هل تفلح معاول العولمة في هدم الثقافات الأصيلة?

هل تفلح معاول العولمة في هدم الثقافات الأصيلة?
        

          لا يمكن للتكنولوجيا أن تصنع السعادة للبشر, وبالمقابل, بوسع الثقافة ذات المدلول الإنساني الحضاري أن تزرع فوق كوكبنا الأرضي الحرية, والطمأنينة, والأمن, والسلام وتخلق الرفاهية للجميع.

          ولأن الإنسان المعاصر أصبح أكثر إدراكا لضرورة استبدال نسق الرتابة والتوتر والمعاناة, بنسق فيه ضوابط الإنصاف والتوافق مع العقل, ومع القيم التي جاءت بها كل الديانات, وفي مقدمتها الدين الإسلامي الحنيف, وانبرت إلى ترجمتها الكثير من الفلسفات التي انشغلت قرونا, ضاربة في القدم, بسعادة البشرية.

          فقد استيقظت ضمائر مفكري الغرب, وهبت, على استحياء, لتنضم إلى قافلة المفكرين المصلحين, العرب والمسلمين, بحثا في أسباب شقاوة الإنسان المعاصر, واستخراج وصفات علاجية, بغية تخليصه من هذا العبث المأساوي الذي تنتجه آلات النظم الليبرالية.. ماضية بالمجتمعات البشرية إلى مصير مجهول, بل وتجرها إلى حافة الانهيار.

          ولا ريب أن مقالة حديث الشهر للدكتور سليمان إبراهيم العسكري بمجلة (العربي) عدد يناير 2003, تندرج في هذا الإطار, إطار الصحوة الفكرية العالمية المعاصرة, وهي صحوة تأتي لتدحض مزاعم العولمة الظالمة, ففي المقال محاولة لتشخيص مرض العصر, المتمثل في نعرة الهيمنة عند أشد أنواع الثقافات عدوانية وضراوة, وأكثرها تخلفا وعنصرية, فلقد وضع إصبعه على الوباء الحقيقي لمحنة البشرية في المجتمعات المتنامية, بل وأيضا في المجتمعات النامية, حيث العلم والتكنولوجيا, ووسائط الاتصال ووسائل الانفصال, والاستغلال, والاقتتال, والابتذال... بلغت درجات عالية جدا من التطور والتبضع, وحيث اقتصادياتها قفزت إلى مستوى رفيع من القوة والتنوع, بصورة لم توفر لأحد الراحة المطلوبة, والسعادة المسلوبة, واكتفت بإغراق القلة القليلة في بحار من المتع التافهة المبتذلة, وفي سيول من التبذير والانحلال والمهزلة, معيدة إنتاج الهرمية.

          وكانت النتيجة, أن أغرقوا أنفسهم في الهموم والضياع, وأغرقوا الآخرين في المحن المتلاحقة.

تمرد المفكرين المصلحين

          ليس من قبيل العبث أن يستصرخ مفكرو الغرب, المنشغلون بقيمة الإنسان, ضمائر العالم في سبيل إنقاذ الإنسانية من الكارثة, حتى أن أديبا عالميا, كالكاتب الفرنسي إميل زولا (1840 - 1902) قد كتب يقول في مؤلفه الشهير(إني أتهم...), وذلك في مضمار بحثه عن العدالة والحقيقة:(ليست لدي سوى رغبة واحدة في حياتي, هي أن أرى النور باسم الإنسانية, التي عانت.. ولها الحق في السعادة).

          وقبله بكثير انشغل جميع الفلاسفة والمفكرين بالهاجس نفسه. ولقد أعطى الفكر اليوناني والروماني اعتبارا مركزا لمحاولة تفسير التاريخ والتطور, من زاوية البحث عن سعادة الإنسان. ذلك كان ديدن سقراط وأفلاطون وأرسطو في القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد, ومن تبعهم فيما بعد, مثل الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (1623  - 1662) الذي درس المجتمعات, ودرس الأفراد... واهتدى إلى الاستنتاج أن كليهما مآله العجز والشيخوخة والانقراض. أي أن الفتوة والقوة, مهما بلغتا من العتو, لا بد أن تصيرا حتما إلى زوال, ومثل فرنسيس فوكوياما, المفكر الياباني المعاصر, الذي أصبح يقول بنهاية التاريخ, ونهاية البشر... انطلاقا من المعاناة النفسية والفكرية التي  يعيشها هو وأضرابه داخل المجتمع الأمريكي الحديث, الذي تُسخِّر دولتُه مختلف وسائل القهر والتضليل, للهيمنة على العالم, وتدفع بمنظِّري الشر لديها, من أمثال صمويل هنتنجتون, الذي يزعم أن العالم هو اليوم ضحية لصراع الحضارات, جاهلا, أو متجاهلا أن الحضارة ذات قيمة إنسانية واجتماعية, ولها مدلول تقدمي, لا مدلول رجعي, كالمدلول الانتهازي, الذي يقول إن (على المرء أن يدور مع مصالحه, لا مع مبادئه).

لا وجود للصراع

          وبالتالي, لا يمكننا أن نتصور وجود حضارات متنافرة فيما بينها, تتصارع أو تتصادم, لتلغي إحداهما الأخرى! ذلك أن الحضارات جميعها مكملة بعضها البعض الآخر, غاياتها واحدة مشتركة: هي دفع الناس إلى تفعيل التاريخ, وتحريكه في الاتجاه النبيل, عن طريق العمل على إشاعة الحريات, وتطوير أنظمة العدل والمساواة, وثمرات العلوم فيما بينهم.. كي يتمكنوا من توظيف قدراتهم ومواهبهم المتنوعة, لصالح أنفسهم, ولصالح الآخرين, الحاضرين منهم والقادمين من الأجيال. وكلما ارتقى العلم بالإنسان, ازداد هذا الإنسان تواضعا واقترابا من الناس, وسعى إلى محبتهم وخدمتهم بعلمه وماله. ألم يقل شاعرنا العربي: (لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب).

          وعلى العكس.. كلما تمكن الجهل من الإنسان - والجهل أنواع, كما نعلم - إلا وابتُليَ بمركب العظمة, وبالإحساس بأنه قوة لا تقهر, وسعى إلى محاولة فرض معتقداته على الآخرين, دينية, أو مذهبية, أو سياسية.. بدل التعايش, والتواصل, والتلاقح, والتلاؤم معهم. وقد نبه القرآن الكريم, في مجمل سوره وآياته, إلى وجوب تجنب العجرفة والخيلاء والسيطرة, ومحاولة ركوب الغرور والهيمنة, ورؤية الناس كما لو كانوا قطيع نمل! ففي سورة الإسراء يقول جل من قائل: ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا. كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها, ويقول أيضا في سورة الغاشية, مخاطبا نبيه الكريم, وهو خير المرسلين: فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر !

حنين إلى العصور الظلامية

          من المؤكد إذن أن ثقافة الهيمنة - مرض العصر - التي تحدث عنها الدكتور سليمان إبراهيم العسكري, تحمل في طياتها مضمون التخلف في أبعد معانيه, فهي بحق وحقيق ثقافة رجعية, تسلطية تآمرية... للأسباب الآتي ذكرها:

          - فهي تحن إلى العصور الظلامية, عصور الغاب والافتراس, حيث الوحوش الضارية والقوارض الباغية... لا هم لها غير سحق الصغار وابتلاعهم, كما تتوق إلى عهود الاستعمار والإمبريالية ونظام المستعمرات!

          - وهي تتعجل نهايتها, بسعيها إلى بلوغ ذروة الأشياء على رقاب الناس, ذروة الثراء الفاحش, ذروة القطبية والهيمنة. والحالة أنه في البيولوجيا - كما في الجيولوجيا - لا يوجد سطح بمعزل عن السفح الذي تنحدر إليه الذروة بفعل التفاعلات الكيميائية والميكانيكية الداخلية, كحتمية للتطور, صعودا وهبوطا. إن التطور ليس معناه التقدم والرقي, بالمفهوم المطلق.. إن له حركة عكسية كذلك, تؤدي إلى الانزلاق والاضمحلال.

          - وهي, من جهة أخرى, تنسى أن قيامها هو حصيلة تراكم طبيعي لثقافات متعددة, أسستها شعوب وشعوب منذ بداية الخليقة, بغض النظر عن أجناسها, ولغاتها, ومعتقداتها, ومواطنها الجغرافية, ودرجات تقدمها

          - وهي داعية إلى الحروب, إلى الدمار والفناء, كما لو كانت حَفارَ قبور, يعتني, أشد العناية, بحفرقبره!! بدل أن تكون داعية صلاح وفلاح, وقطبَ وئام وسلام.

الثقافات لا تموت

          إن الثقافات, المزعوم أنها ثقافات الأصغر والأدنى, لا يقتصر دورها على مقاومة الفناء في وجه جبروت الثقافات الطامعة في الهيمنة, فكل ثقافة تحيط نفسها كمحصلة بدهية, بأسباب البقاء, وضمانات الخلود.. ما بقي في محيطها قلب ينبض, وعقل يرفض, وقلم ينهض. فلا ينبغي أن تدفعنا الجرأة, وتَسَطُّحُ المعرفة إلى الاعتقاد بأن ثمة ثقافات اضمحلت وانقرضت, لمجرد أن تكون دولها قد بادت, بعد أن دالت زمناً معينا! فقد يطوي النسيان دولا وأنظمة ورجالا.. ولا يصير لهم رسم في خارطة, أو ذكر في ذاكرة.. ولكن ذلك لا يعني أن منتوجهم الفكري وأثرهم الحضاري لم يتغلغلا, كموروث طبيعي في المنتوج الذي تلاه.. بل إن هذا المنتوج إنما يخرج بالضرورة من صلب سلفه, شاء من شاء, وأبى من أبى!

          ولذلك, فإن كل ثقافة تحلم بإقصاء ثقافة أخرى, هي - أولا - ثقافة رجعية بكل المقاييس. وثانيا, هي ثقافة تحرث في البحر. ولا نقول ذلك من باب الدفاع عن النفس, أو لأننا ننتسب إلى الثقافة المستهدفة حاليا.. بل لأن تلك هي الحقيقة الساطعة. فمنذ نشأتهما كانت الثقافتان, العربية والإسلامية, دوما مستهدفتين من الغزاة والمستعمرين.. دون أن تتعرضا للموت.. على العكس, اشتد ساعداهما, وقويت شكيمتاهما. وتتوافر اليوم الثقافتان العربية والإسلامية على كل المناعات والضمانات المقاومة للطمس والمسخ, أو حتى للتلاشي. ولعل في العاملين التاليين دليلا على صحة ما نذهب إليه:

          - الثقافتان معا ترتكزان على القرآن وعلى السُّنَّة المدونتين في المصاحف وفي الكتب, بكل لغات الدنيا, ومدونتين كذلك في العقول, يرثهما جيل بعد جيل. ومن المستحيل تدميرهما. والقرآن, والسنة.. يمدان الثقافتين العربية والإسلامية بمقومات الاستمرار والتجديد.

          - الثقافتان العربية والإسلامية, تتميزان بوجود تراث شِعْري قل نظيره في باقي الثقافات, متماسك, موزون, وسهل الحفظ, محفوظ ومدون باللغة العربية, لا يفتأ يترسب في وجدان وعقول الأجيال العربية, حتى وإن بدا للبعض أن سيطرة المادة والتكنولوجيا في عصرنا, هي سيطرة مطلقة.

