مؤامرة اغتيال في قصر فرعون!

 مؤامرة اغتيال في قصر فرعون!
        

           انطلق الفرعون في عربته الحربية ذات العجلات يقودها بنفسه, ومن حوله جنوده المصريون مشاة وخيّالة ورجال حاشية, بينما زئير النفير يدوي معلنا عن بدء هجوم فرعون وجنوده في الطريق إلى المعركة. في الوقت نفسه راح الرماة الرابضون فوق أسوار القلاع يقذفون سهامهم ونشاشيبهم على العدو الهارب.

           كان رمسيس الثالث قد اتخذ العدة لحماية النيل من المغيرين الذين أرادوا غزو مصر برا وبحرا. فأما القادمون برا, فقد قضى عليهم زرافات ووحدانا. وأما الذين قدموا من البحر فإن اللهيب الملهب كان ينتظرهم عند مصبات النهر الخالد. وأحاط بهم سياج من الحراب والسهام والنبال والنشاشيب لينتهي بهم الأمر إلى محاولة الفرار إلى الشاطئ ليحاصروا ويطرحوا أرضا على الجسور ليصبحوا قتلى مكدّسين أكواما عن بكرة أبيهم. ولم يتخلف عن الغزاة ويرفض دخول المعركة إلا الفلسطينيون الذين استوطنوا الإقليم الساحلي الممتد بين غزة وجبل الكرمل, هؤلاء الذين سمي باسمهم الإقليم الذي سكنوه ليبقى كذلك إلى الأبد. ويسجل رمسيس الثالث أخبار تلك المعركة مع الغزاة من أقوام البحر والقادمين من الشمال على جدران معبده في مدينة حابو بطيبة.

           أما الغزاة الذين استطاعوا الهرب فقد تركوا وراءهم نساءهم وأطفالهم ورفض الفرعون أن يمسّهم بسوء. بل ولم يجد ما يمنعه من أن يضم إحدى هؤلاء النساء إلى حريمه, لترتفع بعد ذلك لتصبح إحدى زوجاته الثانويات بعد أن أطلق عليها اسما مصريا سوريا هو (تي مرن إست) ولتكون من بعد إحدى الزوجات المنافسات للزوجة الملكية الأولى (إست أماسرت) أم ولي العهد الأثير لدى أبيه برغم الكثيرين من أولاده وبنيه الذين أنجبهم من زوجات أخريات ومن حريم ضمهم إلى القصر بعد أسرهن خلال معاركه الكثيرة. ولعل رمسيس كان يؤثر بالفعل أقرب الأبناء إلى قلبه حتى أنه سمّاه رمسيس لتكون له ولاية العهد ويصبح هو (رمسيس الرابع), واهتم الفرعون بتعليم ولده الأثير ورعايته حتى يجعل منه واحدا من الفراعين الرعامسة الذين يتحدث عنهم التاريخ.

           كان الفرعون رمسيس الثالث - بعد سميه رمسيس الثاني العظيم - من أصلح الفراعنة حكما وأعدلهم سيرة وأحرصهم على رفاهية مصر وأشدّهم غيرة على أمنها وأكثرهم استعدادا لبذل نفسه في سبيلها بعد أن تولى عرش مصر حوالي عام 1167 قبل ميلاد المسيح. كان ملكا جديرا بالاحترام هيأت له الأيام أن يكون بطلا مغمورا, ولكن محاربا فذّاً. وكانت البلاد قد تعرضت في ذلك الوقت لكثير من حملات الغزو وجيوش العدوان من الطامعين من كثير من الأجناس: فمنهم من أقبل عليها غازيا من البحر. ومنهم من جاءها من الغرب, ومنهم من وفد عليها من الشرق والشمال.

           في مواجهة كل هذه الحملات وقف رمسيس كالطود الشامخ يضرب عن يمين وشمال لينزل بالأعداء أشد أنواع الخسران. وخرج من كل هذه الانتصارات رافعا رأس مصر دون أن يصيبه جرح واحد...!

           ولكن الذي حدث بعد ذلك أن جاءه الجرح الرهيب من داخل قصره, وكان المتآمر هو الزوجة الثانوية (تي مرن إست)...!

مؤامرة في القصر

           يقول التاريخ من خلال وثائق البردى وما جاء في (ورقة هاريس) المكتشفة أخيرا, إن تولية رمسيس الثالث ولاية العهد لولده الأثير كان كفيلا بأن يحفظ سائر نسائه منه ويوغر صدورهن عليه. من هنا تآمرت الزوجة الثانوية الحاقدة (تي) - وهي غير الملكة تي زوجة أمنحتب الثالث وأم الملك أخناتون - وكان هدفها من المؤامرة القضاء على حياة الملك المسن لتولي مكانه على العرش ابنها (بنتاؤور).

           وجدت (تي) ضالتها لتنفيذ المؤامرة في اثنين من أقرب المقربين إلى فرعون هما (بايبك آمون) كبير الأمناء و(مسد سورع) ساقي الملك. وأسرَت هي إلى ولدها بنتاؤور بما عزمت عليه بينما راحت تغري عددا من رجال الحاشية للانضمام إلى المتآمرين الرئيسيين تجاوز عددهم عشرة من موظفي الحريم يشغلون وظائف متنوعة منهم أربعة سقاة ملكيين ومشرف على الخزانة يدعى (باب رع) وضابط مرمى الملك النوبي هو (بنموسي) الذي انضم إلى المؤامرة بتأثير أخت له في الحريم الملكي. واستطاعت (تي) أن تستقطب إلى المتآمرين (بيبس) قائد الجيش وثلاثة كتبة ملكيين يشغلون وظائف منوعة. ولأن معظم هؤلاء المشاركين في المؤامرة هم في خدمة الفرعون الشخصية, فإن المؤامرة كانت غاية في الخطورة. واستطاع المتآمرون أن يضمّوا إليهم ستاً من نساء ضباط بوابة قصر الحريم لضمان توصيل المراسلات داخل القصر. أما خارج القصر فكان للمتآمرين أقرباء مشتركون في المؤامرة. وقد أرسلت أخت المتآمر (بنموسي) إليه خطابا ليحض الأهالي على عصيان فرعون بالإضافة إلى أن كل الرسائل التي خرجت من الحريم ترمي إلى هذا الغرض والعمل على إثارة الفتنة والقيام بثورة لقلب النظام وتولية بنتاؤور ملكا على عرش أبيه.

التنفيذ والعقاب

           مع بدء تنفيذ المؤامرة اعتدى المتآمرون على فرعون فأصابوه إصابة كادت تقضي عليه. وكاد يقدر لهم النجاح والقيام بالانقلاب. ولسبب غير معروف انكشف التدبير وانفضحت المؤامرة في آخر لحظة واتضحت الأدلة الدامغة على خيانة المتآمرين. وقبض على الجميع بمن فيهم من ثبت علمهم بالمؤامرة دون أن يبلغوا عنها. وعزلت المجموعة المتآمرة من الوظائف التي كانوا يشغلونها تمهيدا للمحاكمة.

           وحين كان الملك المصاب على فراش الموت, أصدر أمرا بتشكيل محكمة خاصة لمحاكمتهم على جريمة عقوبتها الإعدام. ومنح قضاة هذه المحكمة الخاصة سلطات واسعة في المحاكمة وتوقيع العقاب وتنفيذه. ونص الملك في أمر التشكيل على أن كل من يعترف بخيانته ويحكم عليه بالإعدام أن يترك لنفسه فيوقع بها العقاب بالانتحار. وفي قراره الملكي حض رمسيس الثالث القضاة على تحري الحق والحرص على العدل حتى لا يؤخذ بريء ظلما بعقوبة لا استدراك فيها. فقد كان مقدّرا أن أيامه لن تطول وكأنه كان يريد أن يلقى الموت مرتاح الضمير قائلا للقضاة:

           (إنني أتحدث إليكم بالحق الأكيد فيما يتعلق بكل الذي حدث والذين أحدثوه. فلتقع تبعة كل ما عملوا على رءوسهم, وذلك في ظل الحماية والأمن إلى الأبد, حينما أكون بين الصديقين من الملوك في حضرة آمون رع ملك الآلهة وفي حضرة أوزوريس سيد الأبدية).

           وعلى ضوء هذا التوجيه الذي أمر به رمسيس الثالث وفي ظل حكم ولده الأحق بالعرش رمسيس الرابع جرت المحاكمات, كانت المحاكمة الأولى لأبرز المذنبين المتآمرين وبينهم كبير الأمناء وناظر القصر السابق وساقي الملك النديم السابق وثالثهم ناظر جناح الحريم ورابعهم كاتب محفوظات بين حريم الملك. أما بقيتهم فخمسة من مفتشي الجناح السابقين: أما العاشر فهو من سمع الأحاديث التي كانت تدور وأخفاها ومن بعده ستة من السقاة والندماء في بيت الحريم ثم ست نساء من زوجات رجال حرس الحريم اشتركن مع الرجال في التدبير للمؤامرة وإثارة القلاقل. وقد اعترف كل هؤلاء بأنهم مذنبون وحكم عليهم بالإعدام وترك لهم أمر الانتحار في قاعة المحاكمة.

           وفي المحاكمة الثانية كان على رأس المذنبين بنتاؤور ابن تي الذي حكت له أمه تفاصيل المؤامرة لتنصيبه على عرش الفرعون بالإضافة إلى أحد قادة الجيش وتسعة من كتاب القصر في دار الكتب المقدسة. ومع اعترافهم بأنهم مذنبون تركوا بمفردهم في قاعة المحكمة, فانتحروا بأنفسهم قبل أن توقع عليهم عقوبة.

           أما المحاكمة الثالثة فشملت أشخاصا نفذت فيهم العقوبات بجرح أنوفهم وقطع آذانهم وذلك بسبب امتهانهم منصب العدالة الذي أسند إليهم بالسماح للنساء بالدخول إلى مساكنهم والسكر معهم لاجتذابهم إلى المؤامرة مقابل رشاوى من كل نوع.

           وهكذا جرت المحاكمات وتنفيذ العقوبات, وكان اللافت للنظر أن (تي مرن إست) زوجة الملك وأم بنتاؤور لم تحاكم, بينما هي رأس الأفعى في مؤامرة اغتيال رمسيس الثالث, فلا يدري أحد كيف اختفت, وهل قتلت أم هربت إلى قومها الذين أخرجوا من مصر في (رحلة الخروج) التي طاردهم خلالها الملك رمسيس الثاني وولده فرعون مرنبتاح. ولكن المصريين الذين يؤمنون بكتاب الموتى ومحاكمة الآخرة, فقد كانوا يدركون أن المرأة المذنبة ستقف دون أدنى شك أمام القاضي الأكبر أوزوريس يوم الحساب لتلقى جزاء ما اقترفت من اغتيال الفرعون رمسيس الثالث الذي كتب له أن يدخل إلى جنة الأموات الصالحين يوم البعث ليتمتع بالسعادة الخالدة إلى الأبد.

 

سليمان مظهر   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات