الثوابت والمتغيرات وإشكالية الزمن في الثقافة العربية

الثوابت والمتغيرات وإشكالية الزمن في الثقافة العربية
        

          إذا كنا نسلم بأن تحكم نزعة الانشغال بالماضي والتعاطي مع مفرداته بذهنية تقليدية هو من أبرز ما يعوق حركة الثقافة العربية الإسلامية الراهنة ويمنع تطورها, فهل يسوّغ لنا ذلك أن نضع الحاضر في مواجهة مع الماضي ونعبئه ضمن ثنائية متناحرة على نحو ما ورد في مقال الدكتور علي أسعد وطفة (إشكالية الزمن ومأزق الثقافة العربية) المنشور في (العربي) العدد (529) ديسمبر 2002م?

          بداية لابد من الإقرار بأن ثمة سلبيات تنوء بها ثقافتنا الراهنة في مقدمتها على الصعيد الذهني الافتقار إلى ملكة التجاوز والأخذ بالقراءة اللاتاريخية للتراث واتباع المنهج الذي تتم بموجبه مقايسة حاضر الأفكار والمواقف بغائبها دون وعي باختلاف السياقات ولا تمييز بين أفكار حية وأفكار ميتة, ولا فرز بين مواقف مشعة وأخرى لا ترسل الإشعاع.

          ومن السلبيات أيضاً إثارة ما استُهلك من موضوعات جدلية وإحياء ما انقضى من صراعات والمبالغة في تمجيد الكتب والأشخاص والتغني بأمجاد السلف واجترار سلبيات التراث, وإهدار الطاقات فيما لا جدوى أو قيمة من ورائه بعيداً عن هموم الحاضر وما يقتضيه الواقع من شروط ومستلزمات.

          وليس من شك بأن التوجه نحو الماضي على هذا النحو يمثل مأزقاً مؤسفاً تعاني منه ثقافتنا اليوم.

          ولكن هل يكون من المناسب ونحن في صدد نقد هذا المنحى أن ندعو إلى الانصراف كلياً عن الماضي ونطالب بضرورة محوه من الذاكرة بحجة آن التفكير بإقامة المعابر بينه وبين الحاضر لا ينتج إلا لغواً وتراجعاً إلى الوراء?

          إن الإجابة على هذا التساؤل تقتضي منا أن نفرق بين نوعين من الثقافة هما (ثقافة الواقع) و(ثقافة المعيار) ثم أن نميز بين (الثوابت) و(المتغيرات) على نحو ما هو محدد في الثقافة الإسلامية المعيارية.

الواقع والمعيار

          ثقافة الواقع هي مجموعة العادات والتقاليد والنظم وأنماط العيش وما يُستخدم من أدوات وتقنيات ضمن إطار اجتماعي معين. والثقافة في بعدها (الإبداعي) تقع ضمن هذا المعنى الذي يتبناه أغلب الباحثين في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا منذ (تايلور) و(وليام أوجبرن) و(رالف لنتون) حتى آخر باحث في مجال العلوم الإنسانية.

          أما الثقافة في بعدها المعياري, فهي جملة القيم والمعايير والأفكار والتصوّرات النموذجية التي توجه الفكر والسلوك بصرف النظر عن مدى تجسيدها على أرض الواقع, وهي بهذا المعنى تقترب من مفهوم الأيديولوجيا.

          وما يهمّنا من هذه التفرقة هو أن ننبه إلى ذلك الخطأ الذي كثيراً ما يقع فيه بعض نقّاد الثقافة العربية الإسلامية حين لا يميّزون بين البعد العيني والبعد المعياري حتى أنهم يسقطون ما يعكسه الواقع على دائرة المعيار, فالمعيار تشكّله النصوص والتصوّرات النموذجية, بينما الواقع لا يشكّله إلا الناس بميولهم وشهواتهم وعوامل تكوينهم والظروف المحيطة بهم, وما يحكمهم من مصالح وأوضاع. لذا فليس من الصحيح الحديث عن ثقافة الاستبداد والتعصب وفوضى البيئة وإهدار الوقت وتجاوز النظام, ويكون المعنى بذلك الثقافة الإسلامية بصفتها المعيارية, فيما نعرف أن هذه الثقافة تدعو إلى الشورى والتسامح والاعتراف بالآخر, وتحث على النمو ونظافة البيئة وتقدير الوقت والتزام النظام.

          وهذا ما كان في وعي مالك بن نبي حين قيد (الماضوية) و(اللفظية) و(الازدواجية) و(التجزيئية) و(التبريرية) ضمن أطرها الزمنية ولم يتناولها إلا بصفتها حصيلة تمخضت عن ثقافة التداعي التي شهدها العالم العربي والإسلامي بعد خروجه من الحضارة عقب انهيار دولة (الموحدين).

          ولا يقلل من قيمة الثقافة الإسلامية إذا ما كشف المفكر المغربي محمد عايد الجابري عمّا انطوت عليه أنظمة التفكير العربي من (تجزيئية) مثلتها مناحي (البيان) و(العرفان) و(البرهان) مادامت (التكاملية) هي المنهج الذي تكرّسه هذه الثقافة في بعدها المعياري.

          من هنا نقول إن الوقوف على هذا التمايز بين الثقافة المعيارية وثقافة الواقع هو ضرورة موضوعية تبرز قيمتها حين يفقد الحجاج الحداثي جدارته وهو يتخذ من سلبيات الماضوية - باعتبارها جزءا من الواقع - مدخلا لتجاوز المدركات الثقافية التي تنتمي إلى المعيار لا الواقع.

الوعي بالمنطق

          ومن المسائل الأخرى الجديرة بالإثارة - ونحن في صدد الإجابة على ما سبق أن طرحناه من تساؤل - مبدأ الثوابت والمتغيرات:

          في بنية الثقافة الإسلامية المعيارية يحتل مبدأ الثوابت والمتغيرات مكانة محورية يمكننا معرفتها عند معرفتنا معنى الثوابت ومعنى المتغيرات.

          (الثوابت) هي مجموعة العناصر المحددة أصوليا والتي تمتد لتؤكد مستويات من العقيدة والأخلاق والتشريع والاجتماع وتشكل بمجموعها المكوّن الرئيس لهوية الأمة بله نواة الاستقطاب التي تتمحور حولها الثقافة الأساسية لمجمل عناصرها, فيما (المتغيرات) هي كل ما خرج عن دائرة تلك الثوابت ولم يكن ثمة نص قاطع فيه, وهذا مجال هو من الرحابة بحيث يتيح لأهل العلم حرية الخوض فيه, أي حرية الاجتهاد فيما يُعد فروعا وجزئيات وتفاصيل وعلى النحو الذي يترتب عليه اعتبار (التفاسير) وتحقيق (الأحاديث) واستنباط (الأحكام) والمكتوب من (التاريخ) واجتهادات أهل (الفكر) و(السياسات) عناصر غير ممنوعة من المراجعة أو القراءات الجديدة.

          ولكن في ظل التباسات النقد الثقافي الراهن, هل لنا أن نعتبر الجهل بمبدأ الثوابت والمتغيرات أو عدم الوعي بالمنطق الذي يحكم هذا المبدأ - ناهيك عن غياب التفرقة بين الثقافتين الواقعية والمعيارية - هو الذي يقف وراء تلكم النزعة الحداثية التي تصر على ادّعاء أن لا قيمة تختزنها الجذور ولا جدوى من وراء التراث على الإطلاق?

          إن الثوابت بمحدودية عناصرها وإجمالية معانيها والمتغيرات بسعة مجالها وتنوع موضوعاتها حريتان بتشكيل نظام معرفي يتيح للفكر والسلوك إمكانات المبادأة والتحرك نحو ألوان التجدد بما لا يبرر للحداثيين نبذ الأصالة, ولا للماضويين الامتناع عن التحرر والتجديد, وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد على أن إشكالية الزمن التي تُطرح بوصفها الوجه الآخر لإشكاليات التأخر والتقدم ما هي إلا إشكالية مصطنعة, ذلك أن التعامل مع معطيات الأزمنة أخذاً وردا واصطفاء ونبذا إذا ما تقرر على أساس الالتزام بالثوابت والفعالية الموضوعية لكفيل بإكساب حركة الثقافة جدارة التحكم بالحاضر وقدرة استشراف المستقبل وحسن استصحاب الماضي دونما تناقض أو صراع.

          إن الحداثة التي سطعت في سماء الثقافتين اليابانية والصينية لم تمنع اليابانيين والصينيين من التواصل مع الماضي ورموزه, بل لعل تواصلهم هذا كان أحد مقومات نهضتهم الحديثة, حتى الثقافة الغربية التي قد يظنها البعض خالصة الحداثة لم تنقطع هي الأخرى عن مثل هذا التواصل.

          لا ندري مدى دقة ما ذهب إليه (ماكس فيبر) عالم الاجتماع الألماني المعروف من أن رأسمالية الغرب هي الوليد الشرعي للمؤثرات (البروتستانتية) ولكنا على دراية أن الأوربيين وهم يؤسسون لنهضتهم لم يتجاوزوا التراث بما في ذلك تراث الآخرين, كما أن الغرب بما يضعه اليوم من سيناريوهات تتصل بعلاقاته الحضارية مع العالم لم يبتعد عن رؤى الماضي ولا عن أوهامه!

          إذن هل لنا أن نقول مع د. أنطوان سيف بأن القطيعة الثقافية بمعناها الحرفي والمطلق هي استحالة إبستمولوجية? وهل لنا بعد ذلك أن نستغرب ونسأل: لماذا حين يثار الحديث عن ضرورات تجديد اللحظة الثقافية الراهنة تبرز أمامنا عقدة الماضي وبهذا الشكل غير الصحي الذي قد يصل عند البعض إلى حدود الهجاء والمنابذة ونفي أي قيمة إيجابية يمكن أن ينطوي عليها التراث, بل وأي مغزى إلهامي حتى حين يُفترض مع (الدم الذي انتصر على السيف) أو الحق الذي علا في (حطين) أو الصمود الذي انجلى في (عين جالوت) أو مع غير ذلك من الوقائع والمواقع والمآثر المدخرة.

          أنه لمن الإجحاف أن يقرن التخلف بكل أشكال الاتصال مع الماضي فيما يحصر التقدم بما هو حديث ومعاصر.

          الحقيقة أن مبدأ الثوابت والمتغيرات حين يأبى لنا الوقوع أسرى زمن معين, فإن ذلك يعني تحذيرنا من الغلو بشكليه (الحداثي) و(الماضوي) ومن ثم تسليحنا بالمنهج الذي تعبر وفقا له جميع المعطيات التي تملك صدقها المعياري وفعاليتها العملية محل تقدير واعتبار بصرف النظر عن ولاداتها الزمنية.

          وختاماً نقول إنه في ظل مشروع إعادة بناء الثقافة العربية الإسلامية الراهنة يصير من المهم أن نأخذ بالتفرقة بين ثقافة الواقع وثقافة المعيار, وأن نتبصر بمبدأ الثوابت والمتغيرات, وأن نستثمر ما يتيحه هذا المبدأ من جدل بين (الواقع) و(النص) و(المعاصرة) و(التراث) و(الماثل) و(الآتي) على النحو الذي من شأنه إنعاش عروق ثقافتنا الذابلة وإمدادها بدم التجديد.

          كما لابد من القول أخيراً بأن صيانة الثوابت وإطلاق حرية التفكير ضمن حقل المتغيرات كفيل بأن يبلور لنا الكثير من المدركات الثقافية ويحرّك العديد من التصورات الساكنة ويمنحنا ثقة التعامل بكفاءة وإيجابية مع جميع الأماكن والأزمنة, فضلاً عن ترشيده الكثير من السلوكيات الخاسرة التي لا تعرف الطريق.

 

علي القريشي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات