مجالس العلم ومكانتها في الحضارة العربية الإسلامية

مجالس العلم ومكانتها في الحضارة العربية الإسلامية
        

          إن المنتديات الفكرية و(الصالونات) الأدبية والثقافية, المنتشرة في أيامنا هذه, ليست ظاهرة جديدة في تاريخ الثقافة العربية, وإنما هي تجديد, أو بالأحرى, استمرار لتقليد ثقافي عريق في حضارتنا. بل يمكن القول, باطمئنان, بأنها من الظواهر القليلة التي ظلت قائمة وفاعلة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية, حتى عندما كانت تجتاز, هذه الحضارة, أكثر مراحلها ضعفاً وانحطاطاً. وعلى الرغم من اختلاف الموضوعات, التي تتناولها (صالونات) ومنتديات اليوم, بشكل أو بآخر, عن تلك التي كانت تتناولها مجالس الأمس, فإنها تحمل الرسالة نفسها, رسالة العلم والمعرفة والتقدم.

          وقد أدرك عدد من الأدباء والمؤرخين العرب المسلمين أهمية هذه المجالس وقيمتها الحضارية, فألّفوا كتباً تتناول ما كان يدور فيها من وقائع علمية وأدبية, مثل عبدالرحمن الزجاجي (ت 340هـ), الذي ألّف كتاباً بعنوان: (مجالس العلماء), عرض فيه لعشرات من المجالس العلمية التي كانت تعقد في بلاط بعض الخلفاء والأمراء والوزراء والعلماء, وما كان يجري فيها من مناقشات ومناظرات في اللغة والأدب والتاريخ والفقه. ومثل جلال الدين السيوطي (ت 911هـ), الذي خصص فصلاً كبيراً في الجزء الثالث من كتابه المشهور: (الأشباه والنظائر) للحديث عما أطلق عليه اسم (المناظرات والمجالسات والفتاوى والمكاتبات والمراسلات). كما أشارت إلى هذه المجالس كتب الأدب, مثل كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني, وكتب التراجم, مثل كتاب (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) لمؤلفه ابن خلكان, وكتب الطبقات, مثل كتاب (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) لمؤلفه القفطي, وغير ذلك.

          يبدو إن جذور هذه المجالس إنما تعود إلى تاريخ العرب قبل الإسلام, إذ من المعروف أنه كان للعرب مجالس يجتمعون فيها لمناشدة الأشعار ومبادلة الأخبار والمسامرة, وكانوا يسمون تلك المجالس (الأندية), ومنها نادي قريش ودار الندوة بجوار الكعبة.

تقليد أموي

          وقد خطت هذه المجالس, في العصر الأموي, خطوات واسعة, إذ أخذ الخليفة يختار المتميزين ممن كان يعاصره من الأدباء والشعراء والمؤرخين والفقهاء, ليجالسوه في أوقات معينة, أو إذا دعاهم في وقت ما, كان الهدف من هذه المجالس سماع أخبار العرب ونوادرهم وبطولاتهم, والاطلاع على أسرار العربية وآدابها. فمنذ أن تولى معاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ/680م) الخلافة, بدأت المجالس العلمية والأدبية تعقد في عاصمته دمشق, حيث كان يستدعي إلى مجلسه بعض العلماء والأدباء وأصحاب السير, (ويستمر إلى ثلث الليل في سماع أخبار العرب وأيامها والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها, وسير ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها, وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة..), وتشير كتب الأدب والتاريخ إلى أن هذه المجالس استمرت قائمة في عهود معظم خلفاء بني أمية, فتروى, مثلا, أن الخليفة عبدالملك بن مروان (ت 86/705م) سأل رواد مجلسه مرة: أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه مرتبة وله علي  ما يتمناه? فردّ أحدهم في الحال: أنف, بطن, ترقوة, ثغر, جمجمة, حلق, خد, دماغ.. فأجازه عبدالملك. ويتحدث الزجاجي عن مجلس الوليد بن عبدالملك (ت 96هـ/715م) وأخيه سليمان (ت 99هـ/717 م), ويروي بعضاً مما كان يدور بينهما من مناظرات, أحياناً, حول المفاضلة بين شاعر وآخر, مثل النابغة وامرئ القيس, حيث كان الوليد يميل إلى الأول في حين كان سليمان يقدم الثاني.

ازدهار ورسوخ

          والواقع أنه لم تزدهر مجالس العلم والأدب ازدهاراً واضحاً, وتتحول إلى ظاهرة ثقافية راسخة الأركان, إلا في العصر العباسي. ولاشك في أن ذلك يعود إلى شغف الخلفاء, وغيرهم من رعاة العلم في ذلك العصر, بالعلم والمعرفة وتشجيعهم للعلماء والأدباء, وتكريمهم ماديا ومعنويا, وتوفير مستلزمات النهضة العلمية من حرية وتسامح ومؤسسات. ولهذا كله نجد أن المجالس العلمية لم تقتصر في العصر العباسي على العاصمة بغداد فحسب, وإنما انتشرت في معظم الحواضر العربية والإسلامية, في المشرق والمغرب, كما لم تعد قصور الخلفاء هي المكان الوحيد لانعقادها, وإنما امتدت إلى قصور الوزراء وبيوت العلماء. ولم تعد المناقشات والمناظرات, في هذه المجالس, تدور في ميدان واحد من الميادين العلمية كالنحو والفقه والشعر فحسب, وإنما غدت تتناول معظم فروع العلم والمعرفة, كالتاريخ والفلسفة والطب والفلك.. إلخ, كما لم يعد صاحب المجلس, خليفة أكان أم وزيراً, يقف متسائلاً أو مشرفاً على ما يدور في مجلسه من وقائع علمية, وإنما أصبح مشاركاً ومناظراً للعلماء والأدباء في كل ما يطرح فيه من قضايا أدبية وعلمية. وفضلاً عن ذلك كله فقد صار لهذه المجالس, في هذا العصر خاصة, تقاليدها وآدابها وأصولها وقواعدها التي ينبغي مراعاتها, بل غدت تقاليد هذه المجالس, بحد ذاتها, تشكل مظهراً من مظاهر الحضارة العربية الإسلامية.

          وبالنسبة إلى مجالس الخلفاء, في العصر العباسي, نذكر على سبيل المثال, مجلس الخليفة هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) الذي لم يرث عن أسلافه العباسيين دولة قوية وثروة ضخمة فحسب, وإنما ورث عنهم الرغبة في العلم ورعاية أهله, فقال ابن طباطبا عنه في كتابه (الفخري في الآداب السلطانية) بأنه كان (من أفاضل الخلفاء وفصائحهم وعلمائهم وكرمائهم) وإنه (لم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء والقراء والقضاة والكتاب والندماء والمغنين ما اجتمع على باب الرشيد, وكان يصل كل واحد منهم أجزل صلة ويرفعه إلى أعلى درجة. وكان فاضلاً وشاعراً وراوية للأخبار والآثار والأشعار...) وكان من رواد مجلس الرشيد الأصمعي, الذي كان يعد (إماماً) في الأخبار والنوادر والملح والغرائب, والكسائي, الذي كان عالماً بالنحو واللغة والقراءات, وسيبويه الذي كان من أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو, ومعمر بن المثنى (أبو عبيدة), الذي كان عالماً بعلوم العرب وأخبارهم وأنسابهم, والمؤرخ الواقدي وقاضي القضاة أبي يوسف يعقوب وغيرهم, هذا فضلاً عن عدد كبير من الشعراء أمثال أبي العتاهية وأبي نواس ودعبل. ويمكننا أن نتعرف من خلال هؤلاء الأعلام على الموضوعات التي كانت تناقش في مجلس الرشيد, حيث نرى أنها اشتملت على الأدب والنحو والشعر والفقه والتاريخ وغيرها من علوم ومعارف ذلك العصر.

          ومن المناقشات العلمية التي كانت تدور في مجلس الرشيد نذكر على سبيل المثال ما تنقله بعض المصادر من أن الرشيد سأل في مجلسه بحضور كل من الأصمعي والكسائي عن معنى قول الشاعر الراعي:

قتلوا ابنَ عَفّانَ الخليفَة مُحرِماً

ودِعَاً فلم أر مثلَه مخذولا



          فقال الكسائي: كان قد أحرم بالحج. فضحك الأصمعي وتهانف (أي ضحك في سخرية). فقال له الرشيد: ما عندك يا أصمعي? فقال: والله ما أحرم بالحج ولا أراد أيضاً أنه دخل في شهر حرام كما يقال أشهر وأعام, إذا دخل في شهر وفي عام. فقال له الكسائي: ما هو إلا هذا, وإلا فما معنى الإحرام? فقال الأصمعي: فخبرني عن قول عدي بن زيد:

قتلوا كسرى بليل محرماً

فتولَّى لم يمتَّع بكَفَنْ



          أي إحرام لكسرى? فقال الرشيد: فما المعنى? فقال الأصمعي: يريد أن عثمان لم يأت شيئاً يوجب تحليل دمه أو قتله, وقوله (محرماً) في كسرى يعني حرمة العهد الذي كان في عنق أصحابه. فقال الرشيد: يا أصمعي ما تطاق في الشعر.

          ولم يكن الخليفة يكتفي بتوجيه الأسئلة إلى علماء مجلسه وإنما كان يشارك في بعض المناقشات التي كانت تدور فيه, فتروي المصادر أن مجلساً ضم الرشيد والكسائي وأبا يوسف يعقوب, وأخذ أبو يوسف يذم النحو, فانبرى له الكسائي في تبيان فضل النحو وأهميته ثم سأل الكسائي أبا يوسف: ماذا تقول في رجل قال أنا قاتلُ غلامك? وقال له آخر: أنا قاتلٌ غلامك? أيهما كنت تأخذ به? فقال أبو يوسف: آخذهما جميعاً. فقال له الرشيد: أخطأت, فاستحيا أبو يوسف وقال: كيف ذلك? قال الرشيد: الذي يؤخذ بقتل الغلام الذي قال: أنا قاتلُ غلامك, بالإضافة لأنه فعل ماض, إنما الذي قال: أنا قاتلٌ غلامك, بالنصب فلا يؤخذ لأنه مستقبل ولم يكن قد وقع بعد. ومنذ ذلك الوقت أخذ أبو يوسف يمدح العربية والنحو.

تاريخ وسير

          ولم تنحصر المناقشات في المجالس على مسائل الأدب واللغة والفقه فحسب, وإنما كانت تتناول سير الخلفاء السابقين والمشاهير في التاريخ. وتذكر المصادر أن الخلفاء العباسيين كانوا يتوقون دائماً إلى سماع تاريخ بني أمية وسير حياتهم, ويروى أن الرشيد طلب من الأصمعي أن يحدّثه عن الخليفة سليمان بن عبدالملك, فذكر الأصمعي في حديثه للرشيد أن سليمان كان نهماً في الأكل حتى أنه كان يجلس وتوضع بين يديه الخراف المشوية و(هي كما أخرجت من تنانيرها), فيريد أن يأخذ شيئاً منها, ولكن الحرارة تمنعه عن ذلك, (فيجعل يده على طرف جبته ويدخلها في جوف الخروف فيأخذ ما يريده منها, فقال الرشيد للأصمعي: (قاتلك الله, ما أعلمك بأخبارهم. اعلم أنه عرضت علي (ذخائر بني أمية, فنظرت إلى ثياب مذهبة ثمينة وأكمامها (ودكة) بالدهن, فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني بالحديث). ثم قال الرشيد:إلى بثياب سلمان, فأتي بها, فنظر إلى تلك الآثار فيها ظاهرة, فكساني منها حلة, وكان الأصمعي يخرج فيها أحيانا فيقول (هذه جبة سليمان التي كسانيها الرشيد).

          وسار الخليفة المأمون (ت 218هـ/832م) على نهج والده في عقد مجالس العلم والأدب, بل إن مجالس المأمون فاقت مجالس الرشيد بتنوع موضوعاتها وشموليتها وجرأتها, هذا فضلا عن أن المأمون نفسه كان من الخلفاء العباسيين الذين تميّزوا بعلمهم وثقافتهم الواسعة وتشجيعهم للعلم والعلماء, فقال السيوطي عنه (لم يل الخلافة من بني العباس أعلم من المأمون, وأنه (جمع الفقهاء من الآفاق وبرع في الفقه والعربية وأيام الناس. فلما كبر عني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهر فيها). وتؤكد المصادر أنه بعد أن استقر المأمون خليفة في بغداد أمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته. وسرعان ما غدا مجلس المأمون حافلا بجمهرة عظيمة من العلماء والأدباء والفلاسفة والشعراء والأطباء, وكان يقربهم إليه ويجزل لهم العطاء, وقد تنوعت جنسياتهم ومشاربهم الثقافية والدينية والمذهبية, ومن هؤلاء نذكر: الفراء والأصمعي والأخفش والجاحظ والواقدي واليزيد ويحيى بن أكثم والنضر بن شميل... وغيرهم, ولم يكن المأمون يقف متفرجا على ما كان يدور في مجلسه من مناقشات ومناظرات, إنما كان يشارك فيها مشاركة فعالة. ويروي الزجاجي المناقشة التي دارت بين المأمون والنضر بن شميل حول الفرق بين معنى كلمة (سَدَاد) بالفتح, وكلمة (سِدَاد) بالكسر, وبيَّن أن المأمون اقتنع في نهاية المناقشة أن (السَداد) بالفتح تعني القصد والسبيل والطريق, وأما (السِداد) بالكسر فتعني (الثلمة), وكل ما سد فهو سداد بالكسر, ومنها قول الشاعر:

أضاعوني وأيَّ فتيً أضاعُوا

ليوم كريهة وسِدَاد ثَغْرِ



خلفاء ووزراء

          ولم يقتصر انعقاد المجالس العلمية والأدبية على قصور الخلفاء, كما أشرنا, وإنما انتشرت في قصور الوزراء الذين حذوا حذو الخلفاء في الشغف بالعلم وتشجيع أهله (فالناس على دين ملوكهم), كما يقال. ويأتي في مقدمة هؤلاء الوزراء البرامكة, ولاسيما يحيى وولديه الفضل وجعفر, الذين عملوا جميعاً وزراء في عهد الخليفة هارون الرشيد. وقد امتلأت كتب الأدب والتاريخ المعاصرة لهم, ليس بالإشادة بمهارتهم السياسية والإدارية والحربية فحسب, وإنما بما تميز به هؤلاء من ثقافة وفصاحة وبلاغة وكرم. فقال ياقوت الحموي عن يحيى البرمكي بأنه كان (من أكمل أهل زمانه أدباً وفصاحة وبلاغة), وأنه كان (متقدما على أهل عصره في الإنشاء والكتابة). وأكد ذلك المسعودي بقوله عن يحيى البرمكي بأنه كان (ذا علم ومعرفة وبحث ونظر وكان له مجلس يجتمع فيه كثير من أهل البحث والنظر من متكلمي الإسلام وغيرهم من أهل الآراء والنحل). ولم يقف البرامكة في مجالسهم مكتوفي الأيدي, وإنما كانوا يسهمون في المناقشات والمناظرات بآرائهم وأفكارهم وثقافتهم الواسعة. وكان من رواد مجلسهم عدد من كبار العلماء والأدباء أمثال: سيبويه والكسائي والأخفش والفراء والأحمر والواقدي, ومن الشعراء أبان بن عبدالحميد وأشجع السلمي والرقاشي وغيرهم.

          ومن الوزراء الذين عقدت مجالس العلم والأدب في بيوتهم محمد بن عبدالملك الزيات الذي كان شاعراً كبيراً وعمل وزيراً في الدولة العباسية في أيام المعتصم والواثق فترة قصيرة في عهد المتوكل, وكان الزيات من رعاة العلم والأدب في عصره, وكان له مجلس علمي تعقد فيه المناقشات والمناظرات بين العلماء. وكان من رواد مجلسه المازني وابن السكيت والجاحظ.

          كما انعقدت مجالس العلم والأدب في بيوت بعض العلماء, ويذكر القفطي في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء), أن مجلساً للعلم والأدب كان يعقد في منزل الطبيب النسطوري يوحنا بن ماسويه في بغداد, وكان يحضره العلماء على اختلاف طبقاتهم من الفلاسفة والأطباء والأدباء والمتكلمين والمترجمين وغيرهم. ويمكن أن ندرك القيمة العلمية لهذا المجلس إذا عرفنا أن الرشيد كان قد كلف يوحنا هذا بترجمة الكتب الطبية القديمة وعينه أميناً على الترجمة.

ممدود ومقصور

          أما المجالس التي كانت تعقد في حواضر الأمصار العربية والإسلامية فلا تعد ولا تحصى, ولعل من أشهر هذه المجالس تلك التي كانت تعقد في بلاط سيف الحمداني (ت 356هـ) فتجمع المصادر على أنه كان لسيف الدولة مجلس أدبي حافل في حلب, وكان يواظب على حضوره عدد من كبار الأدباء والقرّاء والقضاة وفي مقدمتهم المتنبي, وأبو فراس الحمداني وابن خالويه والفارابي وأبو العباس الشاعر والسري الرفاء والنامي والوأواء وغيرهم, وكان سيف الدولة يشارك في مناقشة القضايا التي كانت تطرح في مجلسه, فقد سأل مرة من كان في مجلسه من العلماء: هل تعلمون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور? فقال ابن خالويه في الحال: عذراء وعذارى وصحراء وصحارى.

          إن دراسة تاريخ هذه المجالس وتطورها وتقاليدها وما كان يدور فيها من مناقشات ومناظرات, علمية وأدبية, يدرك مكانتها المتميزة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. فقد كانت هذه المجالس, أولاً, وقبل كل شيء مركزاً من مراكز التعلم والتعليم في آن واحد بالنسبة إلى الصفوة أو النخبة في المجتمع العربي الإسلامي آنذاك. فقد كان أصحاب هذه المجالس, من خلفاء ووزراء وأمراء, هم وأبناؤهم والعلماء والأدباء والفقهاء رواد هذه المجالس. وقد كان الجميع يفيدون مما كان يدور في هذه المجالس من مناقشات ومناظرات واجتهادات. والأمثلة التي تؤكد هذه الحقيقة كثيرة. وتروي بعض المصادر قصة مفادها أن الأصمعي قال: (دخلت على هارون الرشيد ومجلسه حافل. فقال: يا أصمعي ما أغفلك عنا وأجفاك لحضرتنا, قلت: والله يا أمير المؤمنين, ما لاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك, قال: فأمرني بالجلوس, فجلست حتى خلا المجلس ولم يبق غيري ومن بين يديه من الغلمان, فقال: يا أبا سعيد, ما معنى قولك: ما لاقتني بلاد بعدك? قلت: ما أمسكتني يا أمير المؤمنين, وأنشدت قول الشاعر:

كفَّاك كفٌّ ما تليق درهماً

جوداً وأخرى تعطِ بالسيف دما



          أي ما تمسك درهماً. فقال: أحسنت, هكذا فكن, وقّرنا في الملا وعملنا في الخلا. فإنه يقبح بالسلطان ألا يكون عالماً, إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم إذ لم أجب, وإما أن أجيب بغير الجواب, فيعلم من حولي أني لم أفهم ما قلت. قال (أي الأصمعي): فعلّمني أكثر مما علمته).

          ثانياً: كانت هذه المجالس, بالنسبة إلى العلماء والأدباء, ميداناً للامتحان ومسرحاً للتنافس فيما بينهم, وهذا كله شكل دافعاً لهم جميعاً للاجتهاد والبحث وشحذ الأذهان والعقول. فالحصول على عضوية هذا المجلس أو ذاك كانت أساساً مرتبطة بالسمعة العلمية لهذا العالم أو ذاك, أي بالكفاءة العلمية, كما أن الحفاظ على عضوية هذا المجلس مرهونة بمثابرة هذا العالم واجتهاده ويقظته العلمية الدائمة.

          ثالثاً: رفعت هذه المجالس من مكانة العلماء والأدباء, وحققت لهم مكانة معنوية ومادية, في الدولة والمجتمع. فلم يتردد صاحب المجلس في إظهار إعجابه بهذا العالم أو ذاك الأديب من روّاد مجلسه, كما لم يتردد في مكافأته على جواب رائع لسؤال طرح أو على تفسير خلاّق لمسألة عرضت, أو تعليق فذ على حوار دائر.

إبداعات متفرقة

          وتذكر المصادر أن الأصمعي قال: حضرت أنا وأبو عبيدة معمر بن المثنى عند الرشيد (وهناك رواية تقول إن الواقعة كانت في مجلس وزير الرشيد الفضل بن الربيع) فقال لي الرشيد: كم كتابك في الخيل? فقلت: مجلد واحد. فسأل أبا عبيدة عن كتابه (عن الخيل) فقال: خمسون مجلدة. فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضواً منه وسمّه, فقال: لست بيطاراً وإنما هذا شيء أخذته عن العرب, فقال لي: قم يا أصمعي وافعل ذلك, فقمتُ وأمسكتُ ناصيته وشرعت أذكر عضواً عضواً وأضع يدي عليه وأنشدُ ما قالت العرب فيه من شعر, إلى أن فرغت منه, فقال: خذه يا أصمعي, فأخذته. وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبته إليه.

          رابعاً: ولعل من أهم ما تجلت فيه مكانة هذه المجالس في الحضارة الإسلامية هو أنها أسهمت في حل عدد كبير من الإشكاليات العلمية والأدبية وأجابت عن الكثير من التساؤلات المعرفية التي كانت تطرح فيها, كما لعبت دوراً مهماً في تصحيح الكثير من المعلومات والمفاهيم الخاطئة التي كانت متداولة في بعض فروع العلم والمعرفة. بل لا نبالغ إذا قلنا إنه قد تحقق في هذه المجالس بعض الإبداعات العلمية, والتي ربما لم يكن بالإمكان أن تتحقق لولا التكامل العلمي والتفاعل المعرفي اللذان دار فيها, فالأدباء أفادوا في هذه المجالس من علماء اللغة والفقهاء والمؤرخين, كما أن علماء اللغة أفادوا من الأدباء والفقهاء وهكذا... وبعبارة أخرى فقد شكل العلماء والأدباء في هذا المجلس أو ذاك فريق عمل علميا متكاملا, وجاءت الإبداعات العلمية التي تحققت فيه, ثمرة من ثمرات تضافر جهودهم وتفاعلها.

          وصفوة القول: لقد أثرت هذه المجالس الثقافة العربية الإسلامية, وشكل نشاطها العلمي والأدبي, بألوانه وصوره المختلفة عاملاً مهماً من عوامل بناء الحضارة العربية الإسلامية ومظهراً من مظاهر تقدمها وازدهارها.

 

عادل زيتون   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات