ألاعيب استشراقية تعتلي صهوة الجواد العربي ورسومه

ألاعيب استشراقية تعتلي صهوة الجواد العربي ورسومه
        

          تعرض فن المنمنمات (رسوم المخطوطات), وهو الفن الذي يمثل الجانب النخبوي من تراثنا التشكيلي, إلى الطمس والتغييب والسرقة, لدرجة أن القرون الثامن والتاسع والعاشر الميلادية لم تحتفظ بأي من نماذجه, وبقيت نماذج لا تذكر تعود للقرن الحادي عشر, وكأن الورق قد بدأ استخدامه في القرن الثاني عشر فقط.

          رافق هذا التدمير السياسي الاستشراقي - الصهيوني التأكيد على أن المنمنمة الإسلامية فارسيّة, ولا علاقة لها بالعروبة أو الإسلام, حتى أن الباحثين العرب أنفسهم اليوم يكرّرون ويجترّون هذه السموم المعرفية مثل الببغاوات دون مراجعة أطروحتها الهشّة, فـ(مدرسة هيرات) وتصاوير بهزاد في العهد الصفوي في القرن السادس عشر تأخّرت أكثر من ثلاثة قرون عن التصوير العباسي الذي عرف منه في بغداد محمود بن سعيد الواسطي ورسوم مقامات الحريري, نحسّ بأن الأخيرة هي الجدة الأصيلة لمدرسة هيرات وليس العكس, وأن المنمنمات المفقودة في العصر الأموي تفضحها الحليات القرآنية الباقية, لأن رسوم المخطوطات انطلقت من أصولها كما انطلقت من بعض الشواهد الجدرانية (مثل جدر فسيفساء (الجامع الأموي الكبير) في دمشق الذي يرجع إلى نهاية القرن الثامن للميلاد). وهذا يعني - بالطبع - أن المنمنمات العباسيّة المشرذمة الباقية منها تعانق تأثيرات الأيقونة المسيحية السوريانيّة واليعقوبية والنسطرية والقبطية, إلخ...

          أما الأشد خطورة من هذا الوضع, فهو أن المتاحف العربية خالية منها, خاوية على عروشها تماماً من هذا الإرث الهائل ما عدا دار الكتب المصريّة التي تحتوي على عدد محدود. بينما هي محفوظة في متاحف تركيا (مثل طوب قابو), ومتاحف إيران (خاصة متحف طهران), وهنا نصل إلى لبّ البلوى وهو أن التدمير موجّه بالذات إلى المساحة من رسوم المخطوطات التي بالإمكان وصفها بـ(العربية - الإسلامية), خصوصا الفترتين الأموية والعباسية وبشكل أخفت الفاطمية والأيوبية والمملوكية والأندلسية.

          استفادت الصهيونية من تقاليد التدمير الثقافي للمخطوطات التي ابتدأها هولاكو عام 1258م, حين أحرق ومزّق ورمى في نهر دجلة أعظم مخطوطات ورسوم العالم الإسلامي, حتى أصبح لون مائه مثل المداد الأسود.

          ثم تسلّمت تدمير الباقي العنصرية الاستشراقية ابتداء من القرن السابع عشر حين ظهرت نظرية عرقية بالغة الخطورة تتحدّث عن الخط الهندوآري الذي يمرّ من شمال الهند (الإمبراطورية المغولية) ومن إيران وتركيا والذي يحتكر في التاريخ الإسلامي القدرة على الإبداع الفنّي, في حين أن الخط الجنوبي السامي البدوي الذي يمر من البلاد العربية جنوب البحر الأبيض المتوسط محروم من القدرة على التعبير الصوري, ثم تسلّمت المخالب الصهيونية هذه التركة لتثبت أنهم شعب دون أرض قدموا إلى أرض دون شعب ولا حتى ذاكرة ثقافية نستطيع أن ندرك بعد هذا التبسيط خطورة الأطروحة الأصولية المحلية التي تدّعي (التحريم) والتي ردّ أحكامها مفتي الديار المصرية محمد عبده. ولعل تذكر ذلك كله يأتي لمناسبة ثقافية مهمة هي معرض (الحصان العربي وفرسانه) الذي استضافه معهد العالم العربي حتى نهاية مارس 2003, وقد جمعت شواهده من ذخائر خزان تراث رسوم المخطوطات, وبطريقة ليست بعيدة عن المنطق والدعوى الاستشراقية المذكورة.

          لاحظت خلال دراستي المديدة لأسرار فن المنمنمات أن نواظمها الجمالية المخفيّة تنهل من حساسية طرز الخط العربي المتزامنة. أثبت - مثلا - العلاقة الأكيدة بين طراز قلم (النسخ) الذي كتبت به المقامات وطريقة تأويل تشريح القربان في مخطوطة (كليلة ودمنة). ثم لاحظت أن وجود رسم الحصان العربي أو الجواد الأصيل مبكرة ظاهرة وعامة, تكاد تكون أحيانا خارج متطلبات الموضوع على غرار مقامات الحريري بنسخها العشر المعروفة.

          تثبيت هذه الملاحظات يقود إلى حتمية تمايز الخصائص على مستوى الطرز والأسبلة باعتبارها جزءا متمفصلا عضوياً مع الخصائص الثقافية المتصلة بالموروث التصويري التنزيهي لحضارات ما قبل الإسلام حتى نواظم الخط العربي.

          رافق طمس ذاكرة المنمنمات السعي الصهيوني الحثيث لنزع صفة عربي من الخيل المعروف كجنس أنثروبولوجي بهذه الصفة خاصة في الولايات المتحدة التي اشترت عدداً كبيراً منها. يتناقض موقف المؤتمر مع المعرض في موضوع طمس عروبة الحصان والمنمنمة في التاريخ الثقافي الإسلامي.

          يرجع السبب إلى أن الأول يغلب عليه الاختصاص البحثي ويغلب على نشاط الثاني الهواية وتواضع الدراية والكثير من الاعتبارات والتوازنات, ثم وهو الأخطر من كل هذا الاعتماد في كل تظاهرة على المبادرات العلمية والتوثيقية التي تقدمها مؤسسات ذات سلطة لا يستهان بها مثل متحف اللوفر والمكتبة الوطنية, مع الانتباه إلى أن الأوصياء على التراث العربي الإسلامي في مثل هذه المؤسسات بعضهم ليس حيادياً أبداً حتى لا أقول معاديا للثقافة العربية.

          ولم يكن هذا الوضع قائماً في سنوات لم يكن على عروضها الأثرية والحضارية غبار.

          لاشك أن المعرض يملك كل أسباب الإثارة خاصة لمن تغريه هواية الفروسية متوجهاً إلى إغراء الجمهور العريض بهدف تعويض خسائر المعرض الأيوبي السابق (قدرت بسبعة ملايين فرنك فرنسي). ما يهمنا من مادة المعرض هو الجانب التوثيقي الذي لا يقدر بثمن, فقد اجتمعت لأول مرة فيه منمنمات ومخطوطات بالغة الأهمية بما فيها رسوم مخطوطة (شاه نامه) من متحف طهران, هي الصفحات المرسومة التي قايض عليها الإيرانيون متحف (متروبوليتان) في الولايات المتحدة مقابل لوحة للفنان الأمريكي وليام كوونينج. تشير هذه الواقعة إلى مدى استخفاف المتاحف الغربية بقيمة المخطوطات والرسوم مهما كانت قيمتها التوثيقية كبيرة, ومن يحضر المزادات العلنية في لندن وباريس وسواهما يشيب شعر رأسه من خصوبة المخطوطات النادرة التي تباع في سوق النخاسة بأبخس الأثمان بسبب كثرة العرض, والعرب يعيشون في سبات ذاكرتهم وهم من أشد الشعوب تعصبا للتراث, ولكن هذه العصبية تلتقي بالنتيجة مع الاستراتيجية الاستشراقية والصورة الفولكلورية التي لفقتها عن تصحّر عالمنا من كل ما هو مضيء بما فيه الجواد العربي والرسم والتصوير التشخيصي.

الحصان وسموم الاستشراق

          يصف المؤرخ اللبناني يوسف إبراهيم يزبك في كتابه عن الجواد العربي بعض مستشرقي الحصان بقوله: (هو جهل مضروب بادعاء, لا يخلو بعضه من جفاء ولم أقل من حقد). ثم يذكر بلوى الذين جاءوا إلى الشرق العربي بنية الاتجار بالأحصنة ونشروا بحوثاً مسطحة لا تربط الحصان ببعده الحضاري وفروسيته العربية, أما مواقع الرباطات والمرابض فلا تعني بالنسبة إليهم سوى مادة لشراء أمهاره. كل يحصر الميزات في حصان الموقع الذي يشتري منه, فالروس والأتراك يمتدحون حصان شمّر والفرنسيون يقفون مع الحصان الشامي والإنجليز خيول نجد, متناسين أن القبائل العربية متداخلة بين العراق وسوريا والجزيرة العربية.

          احتل في المعرض المشار إليه ما يقرب من نصفه لوحات المستشرقين من دولاكروا إلى مورو مروراً بفلومارتان وشوسيرو وسواهم, لوحات رافقت هوى نابليون بونابرت بالحصان العربي الذي كاد يمنع احتلاله لمصر, وتعلق بركوبه وحرص على نقل أنساله إلى فرنسا, وكانت أجناسه تسربت قبل ذلك عن طريق الأندلس, وهو نوع من الحصان العربي المغربي الذي خصص له المعرض فيلماً يعرض طوال الوقت, سُمّي (بارب) نسبة إلى القبائل البربرية التي تربيه, خالقاً تنافساً مفتعلاً مع الحصان العربي, وذلك بتفضيل خصائصه عليه دون ذكر القرابة التوأمية بينهما.

          كان الأحرى أن يستبدل بالحصان الاستشراقي صوره في الفن العربي المعاصر ابتداء من مدرسة بغداد: فائق حسن وجواد سليم وكاظم حيدر وانتهاء بالمدرسة الدمشقية وفنانها الشعبي أبو صبحي التيناوي أو برهان كركولي وعلواني وشلبية إبراهيم (المختصة بالبراق), أو المدرسة المصرية من أمثال جمال السجيني أو اللبنانية من أمثال رفيق شرف أو الفلسطينية لدى مصطفى الحلاج أو المغربية كما هي لدى الفلاوي ويوسف سعيد وغيرهم كثير. فقد غلّب هذا القسم روح الاستشراق السلبية حتى اعتلت صهوة (الجواد العربي), وهي الصفة التي تكاد تكون مقتصرة على العنوان فقط وعمل المعرض جهده على مسح بصماتها بكل الوسائل, وهذا غيض من فيض:

          يتناقض في المعرض التفوق الفاضح لكمية النماذج الإيرانية ثم المغولية والعثمانية على الأمثلة المصرية - السورية - العراقية - الأندلسية, أقول يتناقض حتى مع الإحالات العلمية في المعرض التي تشير إلى المصادر العربية الإسلامية الأولى. أي منذ رسوم (كتاب الحيوان) للجاحظ (القرن التاسع للميلاد) ثم الفترات العباسية والفاطمية والأيوبية والمملوكية (وهي أخصبها), والتي تحفل بأمهات المراجع من مثال رسوم (كتاب الأغاني) (1210م) لأبي الفرج الأصفهاني ورسوم كتاب (منافع الحيوان) لابن بختيشوع (1058) ورسوم كتاب (عجائب المخلوقات) للقزويني من القرن الثالث عشر وكتاب الصوفي (صور الكواكب الثابتة), و(كتاب الخيل) لابن الكلبي, وكتاب (البيطرة) لابن الأحنف من القرن الثاني عشر وكتاب (حلية الفرسان) لابن حظيل, وكتاب ابن الطرابلسي وعشرات من رسوم رمي النشاب والاستعراضات وضرب الصولجان (البولو) الذي يفرّق بين الفروسية الحضرية (الفتوة) والفروسية الجهادية, ثم كتاب (المخزون في جامع الفنون) لابن خزام من القرن الرابع عشر وكتاب (الزردقة في معرفة الخيل), بل إن المعرض يطنّش عن ذكر مواقع بعض رسوم هذه المخطوطات المعروضة كما هو أمر الصفحات الست المرسومة من كتاب (البيطرة) (معرفة الحصان وأصوله وأمراضه... إلخ). عرضت عارية من التعريف والإحالة وكأنها قادمة من كوكب ملتبس.

          لو انتهينا إلى ما ختم به المعرض لتكشّف لنا هذا (الالتباس), فقد عُلّق على الجدار الأيمن صورتان عملاقتان عن أحصنة رسوم مخطوطة شاه نامة من القرن السادس عشر وعرضت الأصول في واجهة زجاجية, وبالمقابل فقد كتب على الجدار الأيسر شرح بارز لعدد من رسوم مخطوطة مقامات الحريري المشوّهة التي ترجع إلى بداية القرن الثالث الميلادي, أي أن موقعها يناقض السياق التاريخي للعرض, ناهيك عن أن المكتبة الوطنية تملك النسخة الشهيرة للواسطي التي رسم فيها المقامات ورسم الحصان مرات عدة. يشرح هذا النص الملتبس فيما يشرح التعصب الذي يقع خلف هذه التشطيبات التي تقطع رءوس الأحياء بطريقة فضائحية. .

مردم يعيد للحصان هويته

          إن مشاركة مثقف عربي ولأول مرة هو فاروق مردم بك في بحوث الكتاب المرفق تكشف الفرق بين الاستلاب الاستشراقي الذي يمثله مسئول المعرض جان بيير ديفار, والثقافة الشمولية الهادئة والمنهجية التي يمثلها فاروق, فقد أعاد الاعتبار إلى عروبة الحصان العربي. ورغم أنه يعمل مستشاراً في المعهد (بعد تسلمه مسئولية المكتبة العامة) فإن صوته الكتابي يُسمع لأول مرة. وإذا كانت موضوعاته الثلاثة التي عانقها الكتاب لا تتجاوز سبع صفحات من أصل ثلاثمائة صفحة تحفل بركام الاستشراقات غير المختصّة, فإنها كانت ردّا غير مباشر على دعوة مشرف المعرض الأنثروبولوجي ريفار, بأنه لا يوجد علم أنساب للحصان العربي وسواها من أسباب تعرية الحصان العربي من صفاته الثقافية. تحالف مع هذا المسعى الاستشراقي عدد مجلة (قنطرة) التابعة للمعهد هي التي استبدلت على غلافها باسم (الحصان العربي) اسم (الحصان الشرقي). وافتتحت موادها الداخلية بمقال لأوليفيه فوجرات يطرح فيه سؤال النفي حول (معنى العروبة) بشكل عام من الناحية القوميّة والديموغرافيّة. متجاوزاً ببساطة وحدة اللغة الملغاة في بعض أقسام المتحف ومؤكداً على وجود اليهود البربر الذين بلغوا عام 970م المليونين ودون حساب من دخل منهم الإسلام في العهد الأندلسي. تعتبر إذن مشاركة فاروق الأولى من نوعها بسبب الاستبعاد المزمن للمختصين والمثقفين العرب في مثل هذه التظاهرات الباذخة, وذلك رغم كثرتهم في المحافل العلمية الغربية نفسها مثل مؤتمر أصفهان المذكور وخصوبة مساهماتهم في السنوات المعهديّة الأولى.

          يتحدث يزبك نفسه (الذي لم يتعرف على كتابه المعهد) عن الخطأ الاستشراقي الشائع بأن الخيول الأصيلة لا تباع إلا تحت خيام البدو بأنه خطأ فادح لأن الاعرابي يتخلى عادة عن مهره بعد فطامه, فبقاؤه يكلفه ما لا طاقة به. فبيع المهر الذكر بعد ستة أشهر والإبقاء على الأنثى هدفه الحفاظ على النسل, فالجواد العربي لا يبلغ أشدّه إلا بعد سن الخامسة من العمر. ثم إن الازدهار في الأربطة غير ثابت يتنقل مع الأيام من مركز إلى مركز ومن موقع إلى آخر, ويسوق على ذلك مثال (اليمن) التي استقطبت الأنساب الأصيلة لفترة ثم هاجرت هذه الصفة إلى خارج حدود اليمن.

البحث عن أصول الجواد العربي

          من المنطقي أن يتقصّى المعرض أصول الحصان العربي من خلال الآثار الباقية لحضارات العرب البائدة في عمق الجزيرة العربية والعراق وسوريا ومصر, ولكنه يتيه (عن قصد أو غير قصدّ) بين هذا المسعى العمودي والمختص بجنس بعينه, وبين مراجعة الأصول الأنثروبولوجية للحصان بشكل عام. فقد تمّ التلاعب على الاختلاط بين مصطلحين علميين: الأول أنثروبولوجي متعلّق بخصوصية (الحصان العربي) والثاني جمالي عام هو (الفن الإسلامي), رسم هذا الاختلاط مخطّط مادة المعرض إجمالا, كما هو الأمر في اختيار رسم الإعلان المنتشر على مساحة هائلة من جدران أنفاق المترو, ممثّلا حصاناً مغولياً هجيناً مرسوماً في مخطوطة من القرن السابع عشر, فهو أبعد ما يكون عن عنوان المعرض بخصوص عروبة الجنس وأبعد ما يكون عن خصائص الفن الإسلامي, بل هو أقرب إلى تقاليد التصوير الهندي. يرسّخ هذا الالتباس (سواء عن سوء نيّة أو تواضع معرفة) ما أشار إليه قوميسير المعرض والمتحف حين يصف هذه الأصول بأنها مرتبطة في اختيارات المعرض بالتقاليد الأثرية (البدوية - التركية - المغولية - الفارسية). وهكذا كانت ندرة النماذج العربية لدرجة التغييب والتغليب الصريح للنماذج الإيرانية. وهو ما نلمسه أصلاً في العروض الدائمة للمتحف وبما يتناقض مع عنوان (المعهد العربي).

          وهنا تبدو أهمية ما كتبه فاروق مردم من إقراره مثل أغلب المراجع العربية المعروفة باعتماده في الأصل الروحي أو الثقافي على حديث الصحابي ابن العباس في إرجاعه بداية تأهيل وترويض الحصان إلى عهد النبي إسماعيل.

          وحسب الأصول المعاصرة أن  الحصان العربي كان متمركزاً في جبال نجد (في قلب المملكة العربية السعودية اليوم), لذا فإن الكاتب مردم يعود به إلى حوالي القرنين قبل الإسلام ليربطه بالشعر والفروسية الجاهلية, وذلك بحثاً عن أصوله الثقافية القبلية في عمق الجزيرة العربية.

          اعتمد الكاتب مردم على مراجع صلبة خاصة كتاب: (نسب الخيل في الجاهلية والإسلام) لابن الكلبي, وقد اعتمده يزبك أيضاً (إلى جانب (كتاب الخيل) للموسوعي الأصمعي). معتبراً ما كتبه هذا النسابة من أشد الأسانيد صدقية.

          فالخيل لغوياً من الاختيال في المشية, والجواد من الجود والكرم, ويكاد العرب يسقطون إنسانيتهم على رفيق عمرهم الجواد, وذلك من خلال دعوة أعضائه بالأسماء والصفات البشرية نفسها, من فم وعين وأنف وذراع وركبة وجدائل... إلخ. تكشف بعض الصور والأمثال الشعبية هذا التراكم, يقال إن الحصان العربي (طائر بلا أجنحة, وعن الشخص المقدام: (لا يُشقّ له غبار), و(لكل جواد كبوة), و(الخيل أعلم من فُرسانها)... إلخ. ويقال إن الحصان هاجر من الجزيرة العربية إلى مصر عن طريق الهكسوس في القرن السابع عشر ق.م. (الرعاة والعجلة)...

          يذكر إحصاء عام 1965م أن الجزيرة عرف فيها أكثر من ثلاثمائة فرس أصيل من الدم العربي, وكان منها خارج الجزيرة سبعون فقط, منها سبع وأربعون في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن هذه الأرقام تغيّرت كثيراً بعد حوالي عشر سنين, فإحصاء عام 1977م يذكر امتلاك الولايات المتحدة لعشرة ملايين حصان منها مائة ألف حصان عربي. وهو ما يكشف كثافة سعي اللوبي الصهيوني لخلع نعته بالعربي وذلك بوضع أصوله في ضباب استشراقي, فيقال شرقي كما سمته مجلة (قنطرة), وهنا يقع غير المختص في مصيدة إنسابه إلى معجزات سليمان وداود إلى آخر الأسطوانة الخاصة بمملكة يهوذا.

          لاشك أن الحصان العربي وصل تركيا منذ أوائل القرن السادس عشر للميلاد خاصة خلال حكم السلطان سليم الأول الذي أُهديت إلى انتصاراته على مماليك ديار الشام عام 1516م, العديد منها بما يربو على ثلاثمائة جواد. وتعتبر تركيا حتى اليوم من المرابض التي تعانق أجمل الأصائل. لاشك بأنه دخل أوربا قبل ذلك عن طريق الأندلس. استخدم طارق بن زياد واحداً من أجناسه المغربية في حملته. وأطلق عليه الفرنجة لقب (بارب) نسبة إلى البربر. وخصص له ضمن هذه النظرة الاستشراقية فيلم خاص في المعرض يعرض على الدوام وكأنه غريم أو منافس ملفّق للحصان العربي.

الأنساب ومواصفات الجواد العربي

          يبدو أن أول أوربي اقتنى جواداً عربياً هو القنصل البريطاني في دمشق عام 1705م وسمّاه عنترة.

          ذكر في كتاب كارل راشوان عن (الخيول العربية). وذلك قبل أن يشتري منه بونابرت أثناء حملته على مصر عام 1803م ما يقرب من ثلاثين فرسا. وهكذا انتشر الحصان العربي في أوربا, وكان لابد من ضبط أنسابه حتى لا يتهجّن ويختلط بغيره من الأجناس, هو ما حصل مع الجنس المعروف بـ(العربي المتأنجلز), يقال إنه تهجّن في فرنسا أولاً عام 1820م

          باعتماد الكاتب مردم بك على ابن الكلبي وبعض اللغويين خاصة الأصمعي (كتاب الخيل) وابن سيده (كتاب المخصّص) استطاع أن يوحّد (علم الاشتقاق) اللغوي بما يخص الحصان العربي ليصل إلى ثوابت مصطلحات (علم الأنساب) مؤكداً أن نسبة أصل الحصان ونبل دمه بالنسبة إلى العرب أهم من جماله, مشيراً إلى بعض الاشتقاقات والمواصفات ذات التورية والترميز إلى الماء أو الريح أو الطير من أمثال: اليعبوب وأعرابي, الحجوم والبحر والغمر والفرخ والمطهّم والأصهب والكميت والأشهب إلخ... والكميت هو الأحمر المائل إلى السواد والأشهب الأبيض الشعر, أما العرب فيفضلون الأشقر.

          يتوصّل مردم بك من خلال هذه الاشتقاقات إلى أن أصول سلالته تعتمد على ثوابت تشريحية متوارثة ومحدّدة من خلال مكتبة كاملة من المؤلفات على تنوّع درجات مصداقيتها. فمن هذه الصفات مثلاً: أن يكون الفرس العربي كحيل العينين, رهيف الشفاه والفم والأنف, متسع الفتحتين فيه للتنفس, وافر اللعاب, وأن يكون وبره حليقاً, زغبه ناعم الملمس, أما الخصلات فمجدولة وافرة منسابة, والعنق طويلة ومتينة, وغضروف ما بينها وبين الصدر ناتئ, والأكتاف شامخة متباعدة, والصدر رحب في امتداده الأفقي, أما الأيدي فقصار والركبة نحيلة, والسنابك ثقيلة ومتوازنة, كذلك من الواجب أن تكون الأفخذ والوركان متسعة... إلخ.

          عرف عن الحصان العربي أنه يعيش ويعمّر أكثر من غيره متجاوزاً الثلاثين عاماً, ويظل شاباً في همته حتى ما بعد ذلك. كما عرف بسرعته كما هي بلاغة بيت الشعر:

لا تستطيع الشمس من جريه

أن ترسمه ظلاً على الأرض



          ولكنه جري يعتمد كما هي تقنية الحرب على (الكر والفر) كما يقول امرؤ القيس:

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معاً

كجلمود صخر حطّه السيل من علٍ



           واستمرت في الإسلام هذه العلاقة الأخلاقية بين الفرس والفارس مع (حروب الردّة) والفتوحات ونقل البريد والفتوّة وفنون الاستعراضات والخطط الحربية الشاسعة, كما استمر السعي الحثيث في تأصيل الحصان العربي وعدم تهجينه حتى أن أشعار ابن ربيعة تعتبر الفرس العربي نوعاً من التوارث والتوريث من الجد إلى الحفيد عبر الأب والابن. وهكذا ظلّ رمزاً للفروسية, هو ما يعبر عنه بالتورية الدارجة:

          (الفرس من الفارس والمكان من المكين), وليس أدل على استمرار روح المفاخرة به من قول الشاعر المتنبي:

الخيل والليل والبيداء تعرفني 

 والسيف والرمح والقرطاس والقلم



       لعله إشارة إلى الارتباط الثقافي الحميم بين الكتاب والفرس ما يقوله في بيت مقابل:

أعزّ مكان في الدنى سرج راكب 

وخير جليس في الزمان كتاب



           في المقالة الثالثة التي لا تتجاوز الصفحة الواحدة حول صورة الحصان العربي في القرآن والسنّة يتوصّل مردم بك إلى أن أغلب اشتقاقات صفاته اللغوية في الإسلام مرتبطة بالجهاد كما هي الآية الكريمة:

وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم .

          فات الكاتب والمعرض الأحاديث الشريفة وتعلّق الرسول الكريم بجياده العربية التسع عشرة, لدرجة أن أسماءها أصبحت نوعا من السنّة لدى الفرسان العرب المسلمين, وهذا غيض من فيض:

          عن عمر بن عبدالعزيز قال أُثبت لي عن رسول الله أنه قال:

من كان له فرس عربي فأكرمه أكرمه الله تعالى, وإن أهانه أهانه الله تعالى (ص 173). وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله: الخيل ثلاثة, فرس للرحمن, وفرس للإنسان, وفرس للشيطان, فأما فرس الرحمن فالذي يرتبط في سبيل الله, وأما فرس الإنسان فالذي يرتبطها صاحبها يلتمس بطنها, فهي ستر من فقر, وأما فرس الشيطان فالذي يقامر عليه .

          حفظت لنا مراجع السنّة أحاديث كثيرة تحضّ المسلمين على تربية الفرس حتى أصبح جزءاً من الدعوة والشريعة. وهكذا صار حكام الديار الإسلامية يقتنون الجياد من أجل الجهاد امتثالاً لإرشاد الرسول (صلى الله عليه وسلم). وصار عدد الخيّالة ذا شأن, واستعيض عن الرهانات والقمار (التي قادت إلى حرب (داحس والغبراء)) بـ(ألعاب الفروسية) وانتظام الخيل وضروب تعليمها, يحفل المعرض بعدد من المخطوطات التي ترسم خطط الاستعراضات المعقدة التي تعكس الخطط الحربيّة وبنفس نظام (الكر والفر) المتقدم تقنياً. وانتشرت خاصة في العهود المملوكية بعض الألعاب الاستعراضية مثل لعبة (الدبوق والصولجان) المعروفة في أوربا باسم (البولو).

          وكتب الفرسان الرمّاحون الكثير من الكتب العلميّة في هذه الفترة على غرار كتاب (علم الفروسية) لبدر الدين يكتوت, و(كامل الصناعة في علم الفروسية والشجاعة:) للطف الله, وكتاب في علم الفروسية ولعب الرمح والبرجاس وعلاج الخيل ولعب الدبوس) للخزندار الظاهري, ثم (نهاية السؤال والأمنية في تعلّم أعمال الفروسية) للحنفي الأقصرتي, ثم (كتاب الفروسية والمناصب الحربيّة) لنجم الدين الأحدب, أخذ أغلب ما فيه من كتاب: (المخزون لأهل الفنون) لناصر الدين بن الطرابلسي. ثم كتاب (فنون علم الفروسية والترجالة بالدواب واحوالها).

          وتطوّرت علوم (البيطرة) الخاصة بالعناية الطبية بأنواع الخيل من أمثال كتب أبي بكر البيطار: (كتاب عن علم الفروسية). و(كامل الصناعتين في البيطرة والزرطقة), ثم (قصر السيل في أمر الخيل) لسراج الدين البلقيني.

          وليس أدل على العلاقة الروحية بين الثقافة الإسلامية والحصان من رمزيّة تسامي صورته في هيئة (البراق) الذي أسرى بالرسول ثم عرج به إلى السماء السابعة فوق بيت المقدس.

          نقل المسعودي عن عكرمة عن مولاه ابن عباس ما يشبه هذه الرواية من أنه لما خلق الله آدم قال: يا آدم أي الدابتين أحبُ إليك? الفرس أم البراق? فاختار آدم الفرس وقال يا رب اخترت أحسنهما وجهاً .

          تقع ملحمة الحصان العربي ما بين داحس والغبراء والبراق, ما بين غزوات بني ذبيان والعبسيين من جهة, وحروب الردة حتى الفتوحات ما بين الهند والأندلس من جهة أخرى. لقد أسقطت (أنثروبولوجية) معرض الاستشراق جناحي العروبة والإسلام عن الجواد والمنمنمة معاً فتحولا إلى سياحة تهويمية تقسّم مالا يقبل القسمة من أجل تخدير ذاكرة الثقافة. وفي عهد بلغ فيه نُعاسنا وخمولنا نوام أهل الكهف.

 

أسعد عرابي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مقامات الحريري .. من الشواهد العربية المشوهة في المعرض على ندرتها





(كتاب الزردقة في معرفة الخيل وأجناسها وأمراضها وأدويتها). يكتنف الغموض هذه المخطوطة العربية مثل غيرها. رغم أصالة الرسم ووضع الجواد مع المهر الصغير.





صفحة بارزة في المعرض من مخطوطة (شان نامه) 1530 - مظفر علي





صفحة اخرى في المعرض من مخطوطة (شاه نامه) 1530-مظفر علي.





شاسيريو - الحصان العربي.





أوجين دولاكروا - الحصان العربي - القسم الاستشراقي في المعرض





حصان مشكّل من الخطوط العربية في الهند - القرن السادس عشر.





المدرسة المغولية في الهند - نهاية القرن السادس عشر