سرّ رأس المال

 سرّ رأس المال
        

لماذا تنتصر الرأسمالية في الغرب
وتفشل في كل مكان آخر?

          رأس المال هو شريان الحياة في النظام الرأسمالي الذي أصبح بعد انهيار الشيوعية ورفع راية العولمة هو الطريق العملي لتنظيم اقتصاد حديث على نحو سليم. لكن رغم كل الجهود التي بذلتها الدول النامية والدول الشيوعية السابقة للتأقلم مع اتجاهات العولمة, فإنها لم تثمر إلا سخط الشعوب وخيبة أمل الحكومات, في عالم يعيش خمسة أسداسه في حال من الفقر.  
 
          من بين مائتي دولة في العالم يوجد خمس وعشرون فقط قادرة على إنتاج رأسمال بدرجة كافية, أما في بقية الدول فهناك إحساس يتزايد أنه لا يمكن الاعتماد إلى الأبد على عطف رأس المال الأجنبي, وأنه يتعين عليها أن تصبح لاعبة منتجة في اللعبة الرأسمالية وإلا يستحيل أن تصبح سيدة مصيرها.

          وقد أثار هذا الوضع تساؤلا مهما: لماذا تزدهر الرأسمالية في الغرب وحده, وماذا يحول دون أن تتوزع الثروة نفسها في بقية بلدان العالم? لابد أن هناك سراً أساسياً يكمن في أعماق هذا الوضع لا نستطيع أن نراه, وكتاب (سرّ رأس المال) محاولة لها قيمتها لاستكشاف هذا السر للدول النامية. وما يلفت الانتباه في هذا الكتاب أنه لا يؤسس ما فيه من مفاهيم ومعلومات على حقائق نظرية, وإنما كان ثمرة دراسة ميدانية واسعة النطاق في عدة دول نامية في أربع قارات, استمرت قرابة اثنى عشر عاما,, وقام بها فريق عمل كبير من تخصصات متنوعة متكاملة. فهو من هذه الكتب التي قد تظهر مرة كل عدة عقود لتغير بعض المسلمات التي تعتمد عليها حياتنا المعاصرة, فتغير حظوظ مجتمعات عدة.

          لقد نهض بهذا العمل فريق ينتمي إلى (معهد الحرية والديمقراطية) في دولة البيرو بأمريكا الجنوبية, الذي اعتبرته مجلة الإيكونوميست البريطانية ثاني أهم مركز للتفكير في العالم. أما رئيس الفريق فهو مؤلف الكتاب, وهو من البيرو يعمل رئيسا للمعهد المذكور, وقد اختارته مجلة تايم الأمريكية كواحد من أبرز خمسة مجددين في أمريكا الجنوبية في القرن العشرين.

في أصل المشكلة

          يوضح الكتاب أن النقود ليست هي التي تخلق رأس المال, وإنما هم الناس الذين تمكنهم نظم الملكية سواء ملكية عقارية أم ملكية منشآت تجارية أم ما يشابهها على التفكير في استخدام (الأصول) المملوكة لهم لإنشاء نشاط اقتصادي جديد وإنتاج إضافي. فأهم مصدر للتمويل لمشروعات الأعمال الجديدة في الولايات المتحدة هو الاقتراض على أساس رهن عقارات أو منشأة تجارية أو صناعية. بذلك تبعث الحياة في تلك الأصول فتولّد رأس مال. فدون ذلك تظل الأصول رأسمالا ميتا غير منتج.

          ومشكلة الدول الفقيرة أنها تحتفظ بأصول الأفراد بشكل معيب لا يمكن الاستفادة منها, كأن تكون منازل أو مساكن مقامة في مناطق عشوائية غير مرخصة, أو تكون مساكن في الريف غير مسجلة بشكل قانوني سليم, أو تكون أعمالا تجارية أو صناعية - مثلا - لا تأخذ الشكل القانوني كشركة ذات مسئولية غير محددة, أو مجرد نشاط صناعي لا يستطيع الممولون رؤيته وتحديده. ولأن الحقوق في مثل تلك الأنشطة أو الممتلكات ليست موثقة على نحو قانوني سليم يصبح من غير الممكن استخدامها في توليد رأسمال أو مبادلتها خارج دائرة محلية ضيقة, وبالتالي لا يمكن استخدامها كحصة في استثمار ما. أما في الغرب فكل الممتلكات تمثلها وثيقة ملكية رسمية تشكل دليلا مرئيا لأصول مرتبطة بباقي الاقتصاد, فيمكن استخدامها كرهن لائتمان ما. ففي البلدان الفقيرة, الناس لديهم بيوت لكن دون سندات ملكية, ولديهم محاصيل أو إنتاج لكن دون صكوك ملكية, ولديهم دور أعمال لكن دون النظام القانوني للشركات. أما في الغرب - الذي مر في الماضي بما تمر به الدول النامية حاليا - فقد اعتبرت هذه الآلية أمرا مسلما به بشكل كامل حتى أنه فقد الإحساس بوجودها. إنها البنية الأساسية القانونية الضمنية المخبوءة في أعماق نظم الملكية عنده, أو بتعبير آخر هي حقيقة مطمورة في اللاوعي الاقتصادي للبلدان الرأسمالية الغربية.

          لقد ركز فريق البحث في دراسته على الثروة العقارية بالذات, حيث إن العقارات تمثل نحو خمسين في المائة من الثروة القومية في العالم المتقدم, أما في البلدان النامية, فالنسبة تقترب من ثلاثة أرباع. فالمساكن العشوائية أو التي لا تتمتع بحماية القانون والمساكن هي عادة الطريق الوحيد للاستثمار في البلدان النامية, ومن ثم فهي جزء مهم من عملية الادخار وتكوين رأس المال. وقد وجدت الدراسة أن قيمة العقارات في تلك الدول التي لا تتمتع بحماية القانون أي التي لا تصلح لرهن عقاري تزيد في مجموعها مرات عدة عن إجمالي المدخرات والودائع لأجل في البنوك التجارية وقيمة الشركات المسجلة في البورصات المحلية وجميع الاستثمارات الأجنبية المباشرة وجميع المشروعات العامة التي تم أو يلزم خصخصتها معا. والمشكلة أن معظم مواطني الدول الفقيرة غير قادرين على استخدام القانون لتحويل مدخراتهم إلى رأسمال.

          إن معظم الفقراء في العالم يدخرون, وتقدر قيمة مدخرات الفقراء في العالم بأربعين مثلا كل المعونات الأجنبية التي تم تلقّيها في كل أنحاء العالم منذ عام 1945. وفي مصر - كمثال - وجد أن الثروة المتراكمة لدى الفقراء فيها تساوي 55 مثلا كل الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي سجلت فيها بما في ذلك قناة السويس والسد العالي. وفي هايتي - أفقر بلدان أمريكا اللاتينية - يزيد مجموع الأصول لدى الفقراء على مائة وخمسين مثلا كل الاستثمارات الأجنبية المتلقاة منذ استقلالها عن فرنسا عام 1804

          لقد خلق فقراء الحضر صناعات ومجاورات بأكملها تعمل دون إذن من القانون, على وصلات كهربائية أو توصيلات مياه سرية. لكن هؤلاء الفقراء لا يخدمون الفقراء وحدهم, وإنما يسدون الثغرات في الاقتصاد الرسمي أيضا. إن ملايين الأشخاص يعملون في القطاع الذي لا يتمتع بحماية القانون, في الشوارع, من بيوتهم, وفي الحوانيت والمصانع والمكاتب غير المسجلة في المدن.

          إن ما يغيب عن الزعماء الوطنيين في الدول النامية هو أن الناس ينتظمون بصورة تلقائية في مجموعات منفصلة غير قانونية إلى أن تستطيع الحكومة تزويدهم بنظام قانوني واحد للملكية. إنهم لا يخرجون عن نطاق القانون لا لأنهم يكرهون القانون أو لا يحترمونه, وإنما لأنه لا يسمح لهم بالوجود داخله, بل يشاركون المجتمع المدني الرغبة في حياة منتجة يسودها السلم والأمن. إن عدم التمتع بحماية القانون ينظر إليه عادة باعتباره قضية (هامشية), والواقع أن المشروعية والتمتع بحماية القانون هي الهامشية, إن هؤلاء الفقراء هم صنّاع الأدوات المنزلية والملابس الرخيصة ومقاولو البناء غير القانوني بل جامعو القمامة أيضا. إن أعدادهم في البلد النامي الواحد يقدر بالملايين وحياتهم تعج بالعمل الشاق والإبداع.

          ويرى المؤلف أن ما يفتقر إليه الفقراء هو سهولة التوصل إلى آليات الملكية التي يمكن أن تحدد وتثبت بصورة قانونية الإمكانات الاقتصادية الكامنة لأصولهم, حتى يمكن استخدامها لإنتاج وضمان قيمة أعلى في السوق الموسعة. ودون ملكية رسمية, فإن أصول البلدان النامية تشبه المياه في بحيرة في أعالي جبال الأنديز - رصيد غير مستغل من الطاقة الكامنة.

          فالفقراء لا يحطمون القانون بقدر ما يحطمهم القانون: فنشاط هؤلاء الفقراء ينظر إليه عادة أنه خارج على القانون, في حين أن الخيار الوحيد أمامهم هو أن يعيشوا ويعملوا خارجه.

 ثورة الملكية كانتصار سياسي

          ويذهب المؤلف إلى أن التحدي الحقيقي في الدول النامية هو في قدرتها على استيعاب المؤسسات القانونية المطلوبة, واستجماع الإرادة السياسية اللازمة لإقامة نظم ملكية يسهل على الفقراء الوصول إليها. ولو كان للرأسمالة عقل لكان في نظام الملكية القانوني. فنظم الملكية هذه هي الغرين القادم من أعالى النهر الذي يسمح بازدهار رأس المال. والذي يلفت النظر أن الغرب الغني دأب على نصح العالم الفقير بتقليد ظروف المعيشة القائمة عنده في دلتا النهر: أي عملات مستقرة - أسواق مفتوحة - خصخصة المشروعات, ونسى أن سبب الحياة الغنية للدلتا يقع بعيدا عند أعالي النهر, في منابع المياه غير المستكشفة.

          كما يطرح المؤلف سؤالا مهما: لماذا لم تحاول الحكومات استغلال هذه الثروة المحتملة? والرد ببساطة أن الأدلة التي تحتاج إليها لم تتوافر إلا في الأربعين عاما الأخيرة. فنظم الملكية المفتوحة لكل المواطنين أغنياء وفقراء ظاهرة حديثة نسبيا لم تكتمل في الغرب إلا منذ مائة عام, وفي اليابان منذ أقل من خمسين عاما.

         ومن الدروس المهمة في التجربة الأمريكية والتي يبرزها الكتاب أنه لابد للمجتمع في الدول النامية أن يباري الثورات الجارية في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والحضرنة السريعة بثورة قانونية لقانون الملكية. وهذا يستلزم مهمة ثلاثية: التوصل إلى العقود الاجتماعية الحقيقية بشأن الملكية - وإدماجها في القانون الرسمي - واستنباط استراتيجية سياسية تجعل الإصلاح ممكنا. فلابد من الإقرار أن العقود الاجتماعية التي ظهرت خارج القانون الرسمي تصلح لأن تكون مصدرا مشروعا للقانون. فثورة الملكية هذه كانت دائما انتصارا وإنجازا سياسيا,  نتيجة جهود قلة مستنيرة كانت مقتنعة بأن القانون الرسمي لا يكون له معنى إذا عاش جزء كبير من الناس خارجه, إن رسملة الفقراء إذن هو في أساسه تحد سياسي يتعين التصدي له بأدوات قانونية, وهذا ما يقصده الإنجليز بقولهم إن القانون يتعين اكتشافه أكثر مما يتعين سنه, وذلك لأن الطريقة الوحيدة التي يبقى بها القانون على قيد الحياة هي بارتباطه بالعقود الاجتماعية المبرمة بين الناس الحقيقيين على أرض الواقع.

في التحديات

          إن السؤال المهم, الذي يثيره الكتاب يتعلق بمدى مسارعة الحكومات في الدول النامية بإضفاء طابع المشروعية على الحيازات التي لا تتمتع بحماية القانون. وإلا فالبديل هو استمرار الفوضى القانونية التي يتنافس فيها نظام حقوق الملكية القائم مع نظام محروم من حماية القانون. والمشكلة - كما عبر عنها المؤلف - هي أننا في الدول النامية لم نعترف بعد أن كل هذه الصعوبات تشكّل صدمة هائلة في قطاع الفقراء الضخم. أما إذا أقرّت حكومات هذه الدول بضرورة التصدي لهذا الوضع فإنها تستطيع أن تسيطر على الموجة بدلا من أن تبتلعها تلك الموجة. وبتعبير أكثر بساطة على دعاة الإصلاح أن يضعوا أقدامهم في أحذية الفقراء والسير في شوارعهم. إن تخفيف حدة الفقر لم تعد قضية إحسان, وإنما تحتل حالياً قمة برامج الحكومات الراغبة في النمو. كما أن الصفوة يتعين عليها أن تساند الإصلاح لا بدافع الوطنية فقط, ولكن لأنه يوسع - بلاشك - مواردها ودخلها هي نفسها.

          ولعلنا نشير في ختام هذا العرض إلى هذا الكتاب القيّم بتعبير جميل وحكيم معا أورده المؤلف عن التحديات التي يتعين مواجهتها للتوصل إلى الغاية المنشودة, فيقول إن فتح أبواب الرأسمالية أمام الفقراء لن يكون في مثل إطلاق بولوزر خلال أكوام من القمامة. إنه أكثر شبها بإعادة ترتيب آلاف الفروع والأغصان في عش نسر ضخم, ودون إثارة النسر. إن هذا عمل قوى سياسية واجتماعية محنكة لديها الحذق اللازم لإعادة ترتيب عش النسر دون أن تخدشها مخالبه. فلا ريب أن تحرير الفقراء يتعين أن يكون في قمة مسئوليات زعيم الأمة, لأن مهمة السياسي الحقيقية هي الارتباط بالناس الحقيقيين.

          وبعد, فلعل هذا الكتاب لم يكن ليجيء في توقيت أفضل, في مرحلة زمنية لم يعد هناك أي شك فيها من تصدّر مشكلة الفقر على مستوى العالم لاهتمام كل المنظمات الدولية المعنية بالتنمية أو حكومات العالم النامي ذاتها. وأهمية الكتاب أنه يدفعنا إلى النظر فيما وراء الحدود القائمة لكل من مبادئ الاقتصاد والقانون المعمول بها, من أجل ثورة قانونية تعمل على (عولمة رأس المال داخل حدود الدول النامية والبلدان الشيوعية السابقة).

          لكن من الإفراط في حسن النية الظن بأن حكومات هذه الدول سوف تأخذ المبادرة في هذا المجهود الضخم في وقت تبدو فيه مشغولة أكثر باعتبارات آنية سياسية أو حزبية أو حتى شخصية. ولابد من تكوين منظمات غير حكومية جديدة في تلك الدول تكون مهمتها التوصل إلى ثلاثة أمور مهمة: تبني منظور الفقراء - تحييد الصفوة واستمالتها - والتعامل مع البيروقراطية القانونية والفنية. مستخدمة في ذلك كل حجة مقنعة توضح بها كيف أن الدول الرأسمالية الناجحة استطاعت أن تستكشف رأس المال وتستخلصه, بينما لم تر الدول الأخرى فيه سوى سقط المتاع.

 

محمد صلاح عبود   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب