بنغازي حديقة التفاح

بنغازي حديقة التفاح
        

          تساؤلات كثيرة ظلت ترافقنا ونحن نجوب أرجاء ليبيا, حيث الولع بالفرادة طاغ, حتى لو اتخذ الغناء فيه مساحة الفضاء. غيرة شديدة على العروبة وغضب أشد, حتى إنه يصل في بعض الأحيان إلى استدعاء الحنين إلى الأفرقة, نظام جماهيري وحيد, ومسمّيات مختلفة لتفاصيل حياتية لا شبيه لها, وكنوز أثرية وتراثية متروكة, وزخم إبداعي هائل لا يسعى لتقديم نفسه للآخرين, فهل هو الولع بالدهشة... حتى ولو لم تشارك بقية العصافير في الغناء? هي ليبيا إذن, تلك التي لا يعرفها إلا من زارها, ومن يستطيع إزاحة كل تلك الغلالات التي تراكمت في الذاكرة, من هنا كان للرحلة إحساس البكارة. ودهشة الغوص في بقاع ظلت تستهويها المراوغة, وتستعذب الابتعاد عن الصخب, زهدا ونأياً.

          ظل اسم ليبيا المكون من ست كلمات, عصياً على الذاكرة, وقد حاولت كثيرا حفظه مرتبا, لكن الأمر ظل خارج نطاق السيطرة, كنت أرى الليبيين يرددون الاسم (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى), ولكن بالنسبة للقادم الذي يستسهل اسم (ليبيا) فقط, كان الأمر مختلفا, وحين أسررت بهذا إلى أحد الذين تقابلنا معهم دلني على طريقة يتم بها تقسيم الكلمات الست إلى حروف البداية الأولى من كل كلمة, فتحولت المعضلة إلى كلمتين اثنتين هما (جعل شاع) فيسهل الحفظ وهو ما حدث معي حتى مغادرتي ليبيا عائدا من حيث أتيت.

بكارة الرمال

          منذ أن قرأت رواية (المجوس) بجزأيها الأول والثاني, ولدي ولع بزيارة منطقة جبال أكاكوس الليبية التابعة لولاية (جات) والواقعة في الغرب على الحدود الجزائرية, فقد كانت معلومات قليلة تتناثر متحدثة عن نقوشها المحفورة في الجبال منذ خمسة آلاف من السنين ومازالت باقية حتى يومنا تقاوم عوامل التعرية وقسوة الأزمنة, كما كانت الأجواء الغرائبية الساحرة التي حملتها تلك الرواية الرائعة محرّضة بين الحين والآخر على خوض تلك المغامرة الآسرة, لكن حين وصلت ليبيا مع زميلي, كان الأمر مختلفا تماما, إذ من الصعب إتمام رحلة كتلك في وقت قصير كهذا الذي تتيحه أيام الرحلة المحدودة, فقد كان علينا أن ننتظر أياما عدة كي نتمكن من العثور على طائرة تابعة للطيران الداخلي الليبي تنقلنا إلى ولاية (غدامس), ثم من هناك كان علينا أن ننتقل بإحدى السيارات في طريق رملي شاق لمسافة تزيد على الأربعمائة كيلومتر لنصل إلى تلك المنطقة التي  يقتسم جبالها اللونان الأسود والأبيض, لكن المشكلة لم تكن في طول الطريق ولا وعورته, بل في الطائرة التي لم تكن مواعيدها منتظمة, في الوقت الذي كان علينا فيه, إن ذهبنا إلى هناك, أن ننتظر على الأقل أسبوعا كي تأتي الطائرة لإعادتنا, وفي أحيان كثيرة, ونظراً لعدم انتظام الرحلات الجوية فإن الانتظار قد يطول لأسبوعين وربما ثلاثة في هذا المكان.

          كان هذا ما دفعني آسفا لغض الطرف عن ولع يغوي برؤية تلك الأماكن التي برع الروائي الليبي إبراهيم الكوني في الكتابة عنها بعشق, لكن ما كان مفاجئا حقا, هو اكتشاف أن معظم من قابلناهم من أبناء الشعب الليبي, في المنتديات الثقافية والوسائل الإعلامية, والبشر العاديين الذين صافحنا ودّهم في شوارع المدن الليبية ومقاهيها وأسواقها, كانت معلوماتهم عن منطقة جبال أكاكوس الساحرة شحيحة للغاية, وفي غالب الأحيان شبه معدومة, رغم أن تاريخ هذه المنطقة ونقوشاتها البديعة المحفورة فوق الصخور تعود إلى عصور ما قبل التاريخ, وتشكل أكبر متحف طبيعي عرفته الإنسانية, الأمر الذي يمكن لليبيا, لو استطاعت ترتيب البنية الأساسية للسياحة, أن تجعل من هذا المكان الساحر في غموضه والشامخ دهوراً في وجه عوامل التعرية, مزاراً  يجتذب إليه هواة الرحلات الصحراوية والباحثين عن الحضارة وعظمة التاريخ.

          لعل هذا ما نقلته تحديداً لأمين عام الهيئة العامة للسياحة في الجماهيرية المهندس البخاري سالم جودة حين حدّثنا كثيراً عن عملية التخطيط السياحي التي بدأت منذ عام 1995 فقط, وعن الإمكانات الواعدة لليبيا خصوصا في (أكاكوس) حيث مناطق الإنسان الأول تعج بالنقوش الملوّنة وغير الملوّنة لفيلة وغزلان وحيوانات آل بها الحال إلى الانقراض, إضافة إلى ما يوجد بها من آلات كان يستعملها الإنسان في زمنه السحيق, وهي منطقة باتت محمية طبيعية وصفتها منظمة اليونسكو بأنها أكبر المحميات المفتوحة في القارة الأفريقية. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا فالصحراء الليبية هي أكبر صحراوات منطقة البحر المتوسط, وقد أتاحت الجبال الرملية فيها, ابتداع فكرة (السياحة الصحراوية) وفيها يجد المرء وسط المناطق الجبلية الرملية بحيرات مائية تدور حولها غابات من النخيل كما في منطقتي (قبر عون وداوادة) إضافة إلى الواحات القديمة جدا والتي تم تسجيلها في سجل التراث العالمي مثل (غدامس) و(جات).

          المسئول عن السياحة أكّد لنا أن ليبيا من خلال دراسات عالمية محايدة هي بلد سياحي واعد جداً, إذ إن الشاطئ الممتد على ساحل البحر الأبيض المتوسط لايزال غير مستغل, في الوقت الذي يحفل فيه بالأماكن الصالحة للغوص, ومناطق الخلجان, فيما قاعه مزدحم بالآثار التي مازالت كامنة في العمق, مشيراً إلى أن منطقة (سوسة) مثلا يقوم فيها غواصون فرنسيون في الوقت الحالي بالبحث عن باخرة غارقة منذ 80 سنة.

          وفيما يؤكد على أنواع أخرى من السياحة منها (الرملية), والدينية حيث مرت على ليبيا الحضارات الرومانية والفينيقية واليونانية وغيرها, وحيث تعد سبراطة وشحات دليلاً على ذلك, فإنه يرى أن (السياحة الثقافية) أو ما يطلق عليه (سياحة النخبة) تتطلب تكاملا بينياً مع تونس ومصر.

          ولعل ما ذكره لنا الأستاذ الجامعي المتخصص في الآثار الدكتور عبدالسلام شلوف يشير إلى ذلك, فليبيا تضم في (وادي درنة) كهفا يطلق عليه (حقفة الحاج كريم) مازالت أدوات الإنسان الأول موجودة فيه, وفي مكان يطلق عليه (كارسة) توجد نقوش ذلك الإنسان محفورة فوق صخور (كهف رقبة الجمل), أما (كهف افتيح) الذي يقع قرب سوسة فإن عالما بريطانيا يدعى (ماك برني) أثبت أن الإنسان الأول وجد فيه منذ 95 ألف سنة قبل الميلاد, وقد أصدر هذا العالم كتابا حول ذلك, كما أن منطقة (شحات), التي تناولتها مجلة (العربي) في العدد (520) الصادر في شهر مارس عام 2002, وجدت بها أدوات حجرية منذ ما قبل التاريخ في (كهف المقرنات), كما وجدت بها أيضا مثل هذه الأدوات في (كهف حقفة الطيرة) الواقع قرب بنغازي و(بئر دوفان) في طرابلس.

تنوع ثري

          وليبيا ليست مجرد دولة لديها ثراء هائل في الآثار القديمة فقط, بل إنها شديدة الغنى في ذلك التنوع الذي تحتويه أراضيها من شواهد تنتمي إلى حضارات متعاقبة منها الفينقية والإغريقية والرومانية إلى جانب الحضارة العربية والإسلامية, في الوقت الذي توجد فيه بعض أجمل مدن العالم الأثرية, كمدينة (لبدة الكبرى) التي تسمى أيضا بـ(تدمر القديمة) وهي تقع على بعد ساعة واحدة من العاصمة طرابلس, كما تضم أيضا مدينة (سبراطة) التي تحتوي على مسرح أثري شهير وهي أيضا تقع على مسافة نصف ساعة بالسيارة من طرابلس, بالإضافة إلى مدينة (طلميثة) القريبة من بنغازي والتي تعود إلى عصر البطالمة, و(طبرق) و(شحات) وهما مدينتان تقعان شمال بنغازي أيضا, وتكتنزان بأعداد هائلة من الآثار القديمة, وإلى جوارهما مدينة (سوسة) على شاطئ المتوسط, فيما لاتزال في واحة (غدامس) الواقعة في (فزان) نقوش ورسوم محفورة في الصخور تعود إلى ثلاثة آلاف سنة, أما المساجد فهي تنتشر بطول الجماهيرية وعرضها, ويعود عدد منها إلى أيام الفتح الإسلامي الذي جاء إليها على يد عمرو بن العاص في العام 642م, ثم استكمله عقبة بن نافع حين دخل عدداً من المناطق التي لم تكن قد خضعت لسيطرة الإسلام.

أراض سبخة

          ومع أن الغالب الأعم في الآثار التي تحتويها ليبيا يعود إلى تلك الأزمنة التي عاش فيها الإنسان الأول, وكذلك العصور التي سبقت ميلاد السيد المسيح والقرون التي تلتها, فإن الشواهد على عظمة الحضارة الإسلامية مازالت بازغة, وقد وجدناها تتوزع بين العديد من مدن ليبيا, لكن الغريب أن بنغازي التي قضينا فيها أياما عدة وجلنا في شوارعها وأزقتها, وجسنا أسواقها ومبانيها الحديثة الجميلة المطلة على بهاء المتوسط بزرقته الرائعة, لم نجد فيها آثاراً إسلامية على الرغم من أنها الأقرب إلى الشرق الذي وصلت عن طريقه الفتوحات الإسلامية إلى بلدان المغرب العربي, وعندما سألنا عن السبب, بطل تعجبنا حين عرفنا أن (أجزاء كبيرة من أرض بنغازي ذات طبيعة سبخة, وهذه النوعية من التربة لا تحتفظ عادة بالآثار) وكم كان الشعور بالألم وقتها, إذ إن شواهد رائعة على حضارة باهرة قد أخفتها تلك الأرض فاندثرت.

          فبنغازي التي رأيناها في صورتها الحديثة حيث الشوارع متسعة تحيطها وتخترق أوسطها شبكة رائعة من الطرق, تحكي كتب التاريخ عن أنها كانت مشيّدة عندما تم تأسيسها في الربع الأول من القرن السادس قبل الميلاد كمدينة يونانية قديمة, فوق مرتفع من الأرض يطلق عليه في الوقت الحاضر (سبخة السليماني) وتوجد بها (مقبرة سيدي عبيد), وكانت هذه السبخة في زمنها القديم عبارة عن بحيرة عميقة, حين تم تجفيفها تحول سكانها عنها متخذين مكانا قريبا من ساحل البحر الأبيض المتوسط, وهو المكان الذي يطلق عليه حاليا (سيدي خريبيش) وتوجد فيه مقبرة تحمل هذا الاسم, في الوقت الذي استطاعت فيه أرضه الاحتفاظ ببعض البقايا الأثرية, لكنها في كل الأحوال لم تكن بنفس حجم الآثار التي كان يتوقع وجودها في مدينة مثل بنغازي شهدت العديد من الأحداث المهمة في التاريخ, ومر عليها عشرات الغزاة والمقامرين والفاتحين, واختيرت مركزا للحكم ونقطة ارتكاز مهمة في معظم العصور.

          وعلى الرغم من أن معظم المدن التي كانت ساحة مفتوحة لحروب القادمين وغزواتهم في الزمن القديم تظل مبقية على الكثير من الشواهد, إلا أن بنغازي تبدو مغايرة لتلك العادة, ولعلنا حين قطعنا شوارعها وأسواقها - ما قدم منها وما استحدث - لم تنفذ إلى أنوفنا رائحة ذلك العبق العتيق الذي يغلف الكثير من المدن, فقد كانت مظاهر الحداثة هي الغالبة, اللهم إلا في عدد من الأماكن منها الأسواق القديمة كسوق (الظلام) الذي كان قبل سنوات غير بعيدة يغلق أبوابه فور غياب ضوء الشمس, فيما كان سقفه المغطى, والذي لايزال كذلك حتى الآن, كافيا لحجب أي ضوء خارجه, لكننا حين دخلناه في الواحدة ظهرا, عابرين حارته الطويلة غير المتسعة بتفريعاتها الأشد ضيقا, لاحظنا أن الأضواء الصادرة من مصابيح الإنارة الكهربائية, قد انتشرت في كل مكان, حتى أن الظلام لم يعد ظلاما, وبات السوق الذي كان يغلق أبوابه عقب اتخاذ الشمس طريق الرحيل اليومي, مستمراً في استقبال زبائنه حتى وقت أطول.

          ومع أننا شاهدنا في بنغازي ثلاثة أسواق عامة حديثة تضمها مجمعات بني الواحد منها على مساحة 25 ألف متر مربع, وامتد علوا إلى خمسة طوابق مكيفة مركزيا وتتصل معا عن طريق مصاعد كهربائية, فإن سوق الظلام الذي ظل محتفظا حتى الآن باسمه, رغم أنه لم يعد كذلك, لايزال له رواد اعتادوه, واستهوتهم بضائعه التي تتميز بسعرها المعقول, ولعل ما كان لافتا في ليبيا هو تلك الميزة المهمة, حيث لامغالاة في أسعار السلع ولا الخدمات. حتى إن أهالي بنغازي لم يكتفوا بسوق ظلام واحد, فأنشأوا آخر أكثر حداثة.

التفاح الذهبي

          و(بنغازي) التي كان يطلق عليها في الأسطورة (حديقة التفاح الذهبي) بعد أن أهدتها الأرض إلى الإلهة (هيرا) في مناسبة زواجها من كبير الآلهة (زيوس), عرفت عبر تاريخها بأسماء عدة من بينها (يوسبريدس), كواحدة من أوائل المدن اليونانية القديمة قبل أن يتحول اسمها في العصر البطلمي إلى (برنيكي) عقب زواج بطليموس الثالث من أميرة البلاد في ذلك الوقت (برنيكي) ابنة ماجاس ووريثة عرشه والتي قام ابنها فيما بعد باغتيالها, لكنها أصبحت برنيق) في الفترة الإسلامية, حتى أطلق عليها (بنغازي) اعتباراً من القرن الخامس عشر الميلادي نسبة إلى مقبرة الشيخ المدفون فيها.

          وكان تاريخ بنغازي مع الإسلام قد بدأ اعتباراً من العام 642م, حين قاد عمرو بن العاص جيوش الفتح الإسلامي إلى ليبيا متخذا من مدينة (باركي) عاصمة, بعد تحوير الاسم إلى (برقة) وإطلاقه على الإقليم الذي كان في السابق يسمى (كورينايكا) نسبة إلى مدينة (كوريني), ويتقاطع تاريخ تلك المدينة وتختفي الكثير من أحداثه عبر سنوات طويلة مجهولة, إلى أن يسجل أنه عقب الفتح الإسلامي بنحو أربعمائة عام تشهد المدينة هجرات (بني هلال) و(بني سليم) وتعرضها لما وصف بالاضمحلال, ثم تضيع أربعمائة سنة أخرى من الوقائع التاريخية للمدينة, ليسجل بعد ذلك أن إطلاق اسم (ابن غازي) تم في العام 1450م, وهو الرجل الذي تقول بعض الروايات إنه قاد عدداً من التجار قدموا من مدن (مصراته, تاجوراء, زليتن, مسلاتة) ووفدوا على بنغازي التي سميت (ابن غازي)ثم: (بني غازي) وهو الاسم الحالي.

          وما إن قام الأتراك في العام 1517م باحتلال القاهرة ثم طرابلس حتى أدخلوا بنغازي تحت سيطرتهم, غير أن خضوع الإقليم الذي كان يطلق عليه (برقة) للحكم التركي لم يتم إلا بعد قرن من الزمان عندما أرسل باشا طرابلس محمد الساقزلي خليفته عثمان بك في العام 1638م لاحتلال ذلك الإقليم وإنشاء قلعة تركية بمدينة بنغازي, أصبحت فيما بعد مقراً لحامية تركية, وقد قام الأتراك في أعقاب ذلك بإنشاء ثلاث قلاع أخرى على غرار قلعة (بنغازي) في كل من درنة والقيقب والمرج, وقد اندثرت هذه القلاع عدا (القيقب) التي تم تحويلها في الوقت الحالي إلى متحف, وقام الأتراك فيما بعد باختيار مدينة بنغازي عاصمة إدارية لمنطقة برقة.

          ومن الأحداث الغريبة الشبيهة بمذبحة القلعة في مصر ما يرويه الرحالة القادم من جنوة الإيطالية باولو ديلاتشيلا الذي زار بنغازي مرافقا لجيش باشا طرابلس في حملته على برقة, فقد وصف مذبحة قبيلة الجوازي التي ارتكبها باي بنغازي انتقاما من الثورة التي اندلعت ضد حكم (القره مانلي), بعد أن ادعى مهادنة تلك القبيلة, ودعا 45 فرداً من أعيانها ومشايخها إلى قلعة بنغازي,  لتكريمهم بالإنعام عليهم ببرانس حمراء, وكان أن رابطت القبيلة بأكملها خارج المدينة, فيما دخل أعيانها الذين مدت لهم الموائد, ولكن ما إن جلسوا إليها حتى هجم الحرس الخاص للباي وذبحوهم عن بكرة أبيهم, فيما هوجم أفراد القبيلة وتم ذبح أعداد كبيرة من نسائهم وأطفالهم.

جسر البط

          كان عرض سوق (الجريد) لا يزيد على المترين على الرغم من أن شارعا طويلا يخترقه حتى بدا وكأن لانهاية له, وكانت البضائع التقليدية التي تراصت على جانبيه تزيد عرضه انحساراً, ملابس وأقمشة شعبية وأغذية, ومحلات في داخلها أنوال يدوية لصنع أقمشة العروس, باعة عرب وأفارقة يعرضون بضائعهم وينادون على المارة (كل حاجة بدينار).

          اكتسب هذا السوق اسمه من سقفه المصنوع من جريد النخيل, قبل ان يزال ويستبدل به الصفيح.

          خرجنا من ذلك الازدحام لكنه أدى بنا إلى سوق صغير لبيع وتصنيع المشغولات الجلدية لكن مطر نهاية الصيف كان لنا بالمرصاد, ولعل غضبنا من تلك الزخات التي منعتنا من تصوير المكان لبعض الوقت, قد زال مع عبارات الليبيين الفرحة وتهانيهم بنزول (الخير).

          وقد اكتشفنا فوائد المطر بعد ذلك حين خرجنا من ضيق الأماكن القديمة إلى شوارع المدينة التي كانت المياه الهابطة من السحب قد غسلتها, ومنحت طرقها مع انعكاس خيوط الشمس, التماعات رائعة, مررنا عندئذ في شارع جمال عبدالناصر وهو الشارع الأطول في المدينة يمتد من شمالها إلى جنوبها, وفيه نلمح ما يدل على مبنى مميز الشكل هو مركز لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر, ارتسمت على أحد جدرانه صورة طولية ضخمة لعبدالناصر وهو يلقي خطابه الشهير في المدينة الرياضية الذي أطلق  فيه على العقيد القذافي لقب (أمين القومية العربية).

          تنحرف السيارة بنا قليلا لتصعد فوق (جسر إفريقيا) الذي يطلق عليه أهل بنغازي (جسر البط) لأن النساء السمينات اعتدن السير عليه في محاولة لانقاص أوزانهن, ومن هناك ندخل إلى أحد المطاعم فنتناول (البازين) الأشبه بالعصيدة و(الكسكسي) أشهر الأكلات الشعبية في منطقة المغرب العربي فيما توجد أكلات أخرى  أشبه بالعصيدة, مثل (العصبان) المصنوع من أمعاء الخروف المحشية بالأرز والكبدة, و(المصير) وهي عبارة عن متبلات تصاحب الأكل. ونستمع لرواد المطعم وهم يتبادلون كلمات (باهي) بمعنى (تمام), و(ياسر) وتعنى يكفي وهي كلمة تقابلها في تونس (برشة).

الغروب الساحر

          ولا شيء في بنغازي يعلو جمالا على مشهد غروب الشمس فيها, حين تنعكس الخيوط الذهبية ساعة الأصيل على مياه بحرها الصافي, فلا يرى المرء أروع منه مشهدا.

          هكذا اقتنصنا لحظات بديعة, واقتربنا من تلك اللوحة المذهبة حين كنا قادمين مع مرافقينا من (منتجع بو دزيرة) عائدين إلى فندق تبتسي الذي كنا نقطن, دارت بنا السيارة صاعدة فوق جسر (الشهيد محمدجمال الدرة), لنلمح على البعد ذلك المشهد منعكسا على سطح المياه, فيما تنتصب على الجانب الآخر منه فنادق ذات أشكال وأنواع كأنها هي الأخرى رسمت بدقة واختير مكانها بعناية إلى جوار الماء, لتكون في مجملها أجزاء من لوحة لمدينة ساحرة.

          قبل أن نصل إلى المكان الذي قصدناه, كنا قد مررنا بفندق (أوزو) ثم مسلة لتخليد معركة (جليانة), ليقترب بنا الطريق  من مبنى مركز الدعوة الإسلامية الجميل ذي الفراغات المتدرجة.

قاضيات وطيارات

          أدهشنا بالفعل أن نعلم أن هناك قاضيات ليبيات, بل وطيارات, وقد كانت (رفيعة العبيدى) مثلا هي أول قاضية في ليبيا, ومنذ أن فتحت تلك السيدة الباب الذي كان مغلقا أمام نظيراتها فإن بلادها أصبحت تضم قاضيات عديدات.

          أما قائدات الطائرات فإن منهن (عائشة قمو) وهي من مدينة زليتن, وقد قامت بقيادة رحلة الطائرة التي أوصلت الحجاج الليبيين إلى الأراضي المقدسة في العام 2000.

          وتضم ليبيا إلى جانب ذلك المئات من المحاميات والطبيبات والمهندسات والإعلاميات, لكن بها أيضا عشرات الفتيات اللواتي يقمن بأشق المهام العسكرية ومنها القفز بالمظلات, وبينهن أيضا من وصلن إلى الرتب العالية في سلك الجيش وقوات الأمن الداخلي, ومن أصبحن ضابطات مقاتلات في أسلحة الصواريخ والمدفعية.

          وحين كنا في ليبيا, كانت هناك تجربة جديدة تخوضها المرأة هي ما أطلق عليه بـ (المديرات المساعدات) حيث لكل أمين عام (مدير عام) في أي مصلحة حكومية خدمية (نائبة), وفي نظام الشعبيات أو الحكم الشعبي الذي تعتمده ليبيا فإن أمين اللجنة الشعبية العامة في الجماهيرية سيدة, وكذلك أمين اللجنة العامة للثقافة والإعلام (وزيرة) وكانت تشغل حقيبتها حتى وقت قريب السيدة (فوزية الشلابي), وهناك أيضا منصب أمين اللجنة الشعبية للتعليم لمؤتمر الشعب العام (فاطمة عبدالحفيظ), إضافة إلى ذلك فإن هناك سيدة هي (سالمين العريبي) تقلدت منصب مساعد الأمين العام لمؤتمر الشعب العام (ما يعادل نائب رئيس البرلمان) وهناك أيضا سيدة أخرى (د.سلمى عبدالجبار) وهي تشغل منصب الأمين المساعد لمؤتمر الشعب العام للشئون الاجتماعية حاليا.

محاولة للفهم

          وتجربة الجماهيرية الفريدة حتى الآن تستحق الغوص فيها لمحاولة الفهم, بعد أن ظل الأمر عصياً تماما, وقد كانت المسميات العديدة التي لم نكن نفهم ما تعنيه تقف عائقا أمام أي محاولة للمعرفة, ولكن ذهابنا إلى ليبيا, ثم تنقلنا بين مدنها العديدة وقطعنا لأعداد لا تحصى من الكيلومترات في أراضيها الشاسعة من كل الاتجاهات, حرضنا على السعي لاستيعاب ما يجري, خصوصا. أن الجميع يتحدثون باللغة نفسها, وهم, ومعظمهم من المسئولين, يرددون كلاما شديد الحماس عن التجربة, ولكن أياً كان رأي الآخرين فيها, فإنها تجربة ظلت تحكم بلدا منذ العام 1977 حتى الآن, ومهما كانت نتائجها: إنجازاتها أو إخفاقاتها, فإنه يجب أن تفهم (ولا نقصد هنا التقييم).

          فمنذ وصولنا إلى مطار طرابلس الدولي, كانت الشعارات المكتوبة فوق لافتات خضراء اللون تشير إلى أن (السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب), وإنه (لا ديمقراطية من دون مؤتمرات شعبية), وحين انتهت الإجراءات البسيطة في المطار والتي تسير بمرونة لافتة, خرجنا وعلى طول الطريق الذي امتد حتى وصل بنا إلى (الفندق الكبير) في العاصمة, كانت اللافتات الثابتة تحمل عبارات لاحظنا تكرارها في معظم الأماكن التي زرناها بعد ذلك: (الفاتح أبداً), (اللجان في كل مكان), و(الحدود أكذوبة استعمارية), ثم (شريعة المجتمع: الدين أو العرف).

          كنت حريصا على كتابة ما يمكن التقاطه من بعض تلك الشعارات في مفكرة صغيرة عادة ما تكون رفيقة السفر, لكن المقابلات الصحفية واللقاءات التي جمعتنا مع مسئولين وأدباء وفنانين وإعلاميين والتي ظلت تتردد فيها بعض تلك الشعارات, طالت أيضا الحديث عن هذه التجربة التي تطبقها ليبيا منفردة, ومازالت على حماسها في تطبيقها ورغم مرور ما يتجاوز ربع القرن عليها فإن التغريد الليبي لا يزال وحيداً في الفضاء المترامي.

          يمتد سيرنا فتتمدد أمامنا اللافتات, حتى إنه يندر أن يكون هناك طريق رئيسي يشق هذه الدولة مترامية الأنحاء دون تنويعات جديدة لعبارات مأخوذة من (الكتاب الآخر) أو أقوال العقيد القذافي وكل عبارة مكتوبة دائما على أرضية خضراء: (الجهل ينتهي عندما تظهر الحقيقة) من الفصل الثالث للكتاب الأخضر, ومنه أيضا (الخمر والمخدرات هي أسلحة دمار شامل, فالحشيش من الأسلحة الجرثومية والكيماوية والقنبلة الذرية, والذي يتعاطاه كأنه أخذ سلاحا من العدو وفجره وسط بلده), ثم (الأرض ليست ملكا لأحد), (والاجراء نوع من أنواع العبيد) وليس آخراً (الديمقراطية هي الحكم الشعبي وليست التعبير الشعبي). هكذا تتعدد الشعارات وتتناثر في كل مكان, الأمرالذي يعيد إلى الذاكرة تجارب عربية ظلت تعتمد هذا النهج لسنوات عديدة, ولكنه في الوقت نفسه يطرح أيضا تساؤلا عن المدى الذي يمكن ان تصمد فيه تلك الشعارات في زمن متغير كالذي يعيش فيه العالم حاليا, ولعل الأمر لم يطل معي كثيرا فحين كنت أسأل عن القصد من شعار (البيت لساكنه) جاء الرد إنه تم السماح قبل وقت قريب للأشخاص بامتلاك المحلات للمرة الأولى غير أن التملك كان محظورا, فقد كانت الدولة هي المالكة لكل المباني.

          ودون الدخول في تفاصيل فإن ما يطلق عليه (النظام الجماهيري) في ليبيا يتكون من مؤتمرات شعبية أساسية لها سلطة إصدار القوانين والقرارات في جميع مجالات السياسة الداخلية والخارجية وعضويتها مفتوحة لمن بلغ الثامنة عشرة من الذكور والإناث وهي تعقد دورتين في السنة, غير أنه لا يكون لقراراتها ولا قوانينها صفة النفاذ إلا بعد توحيد صياغتها وتلاوتها أمام (مؤتمر الشعب العام). (أي البرلمان). وفي هذا المؤتمر يلتقي أمناء المؤتمرات الشعبية الأساسية واللجان الشعبية والنقابات والاتحادات والروابط المهنية, وهو ذو صلاحيات واسعة, منها صياغة القوانين ومساءلة أمناء وأعضاء الأمانات وإعفاؤهم من وظائفهم, ويضم النظام الجماهيري أيضا (اللجان الشعبية) وهي التي تدير القطاعات المختلفة والهيئات والمؤسسات والشركات العامة.

          وفلسفة هذا النظام الجماهيري تقوم على اعتبار أن الشعب هو المصدر الوحيد للشرعية وأداة حكم نفسه بنفسه من دون واسطة ولا نيابة ولا تمثيل, وإن هذه السلطة هي الأداة الوحيدة للحكم يمارسها عن طريق مؤتمراته الأساسية ولجانه الشعبية وتنظيماته المهنية بحيث يصبح الشعب الليبي كله ووفقا لمكان الإقامة عضوا في مؤتمرات شعبية أساسية, وكل مؤتمر شعبي يقوم باختيار لجنته القيادية.

التمثيل تدجيل

          ولعلي كنت مشغولا بتلك العبارات التي كثيرا ما رأيتها في الفنادق والمؤسسات الحكومية والأسواق والميادين العامة, حتى أنني حين تلقينا دعوة على العشاء في نادي (الشاطئ) شديد الروعة بطرابلس من الأمين العام لاتحاد الفنانين الليبيين جمال اللافي والفنانة الشهيرة خدوجة صبري التي تشغل منصب (وظيفة كما يفضل الليبيون) الأمين العام المساعد للاتحاد, سألت عن معنى عبارة  (التمثيل تدجيل) المرفوعة كشعار, عندئذ أكد اللافي (أن المقصود هو التمثيل السياسي, والمعنى أن على كل فرد أن يمثل نفسه, ولا يمكن لأحد غيره أن ينوب عنه), قلت لنبتعد عن السياسة ونظل في الفن, قال إن ليبيا سنويا تشهد تسعة مهرجانات تتنوع بين المحلي والعربي والدولي, فهناك مهرجان للطرب والغناء وهو محلي وعربي, وهناك مهرجان للفنون التشكيلية والبصرية, وكذلك المهرجان الدولي للفنون الشعبية, ثم مهرجان المسرح الإفريقي وهكذا.

          وعن خريطة الفن هناك وهو بالمناسبة ليس (جماهيريا) بمعنى أنه لا يوجد فيه احتراف, فإن المسرح الليبي هو الأكثر انتشاراً ثم الفنون الشعبية, لكن السينما الليبية قليلة الإنتاج إذ إن شركة (الخيالة), تنتج في العادة فيلما كل ثلاث سنوات, وتشارك الأفلام الليبية الروائية القصيرة والطويلة في جميع المهرجانات, ومن بين الجوائز التي حازتها, واحدة في مهرجان كوريا الشمالية عام 1996 عن فيلم (أحلام صغيرة) ومن قبلها جائزة في مهرجان قرطاج عام1994 عن فيلم (معزوفة المطر) إخراج عبدالله زرد.

          وفيما توجد مخرجات ليبيات في السينما والتلفزيون أمثال كريمان جبر وسعاد الحداد وهنية رحيم وسعاد جهاني, فإن خدوجة صبري التي كرمت قبل سنوات قليلة في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون والتي يطلق عليها في ليبيا (فراشة الفن) وهي ممثلة شاملة عملت منذ 19 عاما في المسرح قبل أن تنتقل للدراما التلفزيونية والسينمائية تؤكد لنا أن النظرة للفن قد اختلفت لدى أسر الفنانات الليبيات فبعد أن كانت مزاولة هذا التمثيل ممنوعة بشدة, تحول المنع إلى تشجيع.

عش الحمامة

          اندهشت حين استضافنا في (دارته) البديعة الفنان الليبي المعروف فتحي العريبي, قبل زيارته كنت قد زرت لمرات متفرقة موقعه على شبكة الإنترنت الذي أسماه (عش الحمامة), وقد قفز هذا الاسم فوراً إلى الذهن وأنا أرى هذا العدد الكبير من اللوحات التي صورها للحمام وقد زينت مدخل المنزل ودرجه الصاعد إلى طابق كامل خصصه لفنه ومكتبته, تحيط بها أعشاش علوية مصنوعة بدقة وجمال لحمامات ذات ألوان بديعة وقفت تلتقط حباتها وتتطلع للقادمين الغرباء.

          سألته عن هذا (التفاني) في عشق الحمام, ابتسم قبل أن يقول إن (لكل فنان رمزا معينا أو شعارا, ولكن لي مع الحمام قصة بدت منذ الطفولة, حتى أصبحت الحمامة هي المستهدف الفني الأثير لدي).

          لكن فتحي العريبي لا يكتفي بالتصوير, فلديه مجموعة هوايات تنطلق من هذا الفن, منها الرسم والموسيقى, لكنه يعتبر نفسه محباً للتصوير لا مصوراً محترفا, وعلى الرغم من حصوله على جوائز عدة على المستويات العربية والدولية اضافة إلى التكريم العالي في بلده فإن العريبي ظل يردد أمامنا إنه (بحاجة ماسة إلى 60 عاما أخرى لكي يتعلم فن التصوير).لكن ليبيا بطولها وعرضها مكتظة بفنانين في معظم مجالات الإبداع, وفي فن الرسم كثيرا ما يحدثون زائريهم عن رسام كاريكاتير عالمي هو محمد الزواوي الذي يتوارى عن الضوء لخجل مفرط وزهد في أي دعاية, ويشيرون إلى رئيس مجمع الموسيقى العربية السابق (حسن العريبي), وإلى (العلويين الثلاثة) وهم علي العبابي وعلى المنتصر وعلي الزويك والثلاثة فنانون تشكيليون كبار كانوا قد شاركوا لتوهم - وقت أن قمنا بجولتنا في ليبيا - في معرض (اليورهارت) الدولي الشهير.

          لكن الأغرب من ذلك, إنه رغم هذه الوفرة الكبيرة في عدد الفنانين التشكيليين في ذلك البلد, والذين قدرهم لنا مسئول عن جهة متخصصة في الفنون التشكيلية بثمانمائة فنان, فإن اقتناء اللوحات في ليبيا ضئيل للغاية, في الوقت الذي يتيح فيه سعر اللوحة شبه الرمزي استنساخ الكثير منها وبيعها للجمهور.

نهايات

          ظلت ليبيا غامضة في ذاكرتنا, لكنه الغموض الذي ظل مثيرا للتساؤل, دافعا للبحث عما يمكنه اختراق تلك الغلالات وعدم التسليم بمراوغاتها, وحين حاولنا, تبدّت لنا ليبيا أخرى أكثر سحراً وأشد جمالا, وانجلت أمامنا عوالم مذهلة يحتويها ذلك البلد العربي الرائع في غموضه والمدهش في انكشافه, وكأننا كنا مأخوذين بفرحة الاكتشاف, ولعلنا بعد هذه الزيارة, مازلنا كذلك.

 

زكريا عبدالجواد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات