من المكتبة الأجنبية: سعادة القراءة

من المكتبة الأجنبية: سعادة القراءة

عرض: دينا مندور*

«سعادة القراءة» كتاب صدر في العاصمة الفرنسية باريس عن دار جاليمار «إحدى أهم دور النشر العالمية» - سلسلة الجيب في عام 2011، ويشكل في ظني إضافة قيمة للقارئ المهتم باستطلاع رؤية نخبة من أهم الكتاب الأوربيين أمثال جان جاك روسو، ناتالي ساروت، مارسيل بروست، وجان بول سارتر حول ماهية الكتابة وما تمثل لهم من معنى وكيف رأوا تجاربهم الأولى في القراءة.

فروسو- مثلا - غارق في مكتبة أمه، وناتالي ساروت تلتهم كتاب المغامرات الشهير ريكومبول، ومونتاني والجندي المستعد للتضحية بحياته من أجل الكتب... وكم من أبطال تغيرت حياتهم عند قراءة بعض السطور.

كتاب وأبطال روايات يشهدون على تلك اللحظات من المتعة حيث لا توجد متعة أخرى تضاهيها، إلا الحكايات الغارقة بين صفحات كتاب. يقول سارتر: «بدأت حياتي كما سأنهيها بالتأكيد: وسط الكتب».

ويقول جون دو لابرويير: «حين تبني القراءة فكرك، وتلهمك مشاعر نبيلة وشجاعة، فلا تبحث عن قاعدة أخرى لتقيم بها الكتاب»، ولقد اخترت أن أترجم نماذج أعدها من أجمل ما جاء في الكتاب، وهي لثلاثة من أبرز الكتاب والمفكرين الفرنسيين ممن شاركوا في الكتاب برؤاهم عن متعة وسعادة القراءة وهم ستندال وجان جاك رسو وناتالي ساروت.

جان جاك روسو: الاعترافات

شعرت قبل أن أفكر أنه القدر المشترك للإنسانية، وتحققت منه أكثر من أى شخص آخر.

أجهل ما فعلته حتى سن الخامسة أو السادسة؛ لا أعرف كيف تعلمت القراءة؛ لا أتذكر سوى قراءاتي الأولى وتأثيرها عليّ: إنه الوقت الذي بدأت أؤرخ فيه، بلا انقطاع، لوعيي الذاتي. تركت أمي روايات لنا. اعتدنا، أبي وأنا، أن نمثلها عند قراءتها بعد العشاء.

بدأت أولًا بالكتب المسلية،بلا شك، حتى أعتاد القراءة، ولكن سريعًا ما أصبح الاهتمام حقيقيا للغاية، لدرجة أننا كنا نقرأ على التوالي وبلا توقف. ونقضي الليالي منشغلين بهذا الأمر. ولا نستطع أن نتركه إلا في نهايته. أحيانا كان أبي يقول على استحياء، حين يسمع في الصباح طائر السنونو: «هيا لننام؛ إنني طفل أكثر منك».

اكتسبت في وقت قصير، من هذه الطريقة الخطيرة، ليس فقط سهولة قصوى في القراءة والاستماع إلى نفسي، ولكن أيضًا ذكاء فريدا لمن هم في مثل سني يتعلق بأشكال الولع. لم يكن لدي أية فكرة عن الأشياء، أما المشاعر فكانت كلها معروفة بالنسبة لي. لم أكن أعي شيئًا، بل كنت أشعر بكل شىء. تلك المشاعر المختلطة، التى عشتها خطوة خطوة، لم تغير مطلقًا العقل الذي لم يكن قد تكون بعد؛ ولكنها أعطتني عقلًا ذا طبيعة خاصة، وأعطت لحياتي الإنسانية مفاهيم غريبة وخيالية والتي لم تستطع خبرتها ولا انعكاسها أن يشفيني.

انتهت الروايات في صيف 1917. وفي الشتاء التالي، حدث شىء آخر. نفدت مكتبة أمي، فلجأنا إلى الكتب التى تمثل حصتنا من مكتبة والدها. لحسن الحظ، كان بها كتب جيدة؛ وهو أمر بديهي؛ فالذي كون هذه المكتبة كان وزيرًا، في الحقيقة، وعالما كذلك، لأنها كانت الموضة حينذاك، لكنه رجل ذو ذوق وفكر. تاريخ الكنيسة والإمبراطورية، تأليف لو سير؛ خطابات بوسيه حول التاريخ العالمي؛ الرجال المشهورون، لبلوتارك؛ تاريخ فينيسيا، لناني؛ تحولات أوفيد؛ لابرويير؛ العوالم، لفونتونل؛ وكتابه حوارات الموتى، وبعض الأجزاء لموليير، انتقلت إلى مكتب أبي، وكنت أقرؤها له كل يوم، أثناء عمله. اكتسبت ذائقة نادرة وربما فريدة في هذا العمر. أصبح بلوتارك، بالأحرى، كاتبي المفضل. والمتعة التي كنت أشعر بها عند قراءته مرارًا بلا توقف داوتني قليلًا من الروايات، ثم سريعًا ما بت أفضل أجيزيلا/ بريتو، أريستيد، إلى أوروندات، وأرتامن وجوبا. من هذه القراءات المسلية، ومن اللقاءات التى سببتها بين أبي وبيني، تشكل هذا الفكر الحر والجمهوري، وهذه الشخصية الجموح والأبية، التى لا تطيق العبودية ولا الاستعباد، والتي أرقتني طوال حياتي في أقل المواقف خصوصية لتمنحها الدفعة. كنت مهتمًا بلا توقف بروما وأثينا، أعيش مع رجالهم العظام، وقد ولدت مواطنا في الجمهورية، وابنا لأب حيث حب الوطن ولعه الأكبر، كنت مفتونًا به؛ كنت أظن نفسي إغريقيًا أو رومانيًا؛ وأصبحت الشخصية التى أقرأ حياتها: فالقصة التى تقدم ملامح المثابرة والبسالة كانت تهزني وتجعل عيني متوقدتين وصوتي قويًا. وفي يوم كنت أحكي على الطاولة مغامرة سكافولا، وفزع من كانوا حولي لرؤيتى أتقدم وأمسك الموقد بيدي لأعرض فعلته.

ناتالي ساروت: طفولة

وضعوا في حجرتي كومودًا قديمًا اشتروه من تاجر يبيع الأثاث المستعمل، كان من الخشب الداكن، وله قرصة سميكة من الرخام الأسود، وأدراج مفتوحة تنبعث منها رائحة العفن والتعطن، وتحوي إصدارات عديدة هائلة مجلدة بكارتون مغطى بورق أسود ذي عروق دقيقة مصفرَّة... ربما نسيها البائع أو تجاهل أن يأخذها... إنها رواية لبونسون دو تيريPonson du Terrail، ريكومبولRocambole.

كل سخرية أبي... «إنه بائع صحف، وليس كاتبا، لقد كتب...لا أعرف شيئًا مما كتب، بالنسبة لي، لم أقرأ سطرًا واحدًا له... ولكن يبدو أنه يكتب عبارات مضحكة... «يداها باردتان مثل يدي حيَّة...» إنه مهرج، فهو يسخر من شخصياته، ويخلط بينها، وينساها، وكان عليه، كي يتذكرها، أن يقدمها من خلال العرائس التى يحتفظ بها في دولابه ويخرجها منه هكذا بلا ترتيب، فهذا الذي أماته، يظهر حيًا بعد عدة فصول، ومع ذلك فإنك لن تضيع وقتك... «لا فائدة حالما يكون عندي وقت متاح فإنني أسرع الى تلك الصفحات الكبيرة المنتفخة، الرطبة بعض الشىء، والملطخة ببقع مخضرَّة، من هنا ينبعث شيء حميمي، وسرِّي... رقة تشبع تلك التى غلفتني بعد ذلك في منزل ريفي، قديم، ذي تهوية سيئة، حيث كانت هناك سلالم صغيرة في كل مكان، وأبواب خفية، وممرات، وأركان مظلمة...

ها هي أخيرًا اللحظة المرتقبة التى أستطيع فيها أن أفرش الكتاب على سريري، وأفتحه على الموضع حيث اضطررت لتركه... رميت نفسي على السرير، وسقطت.. مستحيل أن أتوقف، إنني مأخوذة بالكلمات، بمعانيها، وأشكالها، وتلاحق العبارات، يجذبني تيار غير مرئي مع هؤلاء الذين أتعلق بهم بكل كياني المنقوص ولكن المتعطش للكمال، بهؤلاء الذين هم عين الطيبة، والفضيلة، النبل، والنقاء، والشجاعة... ينبغي أن أواجه معهم الكوارث، وأمر بأخطار رهيبة، وأن أصارع على شفا الهاوية، وأتلقى لكمات على ظهري، وأن أحبس، وأُعامَل بغلظة من نساء بشعات، وأن أكون مهددة بالفقد الأبدي... وفي كل مرة، حينما نكون على حافة ما أستطيع تكبده، وحينما ينعدم أقل أمل، وأقل إمكانية، وأقل احتمال... تتأتى لنا... شجاعة عجيبة، ويصل النبل، والذكاء في وقته بالضبط لينقذنا.

إنها لحظة سعادة قصوى... قصيرة جدًا دائمًا... وسريعًا ما يأخذني الذعر، والهلع ثانية... بالتأكيد تنقذ حتى هذه اللحظة، حياة من هم أكثر قيمة، وأكثر جمالًا، وأكثر نقاء... حتى اللحظة الحاضرة... لكن كيف لا نخشى من أن تطال هذه المرة... من هم يكادون أن يكونوا أقل اكتمالًا...وإذا كانوا أقل اكتمالًا، فهم أيضًا أقل غواية، وأنا أقل ارتباطًا بهم، ولكننى كنت أتمنى أن يحدث لهم الأمر نفسه في اللحظة الأخيرة، ربما إنهم يستحقونه... أوه كلا إنهم يحملون جزءًا منتزعًا مني، يُقذفون من أعلى الأخاديد، ويُدهسون، ويُغرقون، ويجرحون جروحًا مميتة.

لأن الشر كان موجودًا، في كل مكان، جاهزًا طوال الوقت ليهاجم... إنه على قدر قوة الخير، وفي كل لحظة هو على شفا الانتصار... وفي هذه المرة ضاع كل شيء، كل ما به نبل أكثر وجمال أكثر على الأرض... استقر الشر بصلابة، ولم يتجاهل أي تحذير، لم يعد هناك ما يخشاه، ويتلذذ بانتصاره مقدمًا. أخذ وقته... وحانت لحظة الرد على أصوات تنبعث من عالم آخر... «لكنهم ينادون عليك، حسنًا، ألا تسمعين؟»... لابد من الذهاب وسط هؤلاء الناس الصغار، المتعقلين، الفطنين، ما الذي عساه أن يحدث لهم، حيث يعيشون... فكل شيء بليد، وحقير، وشحيح... أما عندنا، فنرى في كل لحظة قصورًا، وفنادق، وبنايات، وأشياء، وحدائق، وتجهيزات جميلة للغاية، وهو ما لا نراه هنا إطلاقًا، وأمواجا من قطع ذهبية، وأنهارا من ألماس «ماذا حدث لنتاشا؟» سمعت صديقة جاءت لتناول العشاء، تطرح هذا السؤال على أبي بصوت خفيض جدًا... لابد وأن مظهري التائه، الزائغ، وربما اللامبالي قد فزعها. ووالدي يهمس في أذنيها... «إنها غارقة في ريكومبول Rocambole!» هزت الصديقة رأسها كأنها تقول: «آه! فهمت...»

لكن ما الذي يمكن أن يكونوا قد فهموه...

ستاندل: أب وابن

نادى الأب سوريل جوليان بصوته الجهير، وهو يقترب من ورشته؛ لم يرد أحد. لم ير سوى أبنائه الكبار، العمالقة، الذين يهشمون جذوع الأَرز، ببلطاتهم الثقيلة، ليحملوها بعد ذلك إلى المنشار. وهم منهمكون تمامًا في تتبع العلامة السوداء البادية على قطعة الخشب، كانت كل ضربة من بلطتهم تفصلها عن كم هائل من النشارة. لم يسمعوا صوت والدهم. الذي توجه نحو المخزن. وحين دخل إليه، بحث،بلا جدوى، عن جوليان في مكان عمله بجانب المنشار. لاحظه على ارتفاع خمس أو ست أقدام راكبًا فوق واحدة من القطع الخشبية المكونة للسقف كما لو كان يركب حصانا. وبدلًا من أن يتابع باهتمام الآلية بكاملها، كان جوليان يقرأ. لا يبغض الكهل سوريال شيئًا أكثر من هذا، فقد يغفر لجوليان قامته النحيفة والمختلفة عن قامة إخوته الكبار تمامًا؛ ولكن عادة القراءة تلك كانت بشعة بالنسبة إليه، فهو لم يكن يعرف القراءة.

نادى على جوليان، بلا طائل، مرتين أو ثلاثا، فالاهتمام الذي كان الشاب يوليه لكتابه، بالإضافة إلى الضوضاء الصادرة عن المنشار، منعته من أن يسمع صوت أبيه الفظيع. في النهاية، وعلى الرغم من سنه، قفز الأب برشاقة فوق الشجرة الخاضعة لحركة المنشار ثم فوق الكمرة العرضية التي يستند إليها السقف. ووجّه ضربة عنيفة للكتاب الذى يمسكه جوليان جعلته يطير ليسقط في الجدول، وضربة أخرى عنيفة على رأسه، أفقدته التوازن. كاد سيسقط من على ارتفاع اثنتي عشرة أو خمس عشرة قدما، وسط ركائز الآلة وهي تعمل، والتى كانت لتهرسه، ولكن والده أمسك به بيده اليسرى.

- حسنًا، أيها الكسلان! إذن فأنت تقرأ طوال الوقت كتبك اللعينة، في الوقت الذي ينبغي فيه أن تحرس المنشار؟ فلتقرأها في المساء.

اقترب جوليان، مع كونه زائغا من قوة الضربة، وينزف تمامًا، اقترب من موقعه الرسمي، بجانب المنشار. كانت الدموع تملأ عينيه، ليس بسبب الألم الجسدي بقدر ألمه لفقد الكتاب الذي يعشقه.

- انزل، أيها الحيوان، لأكلمك. حالت ضوضاء الآلة دون أن يسمع جوليان هذا الأمر. ولم يُرِد والده، الذي كان قد نزل، أن يكلف نفسه عناء عبور حركة الآلة، فبحث عن عصا طويلة يسقط بها الجوز، وضرب بها على كتف جوليان. لم يكد جوليان يلامس الأرض، حتى زجّه الكهل بغلظة أمامه، ودفعه نحو البيت. قال الشاب محدثًا نفسه، الرب يعلم ما سيفعله بي! نظر حزينًا إلى الجدول، وهو يمر، حيث وقع كتابه؛ لقد كان أكثر كتاب يحبه، إنه مذكرات سانت - هيلين.

- اكتسبت وجنتاه احمرارًا وعيناه كانتا منكستين. لقد كان شابا صغيرا في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمره، ذا مظهر ضعيف، وملامح غير منتظمة، ولكن رقيقة، وأنف معقوف. عينان سوادوان واسعتان تعلنان في اللحظات الهادئة، عن التفكير والشغف، بينما كانتا تنطقان في هذه اللحظة بتعبيرات الكره الأكثر شراسة. له شعر كستنائي غامق، ترك له جبهة صغيرة، ومظهرا شريرا، في لحظات الغضب. قوامه رشيق ومرتب يعلن عن خفة أكثر مما يعلن عن بأس. بدا عليه منذ شبابه المبكر مظهر المتأمل بشكل كبير كما أن شحوبه الجلي أعطى لأبيه الفكرة بأنه ربما لن يعيش، أو أنه ربما يعيش عبئًا على عائلته. كان شيئًا محتقرًا من كل من في البيت، فكان يكره إخوته وأباه؛ في ألعاب يوم الأحد، وفي الميدان الأهلي، كان دائمًا ما يضرب.

لم يمر عام واحد إلا وبدأت هيئته الجميلة تكسبه بعض الأصوات الصديقة عند الفتيات. كان جوليان محتقرًا من الجميع باعتباره شخصا ضعيفا، فعشق هذا الجراح الكبير الكهل والذي تجرأ يومًا ما وتكلم مع عمدة البلدة في موضوع أشجار الجميز.

هذا الجراح كان أحيانًا ما يدفع للأب سوريل يومية جوليان وكان يعلمه اللاتينية والتاريخ، أي أنه كان يعرف التاريخ، وحملة 1796 في إيطاليا. عند موته، أوصى له بوسام الشرف الذي كان قد حصل عليه، ومدخرات تمثل نصف رصيده.

يكاد يدخل إلى المنزل، شعر جوليان أن كتفيه خائرتان من قوة ضربة أبيه؛ كان يرتجف، منتظرًا بعض الضربات.

- أجبني دون كذب، صرخ في أذنيه الصوت القاسي للفلاح الكهل، بينما كانت يده تجذبه إلى الخلف كما تجذب يد طفل جنديًا. تواجهت عينا جوليان السوداوان الواسعتان الدامعتان مع عينين صغيرتين رماديتين مليئتين بالشر للنجار الكهل والذي بدا عليه أنه يريد أن يقرأ حتى أعماقه.
-----------------------------------
* مترجمة من مصر.

 

تأليف: نخبة من الكتاب الفرنسيين