جمال العربية
جمال العربية
لزوميات المعرّي صوت احتجاج وإدانة! هل هو التحدي وحده - لشعراء عصره ولكل الشعراء السابقين - هو الذي دفع بأبي العلاء المعري إلى إبداع لزومياته, أو لزوم ما لا يلزم, تحقيقا لقوله في شعره:
فأتى بما لم تستطعه الأوائل, وأيضا بما لم يقدر عليه الأواخر, الذين حاولوا مجاراته, فكبوا دون بلوغ مداه! أم هو ولع المعري بالموسيقى, ووفرة إحساسه بها, إيقاعا وتدفقا, وهو الذي يرى العالم ويُحسّه بأذنيه, فجعل كل همه مضاعفة الروي, بحيث يجيء فيه بالحركات الثلاث ثم بالسكون, ملتزما في قوافيه كلّ حروف المعجم! أم هي قدرته اللغوية العارمة, وحافظته المستوعبة الحية, تسعفه بما لا يستطيعه غيره, وتفيض عليه بما يتيح له أفقا واسعا من الاختيار, ونفاذا إلى الكلمة التي تستقر في مكانها غاية الاستقرار وأحكمه, فتبدو كالماسة المشعة في العقد المتلألئ! إن لزوميات المعري التي تمثل شعر النضج والحكمة, والتي تلت شعر الصبا والشباب في ديوانه الأول (سقط الزند), هي التي تحمل أقباس فلسفته التي تقوم كما يقول الدكتور شوقي ضيف (على تشاؤمٍ حاد يُردّ إلى فقده لبصره صبيا وإلى ما أطبق على المجتمع لزمنه من شرور ومن حكم فاسد, كما تردْ إلى إحساسه العميق بآلام الإنسانية التي ملأت قلبه لوعة, مما جعله مفكرا إنسانيا عظيما, بالإضافة إلى جانب ثان استمده من الدين الحنيف وما فيه من دعوة إلى الزهد والتقشف والإيمان الصادق بالله وملائكته وكتبه وتكاليفه الشرعية واليوم الآخر, وما فيه من ثواب وعقاب, مع الاعتقاد بحدوث الكون وكلّ ما فيه من مادة وزمان وأفلاك وكواكب, فالله خالق الكون ومبدعه قال له: كن فكان. وجانب ثالث في فلسفته استمده من الاعتزال وما فيه من تمجيد العقل وتقديسه, ومن وجوب العدل على الله وتنزيهه عن التجسيد, ومن الإيمان بحرية الإرادة للإنسان وأنه حرّ كامل الحرية في أفعاله الشريرة الآثمة والخيّرة الطيبة). وهو الجانب الذي ذهب فيه المعري مذهب المعتزلة: أصحاب أكبر حركة عقلية في تاريخ الفكر الإسلامي! كان مولد المعري في سنة 363 هجرية في (معرة النعمان) من أعمال حمص بين حلب وحماة, وإليها ينسب, مشتهرا بكنية (أبي العلاء) وفي ذلك يقول:
وهو في البيت يسخر من تسميته بأبي العلاء, ويعد ذلك من قبيل الكذب, لأنه يرى نفسه أبا النزول! فقد المعري بصره في سن الرابعة بسبب إصابته بالجدري, وكان يقول: (لا أعرف من الألوان إلا اللون الأحمر, لأني ألبستُ في الجدري ثوبا مصبوغا بالعصفر, لا أعقل غير ذلك). ونشأ في بيت قضاء وعلم وشعر, بادئا بحفظ القرآن, فالانكباب على كتب الدين الحنيف, واللغة, بعد أن جعله فقده المبكر لبصره يعنى بطلب العلم. وحين قرر ألا يغادر داره بعد أن بلغ السابعة والثلاثين حتى وفاته عن ستة وثمانين عاما, أطلق عليه رهين المحبسين, لكنه عدّ نفسه نزيلا لثلاثة سجون حين قال:
والخبر النبيث هو الخفيّ, إذن فهو سجين العمى وسجين الدار التي لم يعد يفارقها, وسجين الجسم الذي لن يتحرر منه إلا بالموت, ففي الموت حريته وتحرره. وعلى امتداد قرابة نصف قرن من لزومه لبيته أنجز المعري أعماله الكبرى: اللزوميات ورسالة الغفران وكتاب الصاهل والشّاحج - متحدثا فيه على لسان فرس وبغل - وكتاب القائف - وهو أمثال على طريقة كليلة ودمنة - وكتاب الفصول والغايات وديوانه الصغير (الدرعيات) وغيرها. في لزوميات المعري أو ديوانه (لزوم ما لا يلزم) بصر نافذ في الحياة والإنسان والمجتمع والكون, ووقوع على الشرور الكبرى والصغرى بدءاً بشرور الحكم الفاسد إلى آلام الإنسان وأوجاعه في دنياه, مؤمنا بالعقل الذي يتخذه إماما له لا يثق إلا به ولا يلقي مقاليده إلا إليه:
اللزوميات إذن هي صوت المعري الحقيقي في شعره, صوته الرافض للفساد والظلم والطغيان والجبروت, صوته الهادر بالحزن والسخرية والمرارة والتشاؤم, صوته المُعْلي للكرامة الإنسانية واليقين العقلي والحرية الإنسانية, يرفعه في زمن لا يختلف كثيرا عن زماننا الذي نعيشه, فسادا وتشرذما وتمزقا ومذلة وهوانا, ونزاعات وخصومات, وتشبثا بالباطل وانحباساً داخل صغائر الأمور وظلمات الجهالة الجهلاء. يقول المعري في لزومياته مصوّرا فساد العقائد:
في لزومية أخرى يقدم المعري صورة وصفية لشخصه وفكره ورؤيته, في أبيات شديدة التركيز والتكثيف, كلّ بيت فيها نقلةٌ في الفكر وتعبيرٌ عن موقف وصياغةٌ لفكرة:
وفي لزومية ثالثة تتوهج بلغة المعري التي تتراوح بين السلاسة واليُسْر والجزالة والغرابة, وولع المعري بجدل الفكرة والمعنى يديره ويعرضه في جوانبه المختلفة, ويقول:
وفي رباعية تحمل هذا العنوان (فاك لفيها) - وهي قولة تستعملها العرب عند الدعاء بالمكروه والشماتة: وأصل ذلك أن السباع إذا تهاوشت صرفت أفواهها بعضها للبعض - في هذه الرباعية يقول المعري كاشفا عن المزيد من نظرته إلى الدنيا, وكيف أن الإنسان لا يمتلك فيها شيئا في حقيقة الأمر, وإنما هي ملْك لله وحده, فلماذا يتنازع الناس فيما لا طائل من ورائه, ولا يكسبون في نهاية الأمر إلا أن يُعدّوا سفهاء?!:
ومايزال شعر المعري يمارس فعله فينا: فكراً وفنا, ومايزال صوت المعري - في لزومياته - يدمغ عصره وعصرنا, زمانه وزماننا, رجاله ورجالنا, لأنه صوت العقل والحكمة واليقين, صوت الرفض والإدانة والاحتجاج, وتمجيد الحرية والكرامة الإنسانية. ---------------------------- (1) الخسر: الهلاك والفناء. (2) يأبق: يهرب من سيده ويفرّ. (3) تحملوا: ترحلوا أي ماتوا. الساقة: مؤخرة الجيش والمراد الذين وراءهم من عبيد وإماء. (4) تشوي: تخطئ المرمى. صاف السهم عن الهدف, انحرف عنه. (5) المكثر: الغنيّ. (6) العنت: الشدة والانكسار. القِماء: جمع قميء وهو الذليل الوضيع. (7) يريد ما دخل على العقائد من أوهام وخرافات ليست من أصل الدين. (8) حطام الدنيا: ما فيها من متاع أو مال قليل. (9) الذماء: بقية الروح. (10) الجانب: الغريب. الحزماء جمع حازم وحزيم: من يحسن ضبط أموره. (11) العرس: الزوجة. (12) البُخْت: الإبل. (13) سخت: من ساخ: أي انخسف وغار في الوحل. (14) الجزل والشخت: القويّ والضعيف. (15) مرتدفيها: الراكبين فوق ظهرها, أي من يعيشون فوقها. (16) الصلّ: الحية أو الثعبان الضخم. الضيغم: الأسد. (17) مكترفيها: من كرف الشيء واكترفه: شمّه. وقد تكون محرّفة عن مقترفيها: أي مرتكبيها. (18) الحبَاب: الفقاقيع التي تعلو الخمر. وحُباب (بضم الحاء): الذكر من الحيات.
|