من المكتبة الأجنبية: مواجهة

من المكتبة الأجنبية: مواجهة

عرض: محمد الظاهر**

«مواجهة» هو عنوان الكتاب الجديد الصادر للروائي التشيكي ميلان كونديرا، وهو الكتاب الرابع في سلسلة كتب المقالات التي صدرت لهذا الروائي الكبير، وقد قامت بترجمته من الفرنسية إلى الإنجليزية ليندا آشر التي قدمت لنا مقدمة شديدة الذكاء تتيح لنا قراءة الكتاب بطلاقة، مع أنه لا يمكن تخيل قراءة هذا الكتاب الجديد دون تحديات أو تعليمات أو إثارة، لكن القارئ سيكون سعيدًا في نهاية المطاف.

وكونديرا لمن لا يعرفه، أحد المهاجرين من الرعب الشيوعي الذي ساد تشيكوسلوفاكيا سابقًا استقر في باريس، وشرع يكتب باللغة الفرنسية، لكنه اكتشف خلال إقامته في فرنسا أننا «قد وصلنا الى عصر ما بعد الفن، في عالم يموت فيه الفن، لكننا في أمس الحاجة إليه، إنه يموت لحساسيتنا تجاهه ولحبنا الكبير له».

في هذا الكتاب يحتفل كونديرا بالعديد من المبدعين: روائيين، شعراء، موسيقيين، رسامين، كانت مهمتهم إبقاء الجمال على قيد الحياة، من خلال ست وعشرين مقالة، لا يتجاوز بعضها بضع صفحات، وبعضها أطول قليلاً.

على رأس الذين حاول كونديرا إنصافهم في هذا الكتاب، المسرحي الألماني الكبير برتولد بريخت، وذلك من خلال مقالة بارعة بعنوان «ما الذي تبقى منك يا برتولد بريخت؟».

يبدأ كونديرا المقالة بالإشارة الى مقالة سابقة نشرت عام 1999، في «باريس ويكلي»، ويقدم لنا مثالاً مثيرًا للرعب، حين يتحدث عن كتاب من ثمانمائة صفحة عن برتولد بريخت، دون الإشارة إلى اسم الكتاب أو اسم مؤلفه الأكاديمي، لكننا من خلال السياق نعرف أن عنوان الكتاب هو«برتولد بريخت والمؤسسة» من تأليف جون فيوجي. والكتاب في مجمله قائم على فضح دناءة نفس بريخت.

ويواصل كونديرا سخريته من الكتاب والكاتب بقوله: «آه يا برتولد ما الذي سيتبقى منك؟!».

ربما يكون مجحفًا لفيوجي ، الذي كشف بالفعل عن غرابة أطوار ذلك العبقري، وربما يكون مثل هذا العمل مجرد مثال تعميمي، ولكنه مثال يظهر مهارة كونديرا الساخرة في طرح أسئلة مثيرة للقلق.

هذه السخرية التي تحاول الاقتصاص من الباحثين الذين تركوا إبداعات المبدعين وتفرغوا لدراسة حياتهم، حيث بدأوا ينبشون وثائق هؤلاء المبدعين من أجل الوصول إلى الخطايا الخفية لهؤلاء المبدعين، مشيرًا في النهاية إلى أن أوربا بدأت تتجه إلى «عصر المدعين العامين»، أي محامي الادعاء الذين يحاولون قتل المبدعين.

يقول كونديرا: «لقد أنتجت فترة نهاية القرن العشرين دراسات كثيرة عن غراهام غرين، وأرنست همنجواي، وتي اس اليوت، ولاركين، وبريخت،وهيدجر، وبيكاسو، ويونسكو، لكن التركيز تحول من دراسة إبداعات هؤلاء المبدعين إلى البحث عن خفايا حياتهم الخاصة التي لا علاقة لها بإبداعهم.

هناك الكثير من الشخصيات الإبداعية التي حاول كونديرا إنصافها، لا يتسع المجال لحصرها، لكننا نذكر على سبيل المثال: كوكو شانيل، ماريا كالاس، بيل غيتس، بيكاسو، ايف سان لوران، ايزنشتاين، بيرغمان، فيلليني، وغيرهم من المبدعين في مختلف المجالات.

من أهم الجوانب الإيجابية الكبرى لكتاب كونديرا الجديد «مواجهة» انتصاره للمواهب المنسية أو المواهب التي أسيء فهمها، ومن بين هذه المواهب خوان غويستيللو، سلين، الموسيقي يانيس اكزيناكيس، امي سيزر، ومبدعون آخرون من جزر الانتيل (مثل ايمست بريلور) والكاتب كورزيو مالابارتي ، كما أننا نراه يدافع عن الصورة البشعة التي رسمت لفرانسيس بيكون مقارنًا إياه بصامويل بيكيت. ويشيد بسيلين لموقفه السياسي، ورفضه إثارة أية ضجة من أي شيء، بما في ذلك الموت. وبالنسبة للموسيقي اكزيناكيس، يشير إلى الموسيقى اللاإيقاعية التي تحمل «الجمال الذي يعمل على غسل قذارة العاطفة، ويجردها من وحشية العاطفة»، بمعنى آخر أن الرومانسية هي المعادل الموضوعي للفن الهابط.

بالنسبة لمالابارتي يمجد كونديرا الاعتراف بأوربا الجديدة، أوربا ما بعد الحرب، «والتي ولدت بعد هزيمة مذهلة ليس لها مثيل في تاريخها»، لتصبح محررة، ولكنها في الوقت نفسه محتلة من قبل الولايات المتحدة وروسيا. أما بالنسبة لدانيلو كيس، الكاتب الصربي المجري فإنه يثني على كاتب «لم يضحِّ برواياته من أجل السياسة»، ومثله مثل كونديرا استلهم أعماله من رابليه والسرياليين أمثال لويس أراغون وأندريه بيرتون وبول إيلوار وفيليب سوبولت. هناك إشادة كبيرة بتجربة جديرة بالتقدير ولم تستوفِ حقها في التقدير وهي تجربة أناتول فرانس الروائية خاصة روايته المعادية للسياسة « الآلهة عطشى»، وأيضًا لتجربة الروائي التشيكي الكبير بوهاميل هرابال ، المعروف لدى العالم من خلال الفيلم الذي بني على روايته «مشاهدة القطارات عن كثب» والذي هوجم بشدة من قبل زملائه لأنه استمر في نشر أعماله في حين التزم زملاؤه الصمت في ظل النظام الشيوعي: «عالم يمكن للشخص أن يقرأ فيه هرابال هو عالم مختلف تمامًا عن عالم لا يكون صوته مسموعًا!

كونديرا من مؤيدي مبدأ عدم الجدية «وهو أحد احتمالات فن الرواية التي ظلت مهملة طوال تاريخها»، أو بشكل أكثر دقة، على مر القرون بين رابليه وجويس. إن كونديرا هنا لا يقف في صف الرواية الحديثة المضادة للرواية «التي لا نجد فيها شخصيات أو عقدة أو حكاية، أو حتى علامات ترقيم». وإنما هو في صف - كما كتب في رسالة مفتوحة لكارلوس فوينتس - فيما يسميه «الرواية المقوسة» التي يجدها في أعمال هيرمان بروخ مثل «السائرون نياما» و«موت فرجيل». وهو أيضًا من المعجبين خلال هذه المقالات بكافكا وغومبروفتيش وبالخفة والسخرية اللتين يجدهما في أعمال أناتول فرانس.

إنه عاشق للمفارقات، وهو داهية في إلقاء الضوء على التناقضات التي يعتبر من أسيادها، كما يوضح في دوستويفسكي «الغياب الهزلي للهزل» الذي يرحب بالشخصية الروائية للدخول بكل صخبها إلى عالم يفتقر الى روح الدعابة، التي لا نسمح لها بالعيش بيننا». وعلى النقيض من ذلك نراه يكتشف في قصيدة لأوسكار ميلوش ذلك الحنين إلى الماضي الذي يعرب عنه نحويًا، ليس من خلال الماضي وإنما من خلال المستقبل. «الإعراب المستقبلي للحنين» إنه «الحزن المفجع للوعد الذي لا يمكن أن يتحقق أبدًا».

إن كونديرا يبدي شكوكًا خطيرة حول الإنسانية: «على الرغم من ثراء التجربة الإنسانية للناس إلا أنهم خرجوا من محنتهم التاريخية بالغباء نفسه الذي كانوا عليه عندما دخلوا إليها». وهو على وجه الخصوص يشجب القوائم السوداء: «إننا نعيش جميعًا تحت رحمة القوائم السوداء وأحكامها وتعسفها غير القابل للاختبار، ونحن دائمًا على استعداد لتقبل أناقتها الغبية، وهذه هي المفارقة المذهلة». باختصار فإن «مواجهة» أنجز لنا الكثير، بما في ذلك تعريفنا على بعض الروائيين مثل الروائي الآيسلندي غودبيرغر بيرغسون، والبولندي ماريك بنتشزنيك، والمارتنيكي باتريك تشامويسو. وأعاد تعريفنا بشكل بليغ بمالارتي، الروائي الذي رفض من قبل الكثيرين منا لأنه مبدع أسلوب جديد في «كابوت» و«الجلد» حين جعلنا نقف على إبداع بعيد المنال يراوح بين الصحافة والخيال، وبالتالي إنتاج إبداع مهم.

« مواجهة » كونديرا إضافة إبداعية جديدة في سياق كتبه البحثية التي تكشف لنا عن عبقرية مذهلة بعيدًا عن إبداعه الروائي الذي كرسه روائيًا عالميًا ذا بصمة إبداعية خاصة.
--------------------------------
* كاتب فرنسي من أصل تشيكي.
** كاتب من مصر.

 

 

 

تأليف: ميلان كونديرا