د.الطيب تيزيني ومحمد الحوراني

  د.الطيب تيزيني ومحمد الحوراني
        

المشروع النهضوي كفيل بوضع حد لمشاكل الأمة العربية

           يعد الدكتور طيب تيزيني واحدا من ألمع المفكرين العرب وأكثرهم إثارة للجدل في الوسط الفكري والديني العربي, ولعل هذا هو السبب الذي جعلنا أثناء دراستنا في المرحلة الإعدادية نسمع عنه ما يشبه الأساطير بالنسبة لعلاقته بالدين والفكر. طيب تيزيني لم يختلف مع الإسلاميين فحسب, إنما اختلف مع مفكرين وفلاسفة من خارج التيار الإسلامي, إذ إنه اختلف مع المفكر المغربي محمد عابد الجابري ورد عليه في (الفكر العربي المعاصر باتجاه نقد (النقد الجابري)), كما أنه جادل المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي ورد على أفكاره في (آفاق فلسفة عربية معاصرة). وبالرغم من الثقل الذي حققه طيب تيزيني في الوسط الفكري العربي وشهرته التي لم تقتصر على سوريا والوطن العربي, وإنما تعدتهما إلى أنحاء العالم, فإن هذا الرجل يتمتع بتواضع كبير قل أن يتصف به من هو في مكانته, وتجد هذا التواضع في مكتبه في قسم الفلسفة - جامعة دمشق - وفي بيته أو أماكن جلوسه, ولعل ما يؤكد هذا هو رفضه لعدد غير قليل من المقاهي الفخمة التي عرضها عليه محاوره محمد الحوراني لإجراء هذا الحوار معه, واختياره لحديقة متواضعة جدا في (التكية السليمانية) وسط دمشق. فاختياره لهذا المكان يدل بشكل او بآخر على أن الرجل لا يرفض التراث بكل ما فيه, وإنما يترك لنفسه الطريقة الخاصة به للتعامل مع هذا التراث. وفي حديقة (التكية السليمانية) حيث تلتقي الأصالة والحداثة,  ويجتمع القديم مع الحديث. إذ البحرة الدمشقية التي تتوسط الباحة, والطائرات الرابضة على أرض المتحف الحربي المقام في إحدى زوايا (التكية) تحدث تيزيني إلى الحوراني, الصحفي والباحث السوري, وكان هذا الحوار:

  • لا توجد إمكانية لعلاقة التثاقف مع الغرب.. وإنما هي علاقة هيمنة وإملاءات سياسية واقتصادية وسيكولوجية.
  • مع سقوط القيم أصبحنا نعيش حالة الحطام العربي لكن الآفاق لا تزال مفتوحة.
  • مما لاشك فيه أن المجتمع العربي الإسلامي يعيش وضعا مزريا من التخلف والفوضى هل تعتقدون أن السبب في ذلك يعود لحالة الفصام, أو ازدواج الحضارة التي مازال هذا المجتمع يعانيها منذ بداية الصراع بين الحضارة العربية الإسلامية والثقافة اليونانية المسيحية?

           - الازدواجية هنا لا شك أنها قائمة, لكن سنلاحظ أنه انطلاقا مما نسميه (جدلية الداخل والخارج) فإن الازدواجية تنحل لتصبح قائمة لصالح أحد طرفي المسألة, ليس الخارج وإنما الداخل, لأن الداخل حينما يتأثر بالخارج فإن هذا الخارج سيؤثر بالداخل من موقع الداخل ذاته وبالتالي الخارج هنا, اليونان, أثر في الداخل العربي الإسلامي من موقع هذا الداخل نفسه بحيث إن الخارج أصبح نسيجا من أنسجته (أنسجة الداخل) لم نعد مخولين بالتحدث عن ازدواجية الخارج والداخل, فالخارج لبس لبوس الداخل ومع هذا نقول: إن هذا الداخل يجد نفسه أمام وطأة هائلة إذا كان الخارج قويا متينا, أي يقوم في علاقته مع الداخل على قانون عدم التكافؤ, حين توجد وضعية تتسم بعدم التكافؤ بين حالتين فإن الخارج وإن دخل في حياة الداخل من موقع الداخل نفسه إلا أنه بوصفه أكثر تقدما وفاعلية يملي على الداخل كيفية تلقفه هو نفسه في الخارج, هذا يشير إلى أن الخارج أيضا يحاول أن يحدث شروخا في الداخل ومن هذه الشروخ فكرة الازدواجية لكن حتى الازدواجية حينما نعود إلى الداخل نكتشف أن هذا الداخل هو من أملى على الخارج كيفية تأثيره فيه. وهنا نذكر العبارة التي أطلقها نابليون بونابرت حين دخل إلى الإسكندرية وقد أتى غازيا, فحتى يلبس لبوس الداخل ويؤثر فيه وزع بيانا قال فيه (أنا الشيخ نابليون أتيت كي أخلص المصريين من المماليك الكفار) أراد أن يلعب على الداخل من خلال كلامه هذا, إذن فهي علاقة معقدة بين الداخل والخارج يظل الداخل فيها, سلبا أو إيجابا, هو من يسهم في الإمكانات التي ينتجها الخارج في تأثيره على الداخل, إذن الازدواجية قائمة لكن ضمن هذا الفهم وقد اتسعت وتعاظمت مع انهيار الحضارة العربية الوسيطة وبروز المشروع الأوربي الرأسمالي الذي أخذ يتصاعد عمقا وسطحا ثم مع التحول بالاتجاه الكولونيالي الاستعماري ثم إلى الإمبريالية وأخيرا والآن إلى العولمية, إضافة إلى أن هذا التحول في المشروع الرأسمالي ترافق بإنتاج حالات جديدة تتممه, وتتمثل خصوصا في المشروع الصهيوني الذي يعتبر هنا أحد جيوب المشروع الرأسمالي الإمبريالي العولمي, هذا الوضع عمق قانون اللاتكافؤ بين الداخل العربي والخارج الغربي الرأسمالي العولمي, ولذلك لا يصح القول الآن بأن هناك إمكانية لإنتاج علاقة تثاقف بين هذين الطرفين, لأن العلاقة هي من الناحية الموضوعية علاقة هيمنة يسوغها الطرف الأول المتمثل في الخارج والذي يملي على الداخل العربي إملاءاته الثقافية إضافة إلى السياسية والاقتصادية والسيكولوجية وغيرها وقد يراهن على أن الخارج يمكن إذا ما ظلت العملية مفتوحة, أي خارج يتدفق بشكل هائل وداخل محاصر, فقد يراهن على أن الداخل يمكن أن يعاد بناؤه وفق ضرورات الخارج, وهذا يعني أن التاريخ مفتوح سلبا وإيجابا, وهنا تبرز ضرورات المقاومة أو إنتاج مشاريع مقاومة للرد على هذا التدخل وهذا التدفق الهائل للخارج. وبالدرجة الأولى هنا يبرز مشروع النهضة (مشروع الأمة) لم يعد الحديث هنا متمثلا بمشروع ثورة لأن مشروع الثورة هو مشروع طبقة أو تحالف طبقي وهذا الآن لم يعد واردا أو على الأقل لنقل إنه أرجئ لوقت آخر والوارد الآن هو مشروع نهضوي تؤسس له الأمة برمتها لأنها تكاد أن تكون كلها تحت القبضة الواحدة, قبضة الخارج العولمي الإمبريالي.

استجماع التاريخ

  • يذهب هشام جعيط إلى أن الإسلام بدأ بالانحدار عندما انقطع تجانسه الثقافي والسياسي وذلك لما استفاق المسلمون على وقع المواجهة العنيفة مع أوربا, برأيكم هل باستطاعة أي حركة إسلامية فكرية في العالم العربي والإسلامي اليوم أن تعيد التجانس الكلاسيكي للإسلام بعد انقطاعه التاريخي?

           - أظن أن هذا السؤال ذاته فاسد منطقيا, هو يريد بهذه الحال أن يستجمع التاريخ كله في لحظة جديدة, أن يعيد التاريخ إلى ما كان عليه ثم يضعه في إطار مرحلة معاصرة ما إن شاء, هذا السؤال بذاته فاسد منطقيا وتاريخيا, سأقول غير ما قاله هشام جعيط, سأقول كيف نستطيع أن ننتج قراءة إسلامية جديدة تستطيع أن تحقق شرط الاستجابة البنيوية والوظيفية للواقع العربي والإسلامي المعيش? إما أن نعود دائما في مفاهيمنا للإسلام الراهن أو ما بعده, أو أن نعود دائما إلى أصول نعتقد أنها هي النماذج القاطعة والتي تُملي نفسها علينا في فهمنا لما علينا أن ننجزه الآن, إنه سؤال فاسد يلتقي في نهاية المطاف مع الرؤية السلفية, التي ترى أن السلف هو الذي أسس, ومن ثم الأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف, الأخلاف حينما يواجهون مأزقا تاريخيا يتصل بالنص المعني عليهم أن يعودوا دائما لإيجاد حل إلى الوراء, هذا الوراء الذي يرون أنه مصدر الإجابة عن كل ما يجد من إشكالات وخصومات وصراعات في النص المعني, إن النص هو ابن أصله أولا, وثانيا امتداد لما سبق, جدلية الاتصال والانفصال, الاتصال انفصالا والانفصال اتصالا, لكن في البدء المنهجي النص هو ابن عصره أي هناك تأكيد على الانفصال, وبعد ذلك وفي سياقه يأتي الاتصال, لأن هذا الجديد هو بمعنى ما حصيلة الماضي, لكنه من أجل أن يكون جديدا, من أجل أن يفصح عن هوية جديدة يجب أن يركز فيه على كونه أصيلا ليس فرعا أي له حضوره الذاتي, فسؤال هشام جعيط سؤال يحتاج إلى تدقيق في ضوء المقولة الحاسمة على صعيد النظر في التراث والماضي, وهي ـ هذه النظرة ـ التي تتمثل بالواقع. والواقع هنا تجسيد لمقولة شمولية, الواقع بكل إحداثياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, وبالتالي فهو مصدر القناتين الكبريين التي تمر عبرهما القراءات الإسلامية وغيرها, وأعني بذلك القناة المعرفية والقناة الأيديولوجية ولذلك لا نصلح حالا جديدا بما صلح به حال الماضين, إنما نستطيع أن نستلهم الماضي, وما هو مرجعنا المنهجي هنا? الحاضر, تعبير آخر أكثر تكثيفا, لا ننظر إلى الماضي من حيث هو وإنما من حيث نحن, فحين ذاك على الماضي أن يقدم تقريرا تفصيليا بما يمكن أن نأخذه منه في ضوء الاحتياجات المعرفية والأيديولوجية المعاصرة في مرحلتها الواقعية المعاصرة. هكذا يبدو سؤال جعيط قد انحل ليبدو أمامنا بوصفه سؤالا مقاربا إلى درجة كبيرة للسؤال السلفي الذي يرى دائما أن هناك أصلا, وأن ما يأتي في اللاحق ليس إلا فروعا ليست مهمتنا الآن إنشاء منظومة فكرية سواء أكانت دينية أم غير دينية, تماثل ما كان موجودا سابقا على صعيدها عموما. مهمتنا أن ننشئ ما يستجيب لاحتياجات الراهن وفي سياق ذلك نستأنس بكل ما سبق.

شرعية أيديولوجية

  • إذن أنت لست ضد الماضي بكل ما فيه, ولست ضد التراث كما يشاع عنك, إنما ضد طريقة التعامل مع الماضي والتراث?

           - على الإطلاق, يعني كلمة ضد هنا هي حكم قيمة? لاقيمة لهذا الحكم القيمي, لاقيمة معرفية إذا سبق الحكم المعرفي. الحكم المعرفي يعني أولا أن التراث إذا اعتبرناه هنا متماهيا مع الماضي, تراث مهم بالنسبة إلينا عبر الواقع المعيش وليس من موقعه بالاعتبارين البنيوي والوظيفي, ولهذا نأخذ من التراث ونتبنى منه ونستلهم منه. نفعل هذا في ضوء احتياجاتنا. وعلى هذا الأساس تنشأ المسوغات الأساسية الحقيقية لتعددية القراءات التراثية, كل القراءات التراثية صحيحة بالمعنى الأيديولوجي, لكن بالمعنى المعرفي لا نستطيع أن نقول إنها جميعها ذات مصداقية معرفية, يجب أن توجد هناك على الأقل قراءة معرفية واحدة صحيحة, أي تحقق وحدة التجادل مابين المعرفي والأيديولوجي. إذن حتى قراءة السلفيين للتراث قراءة تمتلك شرعيتها الأيديولوجية, انطلاقا من أنها أتت في إطار المكيفات الأيديولوجية المحددة, لكن من الناحية المعرفية نجد الأمر مختلفا, نقر بالتعددية جميعا, الجميع سواء في الشرعية الأيديولوجية لكنهم ليسوا جميعا متساوين في ظل الموقف المعرفي, هنا تبدأ عملية الكفاح العلمي لتأسيس هذه القراءة المعرفية, أي التي تتسم هنا بالموضوعية, بالعقلانية, بالقدرة على فهم الحدث سياقيا, أي التاريخية. هذه العناصر من القراءة هي التي تحقق شرط المسوغات المعرفية.

  • تحدثتم أكثر من مرة عن ضرورة الخروج من المأزق التاريخي الراهن وتحدثتم عن عناصر تنظم ذلك كالحرية والعقلانية والجدلية برأيكم من هو المسئول عن وضع الإسلام في مأزقه هذا وكيف يمكن توظيف هذه العناصر في عملية الخروج?

           - المأزق الذي يمر به الإسلام الآن هو مأزق ذو شقين, شق يتصل ببنيته, وآخر يتصل بالفاعلين على صعيده, أما فيما يتعلق بالأمر الأول فيقوم على الاعتقاد السائد في أوساط الناس عامة, والذي يرى أن الإسلام يمتلك بنية تبقى هي كما كانت منذ إنتاجها أو نشأتها أو وجودها. أي المصطلحات واردة دائما في النصوص الدينية وتبقى كما هي دون أن تمس, اعتقادا بأن مسها سيكون بمنزلة تشكيك بمصدريتها, التي هي هنا مصدرية إلهية, طبعا الإسلاميون ليسوا جميعا من أولئك الذين يسلكون هذا الطريق لكن تيارا كبيرا من الفكر الإسلامي الراهن يأخذ هذا الموقف ويعمل على مواجهته من موقع محدد بمواجهة الواقع ذاته وإرغامه على التكيف مع النص الإسلامي, في هذا الموقف نلاحظ أن هذا التيار تيار نصي, يرى أن النص فوق الواقع وأن الواقع إذا ما وجد نفسه في علاقة غير متسقة بينه وبين النص, فعلى الواقع أن يعاد النظر فيه, هؤلاء إذن يسهمون إسهاما عميقا في تصعيد المأزق الفكري الإسلامي, ولكن لا يكفي أن نقول إن البنية هذه هي التي تقوم بتأبين ذاتها, أي هي التي تقوم بإنتاج فواعل تسهم في جعل الإسلام يظهر هكذا, عامل آخر يتمثل بالواقع العربي الإسلامي, وهو واقع بأقل احتمال لا يحتمل حتى الآن النظر إلى الإسلام كبنية قابلة للتكيف مع التطور التاريخي. من هنا إذن المأزق ذو شقين, شق بنيوي وشق يتصل بأحد أطراف الواقع أو بإحدى حيثيات الواقع, أما المصدر الآخر للمأزق الذي أشرت إليه فيقوم على أن الإسلام يميز فيه بين أمرين, هما الإسلام أولا, وتاريخ الإسلام ثانيا, إن التمييز بين هذين الفريقين يظهر كم هو مهم أن نضع أيدينا على كثير من النقاط الدقيقة في المسألة التي نحن بصددها, الإسلام هو تلك المنظومة المفاهيمية, والإصلاحية والحسية التي أسسها الإسلام في بواكيره, بحيث إننا نقول فعلا, مع حجة الوداع التي أنجزها النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته كان هناك حسم لفكرة الإسلام الأول تاريخ الإسلام يبدأ فيما بعد, أي تاريخ الفكر الإسلامي الذي يبدأ بوصفه تلوينا على الإسلام نفسه, أي بوصفه قراءة للإسلام وبهذا المعنى فنحن نجد أنفسنا أمام نص أصلي ونصوص فرعية, النصوص الفرعية تبرز هنا بمنزلة قراءات للنص الأصلي وثمة نقطة منهجية ذات أهمية خاصة هنا تنطلق من أن معيار النظر في هذا كله ينطلق من الواقع نفسه, أعني بذلك أن الواقع معرفيا وأيديولوجيا هو الذي يملي علينا كيفية قراءة الإسلام في مجالها الرحب أو الضيق, يعني مفهوم القراءة للإسلام هو مفهوم بأحد معانيه منبثق من الواقع ومن احتمالاته, الواقع المشخص هو الذي يملي نفسه على أنماط القراءة الإسلامية, ولذلك نجد قراءات متعددة تعدد المستويات المعرفية والاحتمالات الأيديولوجية لأولئك الذين يقدمون قراءات للإسلام على هذا الأساس, ومن الواقع وفي ضوء الواقع المعني الذي اعتبرناه هنا معيارا لم يعد الحديث مسوغا عن نص أصلي ونصوص فرعية, إن كل نص ينتمي أصالة إلى واقع ما هو نص أصلي وبالتالي فإنها نصوص أصلية متلاحقة, لأن كل واقع يستنبط نصه الخاص لكن رغم ذلك بالاعتبار البنيوي التاريخي, هذا الواقع يؤكد أن هذه القراءة الجديدة, بهذا المعنى, هي قراءة فرعية بالقياس إلى القراءة الأصلية, إذن للمسألة وجهان: وجه يرى أن كل نص إسلامي هو نص أصلي لأنه أنتج في مرحلة تاريخية معينة, أملت عليه همومها المعرفية والأيديولوجية ومن الطرف الآخر هناك نص أصلي برز في القرن السابع وبعد ذلك أتت قراءات متعددة عليه. في هذا الحال نرى أن هذه القراءات هي فروع جدلية الأصل والفرع, المأزق هنا يبرز في أن أصحاب القراءات السلفية للإسلام لا يعرفون معنى لفكرة القراءات التي تبقى بمعنى ماقراءات أصلية, أي أن كل قراءة هي أصل لأنها تنتمي إلى عصر معين, تنكرهم لهذا يبقيهم على شق واحد للمسألة وهو أن قراءاتهم قراءات فرعية تنتمي دائما للأصل ولذلك حينما يعاني الفرع مشكلة ما, فعليه أن يجيب عن هذه الأزمة بالعودة إلى الأصل, هنا إشكالية كبيرة منهجية ونظرية.

ليس بريئا

  • تحدثتم في العديد من مقالاتكم ومحاضراتكم عن إشكالية الفساد وضرورة التخلص منها وبناء المجتمع المدني, إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل توجد رغبة حقيقية في الوطن العربي للتخلص من الفساد أم أن هناك رغبة قوية من قبل الغالبية باستمراره واستشرائه لتكريس الواقع القائم, ثم ما آليات القضاء على الفساد برأيكم?

           - السؤال مركب وكبير, وقد قلت في إجابتي عن السؤال السابق حول المشروع النهضوي, إن هذا المشروع ليس بريئا بالمعنى الطبقي, أي أنه يتجاهل تماما المسألة الاجتماعية الطبقية والاقتصادية وغيرها, لكني قلت: إن هذا يستمد شرعيته المنهجية من سؤال النهضة. الآن سؤال الفساد بمعنى ما من المعاني هو سؤال طبقي, خصوصا إذا ألححنا على الفساد الاقتصادي, الذي تحول إلى وباء هائل لأن هناك مطالبة في النظام السياسي العربي بإبقائه وجعله يلف الجميع ويجعلهم مدانين تحت الطلب, وهذه الفكرة هي التي قادتني إلى استنباط مفهوم في الفكر السياسي هو مفهوم (الدولة الأمنية), التي أعني بها تلك السلطات التي ابتلعت الدولة القانونية الشرعية, ورفعت شعارا تسعى من خلاله لإفساد من لم يفسد بعد, بحيث يصبح الجميع مدانا تحت الطلب, وعلى كل من يرغب بالاستمرار في حياته, حتى بالمعنى البيولوجي, أن يكون مفسدا فاسدا حتى لا يتعرض للمطاردة ولا يتعرض لأي شكل من أشكال القمع السياسي وغيره. هذا ما أدى إلى أننا أصبحنا نعيش الآن ما أسميته الحطام العربي, إنه حطام يتأسس على عالم عربي, اختلت فيه كل المقاييس وأسقطت فيه كل القيم أو معظمها, لا سيما تلك القيم التي تسعى إلى إنهاض الأمة, ومن ثم فهو حطام يأتي بوصفه تلخيصا لعملية فساد استمرت ربما أربعة عقود, لكن هذا الحطام لن يكون مغلقا أبدا في لحظة ما, إنه مفتوح دائما وهو قابل للاختراق, وبالتالي هناك دائما إمكانية لإعادة بناء الواقع العربي عبر إعادة إصلاحه, والتأسيس له من جديد, تأسيسا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وغيره, فالفساد وبعد أن أصبح حالة شاملة في السطح, أصبح حالة في العمق, إنه يمثل حالة تكتسب بعدين, بعد الشمول وبعد العمق, فلم يبق ظاهرة شاملة كل الناس دون أن يمس البنى الحاسمة في حياة هؤلاء الناس, إنما أصبح ظاهرة تدخل في عمق الناس, بحيث إنه إذا ما استمر فإنه سيؤدي إلى مخاطر كبيرة يقوم أحدها على أن هذا الفساد في حال استمراره سيحول دون إمكانية التأسيس لحالة جديدة, على الأقل انطلاقا من السؤال التالي: من عليه أن يقوم بهذه المهمة التاريخية, مهمة إزالة الفساد? أولئك الذين أفسدوا?!! مع هذا كله فالحد مفتوح تاريخيا, وليس هنالك مطلقات, إنه حطام عربي, لكن الآفاق مفتوحة له خصوصا إذا ما وضعنا أيدينا على مجموعات كثيرة تتحرك هنا وهناك في الواقع العربي وتسعى إلى الوقوف في وجه من يؤسس للفساد ويقوده وينتج آلياته. هذا الفساد الآن بصيغته الشمولية والعميقة, اكتسب قوة جديدة عبر التواطؤ بين من ينتجه ومن يؤسس لحالة الاقتحام من الخارج باتجاه الداخل العربي, أعني بذلك النظام العولمي الإمبريالي الجديد. والنظام العولمي في أحد تعريفاته: هو ذلك النظام الذي يسعى إلى ابتلاع الطبيعة والبشر وتقيؤهم سلعا, والنظام العولمي لا يتآخى مع أي هوية تاريخية تثمر تقدما تاريخيا, كالعقلانية, التاريخية, الحداثة, الأمة, الوطن, الدولة. هذه كلها يجب أن تتساقط وتخلي الطريق أمام هويات تؤسس للفساد التاريخي, كالطائفية, والإثنية, والمذهبية. ومن ثم فإن هذا الواقع المدعوم خارجيا يتواطأ مع ما هو قائم في الداخل العربي, لينتج حالة جديدة مدعمة بقوة داخلا وخارجا وبالتالي فإن تعاظم الحالة يعقد دائما أكثر فأكثر الإجابة عن سؤال الفساد, إلا أنه لايمكن أن يغلقه, فالسؤال مفتوح من موقع الداخل العربي والخارج الأوربي, وهذا الخارج ليس ذا بعد واحد, إذ إن هناك من هو مناهض للنظام العولمي في بلدان أوربية كثيرة. وإذا كانت النهضة في أحد مسوغاتها تأتي كرد على الفساد الذي أصبح شاملا وعميقا, إلا أنها لاتأتي استجابة فقط لسؤال الفساد والرد عليه, بل تأتي أيضا ردا على أسئلة أخرى. على أسئلة الاستقلال المهدد, أسئلة الهويات المهددة بالابتلاع والتفكك. إذن فالنهضة أكبر من أن تكون ردا على مسألة واحدة, إنها هذا كله, ومن هنا تكتسب النهضة مسوغات كبرى, إذا ما أخذنا هذه العوامل كلها مجتمعة.

الارتداد إلى الوراء

  • تعيش الساحة الثقافية العربية صراعا بين تيارين, تيار إحياء التراث الفلسفي العربي الإسلامي, وتيار استنبات التراث الفلسفي الغربي, وكلاهما مازالت تغلب عليه الأيديولوجيا والوعود أكثر من الإبداع والإنجاز, والسؤال, ما أسباب هذا الصراع وكيف يمكن التخلص من الأيديولوجيات المقيتة?

           - هذا سؤال تاريخي ومعرفي, وما تحدثت عنه تحت اسم تيارين ليس استنباطا آليا لمجموعة من الأفكار أتى بها بعض الدارسين والباحثين والمفكرين, إنما هو تعبير غير مباشر وضمني عن واقع الحال للمجتمع العربي, هذا الواقع القائم على صراع غير متبلور وحتى الآن غير مثمر بين فريقين كبيرين: فريق التقدم وفريق التراجع, أو التخلف, أو فريق الحداثة بالمعنى التاريخي وفريق التخلف الفهمي, ولهذين التيارين تعبيرات فكرية تأسست مع تأسس الوعي الأيديولوجي لكل من التيارين, ولما كانت عملية الإنتاج المعرفي ضحلة إلى درجة كبيرة في إطار هذين التيارين وفي إطار المؤسسات التعليمية والجامعية العليا في الوطن العربي فإن السؤال المعرفي ارتد إلى الوراء لصالح السؤال الأيديولوجي, بمعنى أن السؤال الأيديولوجي وإن كان مهيمنا إلا أنه ليس وحيدا. السؤال المعرفي قائم ولكنه يمثل لحظة من لحظات كثيرة, لهذا مع غياب الإنتاج المعرفي في المؤسسات المتخصصة, كما في المرجعيات السياسية, الأحزاب, المراكز الاستراتيجية, المجموعات المهتمة بالقضايا الثقافية. هذا كله ما استطاع حتى الآن أن ينتج إنتاجا كافيا بالمعنى المعرفي, لتأسيس ما هو صحيح في إطار القضية الأيديولوجية.

           وبالتالي عندما نقول بضرورة التأسيس المعرفي لايعني أننا نقصي القضية الأيديولوجية هكذا خطأ, إنما نكون قد وصلنا إلى فكرة حاسمة هي: كيف نستطيع أن نكتشف الأيديولوجيا من جديد في نطاق الإنتاج المعرفي? مع الأسف نحن نعتبر أن نشوء هذه الأيديولوجيا يتم من وراء ظهر الإنتاج المعرفي, وهذا الحكم ينبغي أن ندلل عليه في إطار الإنتاج المعرفي, ومن ثم لا يجوز التشكيك القاطع بكل ما هو قائم إلا في إطار الإنتاج المعرفي, وهذا من شأنه أن يعني: ضرورة إعادة اكتشاف الأيديولوجيا, وهي عندما تُكتشف معرفيا تصبح منظومة مفاهيمية تؤسس لمفهوم العلاقة بين طبقة اجتماعية ومصالحها في الواقع المشخص, وهنا مفهوم الالتزام الطبقي, أو الفئوي, أو الشعبي, أو القومي. هذه الفكرة تؤسس لها الأيديولوجيا, فإذا ما غاب الإنتاج المعرفي يُؤسس لهذه الأيديولوجيا في الأفق المحتمل, إنتاج معرفي جديد, وهذا لايعني أننا نطيح بما أتى حتى الآن باسم الأيديولوجيا, إنما يعني أن نعيد اكتشاف هذا الذي تحقق (الأيديولوجيا) في ضوء جديد بحيث يتيح لنا هذا إنتاج علاقة متوازنة بين الإنتاج المعرفي والإنتاج الأيديولوجي, ولذلك هذه الدعوة الساذجة التي يطلقها جمع أو آخر من الكتاب والمثقفين العرب وهي: ضرورة الوقوف أخيرا في وجه الأيديولوجيات وتصفية الموقف معها, إنما هي دعوة لا علاقة لها بالإنتاج المعرفي ذاته, يعني هذه الدعوة أتت بوصفها رد فعل إيديولوجيا على أيديولوجيا معينة قائمة. إذن مع الإنتاج المعرفي نعيد اكتشاف الأيديولوجيا ونؤسس لأيديولوجيا تستطيع أن تتسابق مع الالتزامات المعرفية. فرفض الأيديولوجيا قطعا وكليا إنما هو نمط من أنماط الأيديولوجيا, وفي الغالب فإن ما دعا إليه هؤلاء من رفض للأيديولوجيا إنما كانوا يعنون به الأيديولوجيا الماركسية, وأحيانا يعتبرون الأيديولوجيا الإسلامية هي الأيديولوجيا. والأمران خاضعان للبحث, إلا أن الوصول إلى نتائج فيها تدقيق وتصويب معرفي يحتاج إلى إنتاج معرفي, وهو ما تتضاءل أمامه حتى الآن معظم المؤسسات العربية الثقافية المتمرسة بالعمل الثقافي والأخرى التي تشتغل بالهم الثقافي بأشكال أولية غير مباشرة.

التشكيك في الحداثة

  • ما بعد الحداثة هل هي إعلان لنهاية التاريخ ونهاية الإنسان ككائن مركب اجتماعي قادر على الاختيار الأخلاقي الحر ليحل محله إنسان ذو بعد واحد يدور في إطار المرجعية الكامنة أو يعيش دون أي مرجعية منكفئا على ذاته الطبيعية التي لا علاقة لها بما هو خارجها?

           - أظن ليس مصادفة تاريخية أن تبرز مسألة ما بعد الحداثة, بهذا الشكل الكثيف منذ العقد الأخير, أقول ليس مصادفة أن تبرز هذه المسألة وقد أخذ النظام العولمي أيضا منذ هذا العقد الأخير في الظهور والبروز والطغيان العالمي, فهناك علاقة في النشأة التاريخية بين هاتين الظاهرتين, أو بتعبير ما بعد الحداثة هنا ليس لقيطا لا أب له ولا أم, إنما له هذا الأب وتلك الأم اللذان قد تشترك في تكوينهما مجموعة من العوامل أرى واحدا منها متمثلا في النظام العولمي الجديد كيف? إن ما بعد الحداثة أتت لتشكك في الحداثة وقيمها ولتقول: إن هذه الحداثة قد استنفدت, وقد قامت بوظائفها واستنفدت أغراضها فالعقل والعقلانية ومفهوم التقدم ومفهوم التاريخية والعلمانية أصبحت مفاهيم ضيقة لا تحتمل النمو الذي يحدث الآن. ما بعد الحداثة هذه تمثل لحظة من لحظات النقد التاريخي للحداثة, وهي لحظة مشروعة بالمعنى المعرفي لأن الحداثة هذه والتي تأسست في النظام الرأسمالي والعلاقات الرأسمالية وتطور العلوم والتكنولوجيا بشكل عاصف متمثلا خصوصا بثورتي المعلومات والاتصالات, الحداثة هذه بدأت الآن بصيغة النظام العولمي تدعو إلى تفكيك الهويات التي أصبحت عائقا أمام التقدم يقولون إن مفهوم الوطن اصبح تضييقا على العالمية ومفهوم العقلانية اصبح تضييقا على ما قد يكون هناك من ظاهرة مع العقلانية أو حولها أو بعدها, لاحظ هنا تأتي ما بعد, ثم مفهوم التقدم التاريخي, هناك تشكيك فيه وهو صائب بمعنى ما, تشكيك بأن التقدم التاريخي ليس تقدما متصاعدا بصورة مطّردة وإنما هناك أنماط متعددة من التقدم أكثر تعقيدا وبشكل عام يمكن القول: إن هذا التقدم هو إلى الأمام كما هو إلى الخلف والى الجانبين كما هو في طراز دائري لولبي وبهذا المعنى, ما بعد الحداثة إذن تنتقد بصحة خصوصا في تدقيقها لمفهوم العقل والعقلانية, فالنظام الرأسمالي الحالي أختزل العقل إلى الحالة التي يمكن أن نسميها (العقل الإجرائي) فلم يعد العقل عقلا كونيا بقدر ما أصبح العقل أمرا مطلوبا منه أن يسوغ عملية التقدم المتلاحقة للنظام الرأسمالي. أما مفهوم التنظيم الاجتماعي, مفهوم القيم الأخلاقية, مفهوم القيم الجمالية هذه المسائل التي تعمق مفهوم العقل فأصبحت مرفوضة. ما بعد الحداثة إذن تأتي لتوجه هذا النقد الصائب لكن لتتوقف عند هذا النقد ولتعلن أنها غير قادرة على تقديم أجوبة على هذا النقد فهي إذ قدمت نقدا صائبا إلا إن الجواب لا يأتي من داخلها إنما يأتي من خارجها. التلازم النسبي التاريخي بين ما بعد الحداثة والنظام العولمي إذن تلازم يفهمنا أن العلاقة بين الفريقين علاقة قد تكون بنيوية, ولكنها في كل الأحوال علاقة وظيفية فكلاهما يسعى إلى تفكيك العالم, النظام العولمي يسعى إلى ابتلاع العالم والى إعادة بنائه سلعيا من خلال السعي لإيجاد سوق كونية واحدة يجري تبادل السلع فيها وهذا ما سمي بالقرية الكونية الواحدة, ومن ثم وحسب النظام العولمي لم تعد تتحدث عن أوطان وإنما تتحدث عن أسواق, سوق دبي, سوق هونغ كونغ, سوق ماليزيا, ولم يعد هناك وطن وكلاهما يسعى إلى تفكيك ما تكون حتى الآن. ما بعد الحداثة لا بديل عندها, لا مشروع عندها, ولذلك أصبحت تمثل خطرا لأنها تركت عملية التفكيك تتهاوى إلى ما قد نسميه الفوضى الكونية العالمية, أخذت الحداثة العقلانية وتركت ماذا بعد, هذه الما بعدية إذن تمثل أحد أركان ما بعد الحداثة لأنها تركتها معلقة, النظام العولمي أجاب عن هذه الأسئلة حين قدم مشروعه التاريخي وهو اختزال العالم إلى سوق كونية وهذا ما اقترن وتماهى, خصوصا في البدايات, مع الأمركة بحيث إننا نتحدث عن المشروع العولمي بوصفه مشروعا أمريكيا. إذن الآن نحن نعيش حالة جديدة في التاريخ العالمي إنها الحالة التي قد تمثل سقف العالم بمعنى أن النظام العولمي يسعى إلى إنهاء كل شيء تحقق حتى الآن وتحويله إلى بؤر سوقية معينة وابتعاث الهويات الأخرى غير المثمرة تاريخيا كتلك التي أشرت إليها مثل: الطائفية والإثنية والمذهبية الدينية وغيرها, ولكن بما أن التاريخ ليس مغلقا بالرغم مما أعلنه فوكوياما أو غيره فقد فتح التاريخ في النظام العولمي ذاته, في بلدان النظام العولمي عندما بدأت الانتفاضات انطلاقا من سياتل ولا أقول انتهاء لأن العملية أصبحت متدفقة مفتوحة.

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات