سنة.

          لقد وعد زعماء العالم, في احتفالية الأمم المتحدة بالألفية الثالثة - سبتمبر 2000 - بتقليص عدد سكان الأرض الذين لا يجدون ماء الشرب, إلى النصف, بمقدم عام 2015. وفي جوهانسبرج, عاد هؤلاء الزعماء ووعدوا أيضاً بتقليص عدد من يفتقدون المرافق الصحية إلى النصف, عند العام نفسه, 2015. ويقول الواقع والحقائق, إن الإدارات الحكومية لا تستطيع, وحدها, تحمل مسئولية الوفاء بهذه الوعود, فالأمر يستلزم التعاون الوثيق بين الحكومات والمستهلكين والمستثمرين, ودور الفئة الأخيرة مهم جداً, فالاستثمار في المشروعات المتصلة بالمياه مسألة حيوية, وثمة تقديرات تشير إلى أن قيمة الاستثمار السنوي, في مجال مياه الشرب والمرافق الصحية, تصل إلى 30 بليون دولار, في العالم كله, والمطلوب أن يتضاعف هذا الإنفاق, حتى تتحقق الوعود, باقتراب سنة 2015.

          وثمة مؤشرات طيبة, تقول بأن 63 من دول العالم تسير في الطريق الصحيح, باتجاه توفير الماء, غير أن المشكلة لا تزال محتفظة بحدتها في دول ما تحت الحزام الصحراوي في إفريقيا, حيث تزيد نسبة من يجدون مشقةً بالغة في الحصول على ماء صالح للشرب, أو من لا يجدونه على الإطلاق, عن أربعين بالمائة من مواطني تلك الدول. وبصفة عامة, على المستوى العالمي, ثمة أربعة من كل عشرة من سكان الأرض, يعيشون في مناطق شحيحة الماء. وإذا نحينا جانباً وعود رجال السياسة وتعهداتهم, بشأن الأحوال المائية في العام 2015, فإن التوقعات (المتشائمة) تقول إن (فقراء الماء) في العالم سيصل عددهم إلى خمسة بلايين ونصف البليون من البشر, في عام 2025, إذا استمر التدهور الحالي في أحوال الماء... والخطير في مشكلة الماء, أنها شديدة الاتصال, وبالغة التأثير, في مستقبل التنمية, فلا تنمية من دون ماء.

          الجدير بالذكر, أن الأمم المتحدة, بمنظماتها ووكالاتها المختلفة, قد وضعت برنامجاً حافلاً بالأنشطة, يجري تنفيذه على مدار هذا العام 2003, بمشاركة عدد كبير من حكومات العالم والمنظمات غير الحكومية وبعض مؤسسات قطاع الأعمال الخاص. وفي مارس الماضي, اشتركت 23 وكالة تابعة للأمم المتحدة في إصدار (التقرير العالمي لتطور مسألة المياه), وفيه توصيف شامل للوضع المائي الحالي, وتوصيات موسَّعة فيما يخصُّ الاحتياجات من الماء, مستقبلاً. وقد جاء إصدار هذا التقرير متزامناً مع انعقاد المنتدى الدولي للماء, في (كيوتو), باليابان. ولمن يريد مزيداً من الاطلاع على كل ما يتصل بالعام العالمي للمياه العذبة, تم إنشاء موقع بشبكة المعلومات العالمية (الإنترنت), هو: www.wateryear2003.org, وفيه العديد من الوصلات وأدوات الربط بمصادر للمعلومات والتقارير الفنية, وبرامج الأنشطة والوقائع الخاصة بهذا العام, في جميع أنحاء العالم .

البيئة في جدول أعمال الأمم المتحدة للقرن الـ 21

          تُرى, هل يشهد القرن الحالي (انفراجاً) بيئياً, بعد أن غادرنا القرن العشرون وقد ساءت أحوال معظم النظم البيئية للأرض, والموارد الطبيعية التي يعوِّل عليها البشر في حياتهم? وهل لنا أن نعلِّق آمالنا على الأمم المتحدة ووكالاتها, في أن تقود أعمال وجهود ترتيب ما طرأ على (بيتنا الأرض) من فوضى وارتباك?

          إن الدول لا تستطيع أن تعمل بمفردها, فالعالم بحاجة إلى الأخذ بنهج متوازن ومتكامل في معالجاته لمسائل البيئة والتنمية, وقد أدركت الأمم المتحدة هذه الحقيقة, فكان قرارها رقم 44 / 228, الصادر في ديسمبر 1989, الذي يؤكد ضرورة وجود إطار للمشاركة العالمية في برامج وخطط التنمية المستدامة. كما اهتمت الأمم المتحدة بإعداد جدول أعمالها للعمل البيئي في القرن الجديد, والذي يرسم أساليب التصدي للمشاكل التي تلح على حياتنا اليومية, بالوقت الراهن, وكيفية إعداد العالم للتحديات التي ستواجهه في مائة سنة قادمة. ويؤكد واضعو هذا التقرير, أو (الأجندة), على أن نجاح تنفيذ بنودها هو مسئولية الحكومات, بالدرجة الأولى, فلا ينبغي على الإدارات الحكومية أن تغفل الاستراتيجيات والخطط والسياسات والبرامج اللازمة لهذا الغرض, كذلك, ينبغي تشجيع مشاركة جماهيرية موسعة, بالإضافة إلى دور فعال ومؤثر, ينتظره المجتمع الدولي من المنظمات غير الحكومية. وتلفت المنظمة النظر إلى أن تنفيذ الأهداف الإنمائية والبيئة, الواردة في جدول أعمالها للقرن 21, يتطلب تدفقاً سخياً من الموارد المالية, الجديدة والإضافية, إلى البلدان الفقيرة والنامية, لتغطية التكاليف الإضافية, الناجمة عن الإجراءات التي يتعين عليها اتخاذها, لمعالجة المشاكل البيئية العالمية, مع التعجيل بالتنمية المستدامة.

          ومن أهم بنود جدول الأعمال البيئي للأمم المتحدة, بالقرن الواحد والعشرين:

  1.  التأكيد على اعتماد التعاون الدولي كوسيلة للتعجيل بالتنمية المستدامة في الدول النامية.
  2. مكافحة الفقر.
  3.  حماية صحة الإنسان وتعزيزها.
  4.  إدماج البيئة والتنمية في صنع القرار.
  5. مكافحة أنشطة إزالة الغابات.
  6. مكافحة التصحُّر والجفاف.
  7. حفظ التنوُّع الأحيائي.
  8. الإدارة السليمة بيئياً للتكنولوجيا الحيوية.
  9. حماية المحيطات, وكل أنواع البحار, بما في ذلك البحار المغلقة وشبه المغلقة, والمناطق الساحلية, وحماية مواردها الطبيعية الحية, وتنميتها.
  10. حماية نوعية المياه العذبة, وتنمية مواردها.
  11. تحقيق إدارة سليمة من وجهة النظر البيئية لكل أنواع النفايات.
  12. الاعتراف بدور السكان الأصليين ومجتمعاتهم, وتعزيز هذا الدور, لضمان نجاح برامج الإصلاح والإصحاح البيئي.
  13. تعزيز دور المنظمات غير الحكومية.
  14. دعم الأوساط العلمية والتكنولوجية, وتسخير العلم والتكنولوجيا لخدمة أغراض التنمية المستدامة.
  15. تأكيد دور الآليات القانونية الدولية. 

يحدث في الربع الأول من هذا القرن

          قرب نهاية القرن التاسع عشر, قامت مؤسسة صحفية أمريكية كبيرة باستطلاع للرأي, يتضمن التنبؤ بما سيكون عليه العالم في (القرن القادم), شارك فيه عدد كبير من رموز المجتمع الأمريكي, في شتى المجالات.. وتوضح النتائج, التي نُشرت في كتاب صدر في نهاية القرن الماضي, فشل معظم المشاركين في تصور أحوال العالم, بالقرن العشرين, الذي فاق ما تحقق فيه حدود خيال المفكرين والمثقفين والسياسيين الأمريكيين في ذلك الوقت, فقد توالت الاكتشافات العلمية, وتسارعت عجلة التكنولوجيا, وفتحت الموارد الطبيعية بوابات كنوزها, فجاءت إنجازات البشر في النصف الثاني من القرن الماضي - فقط - متجاوزة كل ما حققته حضارات البشر, على مر التاريخ.

          فهل يختلف الأمر - الآن - إن تمت مثل تلك المحاولة, للتنبُّؤ بما سيأتي به المستقبل?

          يرى البعض أن تلك مهمة صعبة, بل شبه مستحيلة, بالرغم من وجود أسس علمية للتنبؤ, لأن العالم, في هذا القرن الواحد والعشرين من عمر حضارة البشر, يتبدل في كل صباح, ولا يستطيع المراقب المدقق أن يحيط بما يخرج من مختبرات العلماء ومعامل ومراكز التكنولوجيا, في كل يوم تقريباً, ولا يستطيع ملاحقة تطور العلوم, التي تشعبت وتعقدت وتداخلت. ومع ذلك, يحلو لبعض الكتَّاب, من المشتغلين بالمستقبليات, أن يطلع علينا, من حين لآخر, برؤى للمستقبل القريب, لا يزيد مداها عن ربع قرن, فلا أحد يجرؤ على تخطي هذا الفاصل الزمني القصير. وفيما يلي ملخص لثمان من هذه الرؤى المستقبلية, نترك لقرائنا الحكم بدرجة (معقوليتها), وللتاريخ تقرير مصداقيتها:

  1. سيحقق المزارعون, في المستقبل المنظور, أرباحاً (من الهواء) أكثر مما تحققه لهم زراعة الأرض, فالمساحة المحدودة التي يزرعونها بمحصول ما, يجنون من ورائه ما قيمته مائة دولار, يمكنهم أن يقيموا بها مولداً كهربائياً, يعمل بطاقة الرياح, ينتج من الطاقة الكهربية ما يمكن بيعه لمرفق توزيع الكهرباء بألفي دولار!
  2. تتزايد احتمالات وقوع الكوارث الطبيعية, وتفاقم حدتها, كنتيجة لأعمال ردم وتجفيف الأراضي الرطبة - أو المستنقعات - في العالم, إذ إن أنشطة التعمير ومشروعات التنمية لا تتوقف عن الزحف على هذه الأراضي, وقد التهمت - حتى الآن - نصف مساحتها بالعالم, والمتوقع أن تأتي على نصف المتبقي منها, حتى عام 2080. والثابت, أن الأراضي الرطبة نظام بيئي له أهميته الكبيرة في إغناء التنوع الأحيائي, بالإضافة إلى تأثيره البالغ في رسم الملامح المستقرة للمناخ الأرضي, فإن حل بهذا النظام فساد, تدهورت أحوال المناخ, ووقعت كوارث طبيعية, مثل موجات القحط, واضطراب أنظمة درجة حرارة الهواء الجوي, وحوادث الفيضان, بالإضافة إلى تغير دورات الأعاصير, وتزايد حدتها.
  3. سيكون حلُّ كثيرٍ من المشاكل السلوكية بالتغذية الجيدة, وسيكون للمدارس دورها الأكبر في هذا المجال, بتقديم وجبات من الغذاء الصحي للتلاميذ, فلا يملأون بطونهم بالأطعمة قليلة القيمة الغذائية, التي يُعتَقد أنها أحد الأسباب الأساسية الدافعة للسلوكيات العنيفة!
  4. ستتزايد حدة مشكلة نقص الموارد المائية, وستعاني منها مناطق أكثر بالعالم, وذلك في العقدين القادمين, وستكون المعاناة على أشدها في المدن الكبيرة, بالبلدان النامية.
  5. ستتجاوز المزارع السمكية مكانة مرابي الماشية, في الاعتماد عليها كمورد للغذاء البروتيني. وتعتمد هذه النبوءة على حقائق إحصائية تفيد بأن أنشطة الاستزراع السمكي كانت, خلال العقد المنتهي, أسرع قطاع لإنتاج الطعام نمواً وتطوراً, بينما تعرض قطاع إنتاج لحوم الماشية لكثير من الهزات, وانتابه الركود.
  6. ستكون منازل المستقبل أفضل وأصح, من وجهة نظر الاعتبارات البيئية, حيث ستعطينا التكنولوجيا أجهزة متطورة لتهوية حجراتنا بصورة أحسن, ولتنقية مياه الشرب, ولحماية مأكولاتنا من البكتيريا, كما أن طعام المستقبل سيأتي من محاصيل زراعية تم تعديلها وراثياً, لتقاوم الفساد, وأيضاً لتكون بمنزلة (طعوم) ضد الأمراض, ترفع من قدرة أجسامنا على مقاومتها!
  7. تتزايد احتمالات أن يحتل الوقود الهيدروجيني مكان الوقود الأحفوري, في خزانات السيارات, في المستقبل القريب. وثمة شركات عالمية لصناعة السيارات تجري الآن, بالفعل, تجارب متقدمة لتطوير خلايا وقود للسيارات, تعمل على تحويل خليط من غازي الهيدروجين والأكسجين إلى طاقة كهربية محركة للسيارة, وثمة خطط تستهدف إنتاج (سيارات الهيدروجين) في مفتتح العقد الثاني من هذا القرن.
  8. مهنة جديدة, سيشهد ربع القرن الحالي بزوغ نجمها, هي (العمالة البيئية), بهدف ترسيخ اقتصاد بيئي, يتمتع بعنصر الاستدامة, فيستجيب لاحتياجات الحاضر, وعينه على الأجيال التالية, يضمن لها نصيبها من الموارد الطبيعية, وحقها في العيش في بيئة نظيفة. وسوف تقوم العمالة البيئية على استثمارات كبيرة في أعمال مثل: الاستزراع السمكي - صناعة المحركات - المزارع المنتجة لطاقة الرياح - استخلاص الوقود الهيدروجيني - خلايا الطاقة الشمسية - غرس الأشجار, بالإضافة إلى (صناعة قديمة), سيشهد المستقبل القريب استعادة رواجها, هي (صناعة الدرَّاجات)!

وجهان سيِّئانُ للعملة ذاتها!

          يعيش معنا في العالم, الآن, حوالي 780 مليون إنسان, في مسغبة, بينهم أربعون مليوناً, في قارة إفريقيا وحدها, يحيون في ظروف المجاعة, فعلاً. ومن المفارقات المثيرة للاستغراب, أن من يمتلكون الموارد المالية والمقدرة على مواجهة مثل هذه الأحوال المؤسفة, يعانون - هم أنفسهم - أعراض (الوجه الآخر) للمشكلة, فيموتون مستسلمين لمجموعة من الأمراض, لم تكن تصيب, في زمنٍ مضى, إلاَّ (زبدة) المجتمعات, من الأرستقراطيين, ذوي الأيدي الناعمة.

          والمؤسف, أيضاً, أن أعراض الجوع تتبدى, أوضح ما تكون, على الأطفال, وثمة أكثر من 153 مليون طفل في العالم, يكابدون الجوع الحاد, ويموت منهم ستة ملايين ضحية, كل سنة, جوعاً.

          ومن سخرية الأقدار, أن إنتاج العالم من الغذاء وفير, ويكفي لإمداد كل فرد يعيش على سطح هذا الكوكب بمقدار من السعرات الحرارية يصل إلى 3 آلاف كيلو كالوري, في اليوم الواحد, وهي كمية من الطاقة كافية تماماً لأن يعيش عليها الإنسان. ولكن.. وآهٍ من هذا الاستدراك, لا يملك سُدسُ سكان العالم ثمن طعامهم, إذ أن دخل الفرد منهم لا يزيد على دولار واحد باليوم, وهذا رقم أدنى بكثير من أن يوفر الاحتياجات الضرورية من الغذاء. إن هؤلاء, الذين يقترب عددهم من البليون, هم فقراء العالم, الذين لا مكان لهم, في عالم مغرم بتصنيف كل شيء, بما في ذلك البشر, والطعام الذي يأكلون, والماء الذي يشربون.

          إن هذه (السلع الضرورية) تذهب, فقط, لمن يملكون طلبها, والملاحظ - أيضاً - أن معظم سكان العالم الذين يداهمهم الموت المبكر, كانوا - فيما مضى - يموتون بسبب مجموعة من الأمراض, يمكن أن نطلق عليها اسم ( أمراض الاتصال), غير أن طبيعة تلك الأمراض, التي تقصف أعمارهم مبكراً, قد تبدلت, في العقد الأخير - على الأقل - وأصبحت أكثر التصاقاً بصفة (عدم الاتصال), أو (الانعزال). ولقد كانت هذه الأفكار تُطرح دون أسانيد تدعمها, حتى أصدرت دار للنشر بولاية ماساشوسيتس الأمريكية,أخيرا, سلسلة من الكتب, عنوانها (الأعباء العالمية للأمراض), تعد بمنزلة تقرير فلسفي عن أحوال العالم الصحية, يرصد ويحلل أعداد ومسببات الوفيات في العالم, على مدى سنوات العقد الأخير من القرن العشرين, وكان متوسط عدد الوفيات فيها 50 مليوناً, في السنة. وكانت الدراسة التحليلية لأسباب الوفيات في العالم أهم ما في هذه السلسلة الفريدة والمهمة من الكتب, التي ينوي القائمون عليها الاستمرار في نشرها, لتغطي أحوال العالم الصحية, المرتبطة بالسلوكيات الغذائية والاجتماعية والبيئية, حتى عام 2020.

          ومن النتائج ذات الدلالة, التي ترد في هذه السلسلة, التباين الواضح في نوعية الأمراض المميتة, التي تصيب كلاً من مواطني الدول المتقدمة, وسكان الدول الأقل تقدماً, ففي الأخيرة, تترتب قائمة الأمراض القاتلة كالتالي: إصابات الرئتين, وأمراض القلب, والإسهال المرتبط بمياه الشرب الملوثة, والسُل, والحصبة, والملاريا, بالإضافة إلى حوادث المرور. أما الأمراض المسببة للوفيات في بلدان العالم المتقدم, فالملاحظ أن نسبة كبيرة من حالات الإصابة بها تحدث في مراحل سنية مبكرة, وبالتالي تؤدي إلى خسائر كبيرة بين صغار السن, ويمكن وضعها جميعاً في قائمة (أمراض الوفرة), أو بالأحرى (أمراض الإسراف), وتبدأ بأمراض القلب, يليها سرطان الرئة, ثم سرطان القولون, ثم سرطان المستقيم, وسرطان المعدة, وتنتهي بحوادث الطرق, ثم مرض السكَّر. وهي, كلها, مرتبطة بمدخلات الجهاز الهضمي, أي بما يأكله البشر, وعلى نحو خاص, بالإفراط في تناول الغذاء البروتيني, والبروتينات الحيوانية على وجه التحديد, والإقبال الزائد على المواد السكرية. ويمكننا أن نقول إنها لصيقة بالسلوكيات البيئية غير الرشيدة, فالإسراف في هذه النوعيات من الطعام (المتميز) يعني مزيداً من الضغوط على موارده الطبيعية الحية, كما يمكن ترجمته إلى مزيد من المواد الملوثة للهواء والتربة والماء, تنبعث من, أو تتخلف عن, عمليات تصنيعه وتغليفه ونقله إلى مائدة المستهلك, وإلى مزيد من مخلفات المنزل - صلبة وعضوية - الناتجة عن هذا النمط الاستهلاكي, وهي كلها أعباء بيئية, لها تكلفتها العالية, إلا أن التكلفة الأعلى تتمثل في الخسائر البشرية, من ضحايا الأمراض التي تسببها تلك السلوكيات الغذائية غير الحكيمة.

          وتوضح الإحصائيات أن تلك الظاهرة لم تعد مقصورة على دول العالم المتقدم, إذ يدخل في دائرتها نفرٌ من (حديثي النعمة), في الدول الفقيرة, تدفعهم الرغبة في تعويض سنوات الحرمان إلى الاستسلام لسلوكيات غذائية ليست من طبعهم, فينساقون إلى استهلاك مزيد من اللحوم, بكل ألوانها, ومن السكريات, ويدخنون بشراهة, ويعرفون الطريق إلى الكحوليات, وكلما ازداد غناهم, تصاعدت المؤشرات الدالة على تزايد أعداد من يموتون منهم في سن مبكرة, بسبب (أمراض عدم الاتصال), حتى أنها أصبحت مساوية للمعدلات السائدة في الدول الغنية.

          وتؤدي النوبات القلبية, التي تهاجم أكلة اللحوم في العالم المتقدم, وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص, إلى وفاة شخص واحد كل 45 ثانية !, كما تقول الإحصائيات إن 50% من الرجال الأمريكيين متوسطي الحال, يتعرضون للإصابة بهذه النوبات من وقت لآخر. والثابت طبياً أنه يمكن تفادي التعرض للنوبات القلبية, بنسبة 90%, إذا خلا الطعام من اللحوم ومنتجات الألبان والبيض. واللافت للنظر, أن الإدارات الطبية في دولة عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية, لا تهتم بمراجعة الناس وتوجيههم فيما يخصُّ ارتباط نوعية طعامهم بالمشاكل الصحية التي يتعرضون لها, إذ لا يجد معظمُ الأمريكيين الأطباءَ القادرين على وصف نظام التغذية المناسب للوقاية من أمراض (عدم الاتصال), ولا غرابة في ذلك, فإن معظم مراكز التعليم الطبي في الولايات المتحدة الأمريكية لا تشتمل مناهج الدراسة فيها على مقررات دراسية تهتم بأصول التغذية !

          لقد أصبحنا - عزيزي القارئ - نولي اهتماماً زائداً بأن تكون موائدنا (عامرة), ونقترب في سلوكياتنا الغذائية, كثيراً, من هذه الحدود المنذرة بالخطر, وقد كان المتعارف عليه بيننا أننا قومٌ لا نأكل حتى نجوع, فإذا أكلنا, لا نشبع. ولعل ما طرأ على سلوكياتنا الغذائية الأصيلة من تغيرات يفسر الرواج الذي تشهده عيادات القلب في بلادنا العربية.. فهل نمتلك القدرة والشجاعة على مراجعة أنفسنا, والتخلي عن أي سلوك يشوبه الإفراط ?  لن يكون الأمر سهلاً, فإنك ستجد من يقول لك: انظر إلى آبائنا وأجدادنا, الذين عاشوا حتى التسعين أو تجاوزوها, وكانوا لا يمتنعون عن أي طعام, ولم يطلب منهم أحد أن يهجروا  التدخين. لقد واجه كاتب هذه السطور مثل هذه المعارضة, وكان يرد عليها بأن المقارنة بين أحوالنا وحالة الآباء والأجداد لا تصح, فقد كانوا متحركين, ويعملون أكثر منا, ولم تكن لديهم آلات تعمل بدلاً منهم, أو تغنيهم عن بذل الجهد, كما هو الحال معنا الآن, ثم إن طعام الأجداد كان أقرب إلى الطبيعة مما نأكله نحن من أطعمة تدخلت الآلات والكيماويات الحافظة في صنعها وإعدادها لنا.

          عجيب أمر هذه المشكلة, مشكلة جوعى العالم, التي هي الوجه الآخر لمشكلة المتخمين بأكداس الطعام, وكلا الوجهين لا يسرُّ! والأعجب, أن حلَّها بسيط للغاية, فالأرض مستودع هائل للطعام, وفيه كفاية للجميع.. كل المطلوب, أن يقرَّ سكان هذا الكوكب بأن الحصول على الطعام حقٌّ لهم جميعاً, وأنه ليس مجرد (سلعة) لا يقترب منها إلا من يملكون ثمن شرائها, ليأكلوا منها أكثر مما تطيقه طبيعة أجسامهم, فتتسبب في موتهم, بينما يموت - في الجانب الآخر - سغباً, من لا يملكون ثمن الشراء!.

 

رجب سعد السيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الماء العذب في العالم رسم فيولاكاريتي - ايطاليا





صراع من أجل زجاجة ماء صالح للشرب





سكان منطقة عشوائية بالقرب من نيروبي يشترون احتياجاتهم اليومية من المياه.. من مظاهر العوز المائي





هل يستعيد وجه الأرض بهاءه في القرن 21?





جدول أعمال طموح هدفه إصحاح العالم بيئيا





سيعطينا المستقبل القريب منازل مختلفة .. صحية ومتوافقة مع البيئة





سيكون في الغذاء الجيد الحل لمشكلة السلوكيات العنيفة





موجات من القحط تنتظر البشرية في المستقبل نتيجة لتدهور بيئة المستنقعات





أمراض القلب تحتل قمة قائمة أمراض (عدم الاتصال) العصرية





للاسراف في استهلاك الطعام تبعاته على صحة الإنسان





على الاطفال تتبدى أفدح مظاهر الجوع