المراهنة على الباطل

          ألا يمثل عامل تشكيك في القدرة العقلية للغرب, بثقافاته وتكنولوجياته المتوحشة, إمعانُه في صناعة النجوم, تلك الفقاعات التي سرعان ما تتبخر في الهواء, مع مرور الوقت? إن المراهنة على (البطل) في كرة القدم مثلا, أو في كرة التنس, أو الملاكمة.. نوع من القمار, بل هي القمار ذاته, يتفانى في خدمة شبكة من الشركات والاحتكارات الليبرالية المتوحشة: بدءا بمنتجي الألبسة والأحذية والجوارب الرياضية, إلى المشروبات والسجائر.. وكل الصناعات التي يراد تكييفها مع (البطولات) الرياضية, بغرض الزيادة في إثراء أرباب الشركات والقنوات التلفزية, والرمي بالفُتات لـ (الأبطال) الذين يجدون أنفسهم, بعد أقل من عشرة أعوام: منهكين بالأمراض المزمنة التي تنخر مفاصلهم, وركبهم, وأدمغتهم... وتقذف بهم عرضة للنسيان, بمجرد مغادرة الميدان.

          على أن أبطال التاريخ الحقيقيين, هم الذين صنعوا الحياة بأفكارهم وأقلامهم ومخترعاتهم.. فظلوا, ويظلون أحياء أبد الآبدين.

          إن الثقافة العربية لم تَسْعَ, في أي زمن من الأزمان, إلى الهيمنة على ثقافات الغير, وليس بوسعها أن تفعل ذلك, لأنها ثقافة تقدمية ومتقدمة, تشرئب دوما إلى المستقبل اللامتناهي, وتحمل في طياتها أوصال المناعة والحصانة ضد كل الفيروسات المدمرة.

          فهي إذن لا تخشى من الثقافات التي تلتفت إلى الوراء باستمرار, وتحن إلى عهود الهيمنة والانقضاض والامتصاص. أما الثقافة العربية.. فتجعل من كنوز الماضي رصيدا لحاضرها, وأنوارا تضيء لها آفاق المستقبل, في تناغم تام مع ثقافات الأمم والأعراق الأخرى.

          ولا يمكن أن ننسب إلى جوهر الثقافة العربية وتوجهاتها ما يلاحظ في بعض البلدان العربية من ميولات ثقافية, يُفهم منها إقبار ثقافة الآخر, كثقافة الأمازيغية, أو الثقافة الكردية, أو الثقافة الأرمينية التي تعرض شعبها الأرمن إلى الإبادة الوحشية على أيدي العثمانيين, منذ القرن التاسع عشر, نتيجة المذابح الممنهجة, وأعمال التقتيل والتهجير الجماعي, التي انتهت بالشعب الأرميني المسكين إلى التمزق والتشتت في عدد من الأقطار العربية.. كأقليات, وفي أوربا وأمريكا.

          وخلاصة القول, إن مرض العصر, المتجسد في ثقافة الهيمنة, التي نراها اليوم تحمل معاول أكثر فتكا ودموية, هي معاول العولمة... سيفتك, أول ما سيفتك, بأصحابه.. قبل أن يفتك بثقافات الشعوب.

          وخير للدول الغربية, التي تسعى - عبثا - عن طريق التعصب للفرنكفونية, أو للأنجلوساكسونية.. أن تحول الإنسان الأسود الإفريقي, والإنسان الأصفر الآسيوي, والإنسان العربي... إلى أجساد تتحرك في العالم وعلى أعناقها جماجم أمريكية وبريطانية وفرنسية وإسبانية... خير لهذه الدول أن تبحث عن سبيل آخر للعظمة والسيادة والخلود, أكثر عقلانية وديمومة. وليس لها أفضل من العمل على بناء عالم جديد متحضر, غير غابوي متوحش, تبنيه سوية مع سائر الشعوب والدول, أنى كان حجمها, تعدادا ومساحة.. عالم تلغى فيه العنصرية تماما, وعقدة التفوق العرقي والمادي والعسكري.

 

أحمد هناوي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات