المفكرة الثقافية

 المفكرة الثقافية
        

الكويت دار الآثار الإسلامية

الأختام الدلمونية والدراويش الهنود  

          تختتم دار الآثار الإسلامية موسمها الثقافي الثامن في أواخر مايو الجاري, بعد رحلة تاريخية وفكرية استمرت نحو ثمانية أشهر, جاب فيها رواد نشاطات الدار, رفقة علماء وأساتذة بارزين ذوي اختصاص ودراية كبيرة, مختلف معالم وعوالم تاريخ الفن والثقافة الإسلاميين على امتداد قرون الحضارة العربية الإسلامية وانبساط أقاليمها.

          وسيكون مسك ختام سلسلة تلك النشاطات الثقافية محاضرة تلقيها الشيخة هيا بنت علي بن عبد الله بن عيسى آل خليفة, الوكيلة المساعدة للثقافة والتراث الوطني في مملكة البحرين بعنوان (نماذج من مشاهد التعبد على الأختام القديمة). وفيها تشرح الشيخة هيا أصل وماهية الأختام والتمائم والتعاويذ التي عثر عليها الباحثون في علم الآثار في مختلف مناطق الخليج العربي, والتي تعود إلى عصور موغلة في القدم, يرجع تاريخها إلى عصر الحضارة الدلمونية التي كانت البحرين منطلقها. ومن المعروف أن الختم قد استخدمه الإنسان في فجر الحضارة, سواء في الخليج أم في مناطق الحضارات الكبرى في  بلاد الرافدين وبلاد الشام وفارس والهند وغيرها, كتميمة أو تعويذة تقي الإنسان من الجن والشياطين والأرواح الشريرة, وكل حسب معتقده. لكن مع تطور الحضارة وبروز أشكال التقسيم الاجتماعي للعمل, وظهور الملكية الخاصة, والمعاملات التجارية, تحولت وظيفة الأختام لخدمة هذا التطور, وأصبحت تضاهي وظيفة الأختام التي تستخدم لمهر المعاملات الإدارية والعقود التجارية والأحكام القضائية وغيرها في عصرنا الحديث.  وبذلك أصبح الملوك والوزراء وكبار التجار وملاك العقارات والأطيان يمتلكون أختامهم, وفيها ترسم شاراتهم وشعاراتهم, وكل حسب مكانته في المنظومة الاجتماعية, وهي بمنزلة توقيع شخصي لكل واحد منهم. وقد تم استخدام مختلف المواد التي توفرها الطبيعة لصنع ونقش الأختام, ولعل أثمنها هي تلك التي كانت تصنع من الأحجار الكريمة. وقدمت الأختام والتمائم التي عثر عليها في حفريات الحضارة الدلمونية وغيرها, معلومات قيّمة فيما يختص بمعرفة المعتقدات الدينية التي كانت سائدة يومذاك, وكذلك تقسيمات المجتمع وغير ذلك من الملامح الثقافية.

          تستهل دار الآثار فعالياتها الثقافية لشهر مايو الجاري بمحاضرة قيمة عنوانها (مظاهر التسامح في الفن الإسلامي), سيلقيها خامس أيام مايو  الدكتور غنتر مولاك, المتخصص في العلوم القانونية الإسلامية, والمشارك في الحوار المتعدد الثقافات, الذي ترعاه وزارة الخارجية الألمانية. وفيها يبرز المحاضر الطرق والمناهج التي تبدت فيها سماحة الإسلام في ميدان الفنون التي أنتجتها الحضارة العربية الإسلامية على امتداد قرون سطوعها, بدءا بالفترتين الأموية والعباسية, وممالك الأندلس والمغرب, وانتهاء بالحقبة العثمانية وبعصر السلاطين المغول في الهند. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو قيام الفنانين المسلمين باستخدام الموروثين البيزنطي والفارسي والانطلاق منهما لابتداع فن إسلامي جديد في العمارة والزخرفة وفي صناعة الجواهر والحلي وصناعة المعادن وفي الفخار و(السيراميك) وغيرها. وقد تجلت سماحة الإسلام والمسلمين من خلال إفرادهم لمكانة مميزة للصناع وللفنانين الذين كانت بلاطات الحكم تستعين بخبراتهم ومهاراتهم لإنتاج مختلف أنماط الفنون, ولم يكن معتقدهم غير الإسلامي يمنعهم من ممارسة أنشطتهم وارتقاء معارج السلم الاجتماعي إلى درجات عالية منه, فقد استعان الأمويون والعباسيون, وملوك الأندلس, وكذلك الأيوبيون بصناع نصارى ويهود وصابئة وحتى هندوس ومجوس, واستخدموهم في الورشات السلطانية المختلفة. ومن خلال ذلك, تمازجت الفنون والثقافات وما يرتبط بها من رموز وشعارات, ونتج عن ذلك ما تجلى من غنى وثراء ذي مسحة إنسانية في الفنون الإسلامية قاطبة. كما كان أولئك الفنانون, من مسلمين وغير مسلمين واحدة من القنوات الرئيسية التي سمحت بانتقال المعارف العلمية والفكرية والفنية بين مختلف أصقاع المعمورة ومراكزها الحضارية الكبرى من الصين إلى أوربا, وقد لعب المسلمون خلال ما لا يقل عن ثمانية أو تسعة قرون دورا كبيرا في ذلك, وذلك على الرغم من الحروب والمنازعات.

            أما ثانية المحاضرات التعريفية بالفنون الإسلامية التي سيحتضنها مركز الميدان  الثقافي التابع لدار الآثار الإسلامية في الثاني عشر من الشهر الجاري, فستلقيها الأستاذة أمينة أوكادة, المسئولة الأولى عن مجموعة الفنون الآسيوية في متحف غيمي في باريس والمتخصصة في الفنون الهندية, وعنوان محاضرتها هو (صور الأولياء الصالحين في فن الرسم المغولي). وفي هذه المحاضرة ستتطرق الأستاذة أمينة أوكادة إلى استعراض خصائص الفن المغولي في الهند, وأساسيات نشوئه باعتباره امتزاجا خلاقا بين فنون بلاد فارس الإسلامية والفنون الهندية العريقة. وتركز هنا على الطابع السلطاني لذلك الفن, حيث عرف عن السلاطين المغول, وخصوصا العظام منهم, مثل بابر وهمايون وأكبر وشاه جهان وجاهنكير وغيرهم, ولعهم بالفنون وبالمعمار وبالحدائق وبالحلي والجواهر وغيرها من تفرعات الفن الأخرى. وبحكم الطبيعة الهندية, وتغلب التوجه التأملي والفلسفي على الحياة الثقافية في تلك الأصقاع, فقد كان للدراويش والمتصوفة والزهاد, سواء أكانوا من المسلمين أم من الهندوس, مكانة بارزة في المجتمع الهندي الذي كان السواد الأعظم منه قد بقي هندوسيا وثنيا, على الرغم من تمكن السلاطين المغول (وهم في حقيقتهم أتراك عرقا, وفرس  ثقافة) من بسط سيادتهم على معظم شبة القارة الهندية. وانطلاقا من ذلك, كان السلاطين, ومختلف أبناء الأسرة المغولية, ذوي تعلق خاص بالزهاد والنساك ومن يطلق عليهم العامة (أولياء الله الصالحين), فبوأوهم مكانة أثيرة في البلاط, وبنوا لهم المقامات والأضرحة التي كانت آية في الإبداع والفن.

          ولأن فن الرسم المنمنم كان هو أحد الفنون الكبرى التي حظيت بالرعاية السلطانية, فقد احتل (أولياء الله الصالحين) ركنا من أركانه, وغالبا ما يظهر السلاطين في الكثير من المنمنمات وهم يزورون مقامات أو أضرحة الزهاد والنساك, وكبار الدراويش, أو يتلقون منهم البركة والمنة.

          فيما سيكون الختام الرسمي لفعاليات الموسم الثقافي الثامن لدار الآثار الإسلامية في غضون شهر يونيو القادم.

عيسى طيب  

القاهرة

يحيى حقي .. عطر الأحباب تحت ضوء قنديل!

          جمعتنا رحلة إلى إيطاليا في الثمانينيات, حين سافرت بصحبته وزوجته السيدة جان. كنا ضيوفا في احتفالية كرمت صاحب (عصفور من الشرق); توفيق الحكيم, وما قبل هذه الرحلة, لم يكن كما بعدها, وقد آثرني نشيد البساطة في الأدب واللغة والحياة: يحيى حقي, بصداقة امتدت سنوات حتى رحيله. واختارني الأديب الكبير أن أكون ضيفه الأسبوعي في منزله, مع التاسعة صباح كل يوم جمعة. وكنت قبل أن أدق جرس الباب يصلني صوته: مصطفى كيفما أصبحت? وفي مكتبته التي خلت من الكتب بعد أن أهداها لجامعة المنيا ـ إلا بعض المراجع الأجنبية ـ يجلس نحو الساعتين ليملي علي تحت ضوء قنديل المحبة للإنسان والحنو على اللغة مذكراته في الإبداع التي أرادها أن تحمل عنوان (جهادي في الفن).

          تذكرت أيام حقي وأنا أحضر احتفالية لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة, التي حملت عنوانا دالا: يحيى حقي ظاهرة ثقافية. بمشاركة أكثر من عشرين مبدعا وناقدًا حاولوا النفاذ إلى مملكة حقي التي أضاءها بشموع القصة القصيرة, وغرسها بنخيل الرواية الأصيلة, وعطرها بمقالاته الأخاذة في السينما والموسيقى والسيرة الذاتية وغيرها من مقالاته التي انحازت للبسطاء والمهمشين في الحياة.

          وفي كلمته التي اعترف فيها بأن هذه الاحتفالية أقل مقاما من قدر حقي قال الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة الدكتور جابر عصفور إن مكانة حقي بالقلب وفي مصاف الكتاب المصريين الكبار أصحاب الإنجازات الكبيرة والدور البارز في حياتنا الثقافية والإبداعية. وتحدث الكاتب صبري موسى في محور الندوة الخاصة بعلاقة السينما بأدب يحيى حقي عن تجربته ككاتب سيناريو في تحويل روايتي (قنديل أم هاشم) و(البوسطجي) إلى فيلمين التزما بنص الروائي المدهش ويعدهما نقاد الفن من العلامات الأبرز في تاريخ السينما المصرية. وقد عرضت الاحتفالية الفيلم الثاني مسبوقا بآخر تسجيلي عن حياة حقي من إخراج أحمد راشد.

          وفي الدراسة التي حملت عنوان الاحتفالية, ضم محمد جبريل الأديب الكبير لجيل الرواد لأنه (قام في حياتنا الثقافية بالدور نفسه الذي قام به جيل الرواد), بعد أن أعد نفسه إعدادا شاقا لكي يكون قادرا على الدخول في غمار اكثر من فن والإبداع فيه تفوق في اكثر من مجال منها مجال القصة القصيرة التي يعتبر أحد روادها حيث نشر أول قصة له في عام 1925, وكان ابرز أساتذة المدرسة المصرية الحديثة في القصة القصيرة والتي ضمت محمود طاهر لاشين ومحمد تيمور وإبراهيم المصري وغيرهم. وقد كتب حقي عن معظم أفراد هذه المدرسة وما قدموه من إبداعات قصصية.

          وتحدث جبريل عن رؤى يحيى حقي الإبداعية, ورؤيته لفني الرواية والقصة, مشيرا إلى أن حقي كان يعنى بالشخصية اكثر من عنايته بالحدث, فكان ينشغل بإبراز ملامح أبطاله ومشكلاتهم ونوازعهم النفسية وتأثيرات البيئة عليهم, محاولا الكشف عن بعض من جوانب النفس الإنسانية, خاصة وهي تنقل القاريء من الصورة الجزئية المباشرة إلى المعنى الكلي خلفها. واستفاد حقي كما قال جبريل ـ من تقنيات القصص الشعبية والملاحم باتخاذ صوت الراوي, مما جعل رواياته (رائقة الصوت), وأبدى تعاطفه مع أبطال القصص, لتخرج كتاباته حميمية. وأغرم حقي بالمكان الشعبي وهو ما ظهر واضحا في وصف ميدان السيدة زينب اكثر من مرة في لوحات (قنديل أم هاشم), وأجاد وصف أجواء الصعيد الذي أقام به زمنا, كما في قصص مجموعته (دماء وطين) وسيرته الذاتية (خليها على الله), وهي التي استفاض في دراستها الأديب يوسف الشاروني.

          وقدم يحيى كتابه (خليها على الله) في عام 1956 ثم (كناسة الدكان) في أوائل التسعينيات, وفيهما احتفل حقي بالصورة واللوحة القصصية والاستطراد وفن البورتريه, كما اهتم حقي بتصوير الشخصيات التي يتحدث عنها وإبرازها داخليا وخارجيا.

          ذات يوم وكنا نسير قرب بيته بشارع الغزالي في ضاحية مصر الجديدة القاهرية, سألني حقي: أين الورد البلدي الآن, لم يعد أحد يراه إلا وهو طالع (القرافة) ذاهب إلى المقابر لقراءة الفاتحة على أرواح الموتى, بينما كان شراء الورد البلدي متاحا في القاهرة في أيام زمان. لقد ذهب الورد, وماء الورد, ولم يبق سوى عطر نستنشقه عبر الذكرى كل عام.

مصطفى عبد الله 

في مكتبة الإسكندرية..

استنساخ مخطوط لأبي بكر الرازي

          ضمن ما يمكن أن ينضوي تحت سماء إنعاش الذاكرة العربية التي قدمت صفحات ناصعة في معجم تاريخ العلوم, انطلقت في مكتبة الإسكندرية سلسلة جديدة للنشر التراثي متعدد اللغات. كان الكتاب الأول الذي صدر قبل شهور هو رسالة الحسن بن الهيثم (مقالة في ماهية الأثر الذي يبدو على وجه القمر). وتعكف المكتبة في هذه السلسلة على اختيار مخطوطات مما تحفظه في خزائنها, لتنشرها محققة مصحوبة بترجمات إنجليزية وفرنسية وألمانية, مع (استنساخ) مخطوطة يتم طبعها طبق الأصل في مادتها الورقية لتوزع داخل مغلف الترجمة والتحقيق.

          والكتاب الثاني الذي صدر منذ أيام هو تحقيق لمخطوطة أبي بكر محمد بن زكريا الرازي; مقالة في النقرس. اختيار الرازي ومخطوطته يعكس حرص المكتبة على التواصل بمفهومه العميق, فالدكتور إسماعيل سراج الدين مدير المكتبة  يرى أن هذا العالم المسلم الذي توفي قبل أكثر من ألف ومائة عام, كان جسرًا من الجسور التي عبر من خلالها العلم اليوناني القديم المتمثل في التراث الطبي الأبقراطي, إلى العالم الإسلامي, وهو ما تشهد به ترجمات كثيرة لكتبه إلى اللغات الأوربية.

          وفي هذه الطبعة المحققة نفذت الترجمة الإنجليزية أمنية نوح, والفرنسية الدكتورة منى فرحات, والألمانية الدكتور محمد سليمان بدر. والمثير أن الدكتور يوسف زيدان يكشف في تحقيقه لها تزلف الرازي وهو يتقرب من الأمير صالح منصور ووالده حاكم الري, وهو التقرب الذي   لقي انتقادا من معاصري الرازي فرد عليهم في رسالته (السيرة الفلسفية): إن أناسًا من أهل النظر والتمييز والتحصيل, لما رأونا نداخل الناس ونتصرف في وجوه المعاش,  عابونا, واستنقصونا, وزعموا أنا حائدون عن سيرة الفلاسفة, ولا سيما عن سيرة إمامنا سقراط, المأثور عنه أنه كان لا يغشى الملوك, ويستخف بهم إن غشوه.

          وقد حقق المقالة نفسها فيما قبل الدكتور حازم البكري الصديقي, ونشرها معهد المخطوطات العربية ـ حين كان مقره الكويت ـ معتمدًا على أربع نسخ خطية, أقدمها على الإطلاق مخطوطة التيمورية المؤرخة بسنة 1147 هجرية, وأخرى غير مؤرخة, واثنتان مؤرختان بعامي 1232 و1241 هجرية, لكن مخطوطة مكتبة الإسكندرية هي الأهم لأنها واضحة ومقابلة وكاملة وكاتبها طبيب مختص, وكذلك الأقدم,  حيث تعود لتاريخ 891 هجرية.

          ويتبع الرازي في (مقالته) طريقة سقراطية تذكر بمحاورات أفلاطون, كأنها بين سائل ومجيب, وفيها اهتم بالجانب الإكلينيكي للمرض, ومتابعة الأعراض والعلامات, وارتباط النقرس ببنية الجسم العامة, والصلة بينه وبين أجهزة الجسم المختلفة, وهي تلك النظرة الكلية ـ التي تعد من آثار الفلسفة ـ وتفتقدها البحوث الطبية المعاصرة.

          يقول الرازي في الباب الثاني عشر ـ من بين عشرين بابا ـ ردًا على سؤال: كيف ينبغي أن يدبر المنقرس بالمطعم والمشرب? أن يكون الطعام في كميته معتدلا جيد الجوهر في كيفيته. ويحدد أكثر عن الخبز (إن أجوده ما كان من السميذ والمستخرج من حنطة شمعية اللون مكتنزة ملززة (ممتلئة) نبيلة الحب لا يشوبها شيء من التراب), وفي اللحوم (لحم الطير المحمود, مثل الطهيوج والدراج والفراريج والشفانين والقبج), والسمك (ما كان صغيرا معتدل الصغر, ومأواه في ماء رضراض جار وفي أرض صخرية أو رملية), والبيض (ما منه شيء يحمد إلا النيمرشت (المسلوق) الرقيقي إذا تحسى حساء), والفواكه اليابسة (وأحمدها اللوز المقشور), والرطبة (وأحمدها العنب والتين ثم التفاح والرمان, ثم السفرجل والكمثرى), وأما البقول (فليس منها شيء محمود على الإطلاق إلا الخس وبعده الهندباء والكشوث والكرفس المربى) وأما الأشربة فأحمدها بالجملة (ما كان لذيذ الطعم, حسن اللون, طيب الرائحة, رقيق القوام, يميل في لونه إلى الحمرة الناصعة).

          وللرازي (الحاوي) وهو أهم موسوعة طبية إكلينيكية تنتمي للحضارة الإسلامية, سجل فيه آلاف الحالات المرضية والطرق العلاجية لها, وله غيره في الطب: المنصوري, الفاخر, الشكوك على جالينوس, منافع الأغذية, وكتاب القولنج, وفي الفلسفة كتاب السيرة الفلسفية, ومقالة فيما بعد الطبيعة, وكتاب العلم الإلهي, والقول في القدماء الخمسة, والقول في الهيولي, والقول في المكان والزمان, والقول في النفس والعالم, والطب الروحاني. والطريف أن الكتاب المحقق يهمل أبياتا جاءت في صفحة المخطوطة قبل الأخيرة, وإن كان يشك أنها تنتمي للمخطوطة إلا أنها لطرافتها ولدقة العمل كان ينبغي إيرادها, وتقول:

وحيدًا من الخِلان فِي كلِّ بلدةٍ إذا عَزَمَ المطلوبُ قلَّ المسَاعِدُ
وتَسْتعبدُني في عمرة بعدَ عمرة صبوحٍ لها منها عليها شَواهِدُ


أشرف أبو اليزيد  

بيروت

(الآداب) اللبنانية.. صوت للثقافة يصارع الأزمات

          تزامن تكريم الرئيس حسني مبارك في يوم افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب لنخبة من الأدباء والمفكرين العرب, منهم الدكتور سهيل إدريس مؤسس مجلة الآداب ورئيس تحريرها لمدة تزيد على ثلث قرن, تزامن هذا التكريم مع متاعب تواجهها (الآداب).

          فقد صودر عدداها الأخيران اللذان خصصتهما للرقابة العربية في أكثر من بلد عربي.ولأنها لم تعد صاحبة توجه أدبي وفكري محض, بل طغى عليها في السنوات الأخيرة الهمّ السياسي والقومي, فقد كان من الطبيعي أن يعمد الرقيب, هنا وهناك, إلى الحدّ من حريتها. وبذلك تفاقمت أزمتها المالية التي دفعت برئيس تحريرها الحالي الدكتور سماح إدريس إلى توجيه نداء إلى قراء (الآداب) ومحبيها للتبرع لها وشراء مجموعتها الكاملة, لأن من شأن ذلك مساعدتها على تحمل تكاليف صدورها التي زادت مع الوقت.

          وقد أكّد الدكتور سهيل إدريس عند تكريمه في القاهرة وجود هذه المتاعب التي من مظاهرها صدور المجلة في الوقت الراهن ستّ مرات في السنة مع أنها مجلة شهرية كانت تصدر بانتظام في السابق. كما أن (الآداب) كانت تطبع في الماضي ثمانية آلاف نسخة, فباتت تطبع في الوقت الراهن أربعة آلاف, ولكنها لا توزع عملياً أكثر من ثلاثة آلاف نسخة.

          وأضاف الدكتور سهيل إدريس أن المجلة تكلف (دار الآداب) التي تصدرها خسارة سنوية تبلغ ستين ألف دولار وهو رقم ضخم, وأنه يعارض توقف (الآداب) عن الصدور, خلافاً لرأي الأسرة التي تلحّ على توقفها.

          ولا تزال (الآداب) إلى اليوم تحافظ على خطها القومي العربي التقدمي, وتناصر كل قضايا الحرية في كل مكان في العالم العربي وفي الخارج.

          وعلى مدار نصف قرن من عمرها (صدرت لأول مرة عام 1953 وهو العام الذي توقفت فيه مجلة (الرسالة) ومجلة (الثقافة) المصريتان عن الصدور) لعبت (الآداب) أدوارا أدبية وقومية بارزة شكلت نوعا من جسر بين الآداب الأجنبية ـ الفرنسية على الخصوص ـ وبين الأدب العربي. وقد جاء وقت كان للفكر الوجودي الفرنسي, وعلى رأسه جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار, نفوذه الواسع على صفحاتها, وقد تأثر سهيل إدريس بالمبادئ الأساسية لهذا الفكر, إبان إعداده لشهادة الدكتوراه في الآداب بجامعة السوربون بباريس, وفي ضوئه كتب بعض أعماله.

          ولا يخفي رئيس تحرير الآداب الحالي سماح إدريس, نجل سهيل إدريس وهو متخرج في جامعة كاليفورنيا بنيويورك, متاعب (الآداب) الاقتصادية ومتاعبها مع الرقابة والأسواق العربية المقفلة بوجهها, لسبب أو لآخر, ولكنه يرى أن (الآداب), رغم كل شيء, لا تزال أحد المنابر الأساسية للفكر العربي التقدمي. كما أنها تستقطب أقلاما شابة مليئة بالنضج السياسي والحماسة والإبداع, وإن كان الشعر ضعيفا نسبيا على صفحاتها.

          أما عن مستقبلها, فيقول سماح إدريس (إن الأعمار بيد الله. وفي خضم هذه الأزمة التي تضرب الوطن العربي في مختلف وجوهه, ليس سهلاً أن تواصل مجلة ثقافية تأدية رسالتها وتجديد ذاتها.

          فلا دعم يصلنا من أي جهة خارجية, رسمية أو حزبية. وقد انعكس هذا على صدورها ست مرات في السنة بدلا من اثنتي عشرة مرة. ولكني أتوقع أن يتحسن الوضع).

          ولا يوافق سماح إدريس على أن المجلة الثقافية يجب أن تكون دائما صدى لعصرها. فالمجلة منبر بالدرجة الأولى, لا مرآة. وعلى (الآداب) بالطبع أن تعيش شيئا من عصرها, ولكن عليها أن تتخطى عصرها في الوقت ذاته, هذا إذا حصرنا (العصر) بالزمن الحالي والزمن العربي. إن الثقافة هي في ما تقدمه من إرهاصات الواقع وتباشيرها بالغد, وإلا كفت عن أن تكون مجلة ثقافية.

          وحول السؤال عن الحاجة الموضوعية لوجود مجلة مثل (الآداب), يجيب رئيس تحريرها الحالي: (أليست هناك حاجة حقيقية إلى وجود تيار ثقافي يجمع إلى الثوابت القومية روح التجديد, ويكون في الوقت نفسه مستقلاً عن الفكر النظامي والمعلوم).

جهاد فاضل  
 

دمشق

ندوة الترجمة.. محاولة للمثاقفة والرقي الحضاري

          يبدو أن ما وصل إليه الحال العربي اليوم, من اتساع الفجوة الهائل بينه وبين الغرب المتقدم والتحكم بمصيره ونظرة الآخر القاصرة والمشوهة إلينا عبر التاريخ وحتى الوقت الحاضر, وتقصيرنا المعرفي والإعلامي في تصحيح هذه النظرة ومواجهة التضليل الإعلامي والدعائي الموجه ضدنا, جعل الجهات العربية المعنية تهتم بالوسائل الكفيلة والفاعلة في هذا الجانب ومن أهمها تفعيل دور الترجمة الذي توقف منذ قرون وتحويل الجهود الفردية للترجمة إلى جهود مؤسساتية تعمل وفق المنهج العلمي المنظم, ولعل المؤتمر الأول للترجمة في بيروت العام الماضي وما انبثق عنه من تأسيس اتحاد المترجمين العرب والاحتفال في الثلاثين من شهر يناير سنويا بيوم المترجم العربي, والتكريم الذي أقامته وزارة الثقافة وندوة الترجمة في سبيل المثاقفة والرقي الحضاري ما هي إلا محاولة لتضييق هذه الفجوة وتصحيح نظرة الآخر والتصدي للتضليل المعرفي والإعلامي والإنساني.

          في هذه المناسبة, كرمت وزيرة الثقافة حنان قصاب حسن رائدي الترجمة: انطوان مقدسي وحافظ الجمالي.

          وفي كلمة التكريم أكدت الوزيرة على مكانة اللغة العربية بين اللغات العالمية, وأن حركة الترجمة والتعريب بلغت أوجها في العصر العباسي, وساهمت في نهضة العرب, وأن انعقاد هذا الملتقى تذكير بأهمية الجهود المبذولة, ومبادرة للاهتمام بالترجمة والتعريب وتطوير آلياته والتأكيد على حقوق المترجمين وتشجيعهم.

          وتناولت الندوة التي أعقبت التكريم, دور الترجمة وأهميتها وفلسفتها وتجربتها, حيث تحدث د.قاسم مقداد من سوريا حول الترجمة كأداة للمثاقفة بين الشعوب, وبين الشعب ذاته, موضحا الفرق بين المترجم الناقل والذي يضخ الحياة في النصوص, وهذا ما تنبه إليه مترجمو النهضة العربية, ولا بد للمترجم من الإمساك بالثقافتين المنقول منها والمنقول إليها.

          فيما أشار د. نبيل اللو من سوريا في بحثه فلسفة الترجمة إلى أن المؤسسة الأكاديمية تدرس نظريات الترجمة وتقنياتها لكنها تترك هامش الفرادة فيها لشخصية المترجم وثقافته. لذلك نجد ترجمة نص لأكثر من مترجم يلبس لبوس صاحبه وشخصيته, ولا تزال الترجمة أكثر التخصصات اللسانية التطبيقية أهمية.

          وحول تجربة الترجمة أكد د.يوحنا اللاطي من لبنان أن المترجم هو الذي يحمل مفاتيح أقفال اللغات وهو من يرى ما وراء الحجب التي تكتنف اللغة, وهو الواسطة بين العقول, وعمود فقري في الرقي الحضاري. وتناول د.عبدالله الشناق من الأردن الترجمة ودورها في إثراء الفكر مشيرا إلى أن الثروة المعلوماتية زادت من أهمية الترجمة حتى أصبحت ضرورة لخلق توازن بين ثقافات الشعوب, مما يحتم على دول الشرق ومنها الدول العربية مضاعفة جهودها وتطوير وسائل نقل المعرفة لمواكبة ما يجري في الغرب. وأن العالم العربي لا يزال - مع الأسف - يعتمد إلى حد كبير على جهود فردية عشوائية بعيدة عن المأسسة, وتفتقر المكتبة العربية إلى الكتب المتخصصة في الترجمة وإلى الكتب العلمية والأدبية المترجمة من لغات أخرى إلى العربية وبالعكس خاصة أن روائع الآداب العالمية لم تعم الحضارة إلا عن طريق الترجمة, وأنه لا يوجد أمام الشعوب والحضارات من سبيل إلى التقارب والتعاون سوى الترجمة, ولم يأفل نجم الحضارة العربية الإسلامية إلا حين تضاءلت فيها قيمة العلم والترجمة مؤكدا على إنشاء دور للترجمة على مستوى العالم العربي لنقل كنوز العلم والمعرفة إلى اللغة العربية بدلا من الجهود الفردية.

          ولتفعيل حركة الترجمة في سوريا تعتزم وزارة الثقافة ترجمة قصص ومؤلفات وأبحاث تتناول الأدب الكلاسيكي وأدب الأطفال والتاريخ والفلسفة والفن بالتعاون مع مختصين في مجالات المعرفة والمتمكنين من اللغات الأجنبية والعربية. حيث تم تحديد برنامج عمل زمني لإغناء المكتبة العربية بالمؤلفات من اللغة التركية إلى العربية وكذلك الإسبانية ودعوة الكتاب والمفكرين المترجمة أعمالهم إلى دمشق لتبادل المعارف مع السوريين.

محمد العلي 

عمّان

مؤنس الرزاز .. الراحل الذي لا يغيب

          وفاءً لذكرى الأديب الراحل (مؤنس الرزاز) شهدت العاصمة الأردنية عمان حلقة بحث خاصة جسدت أبرز الأعمال الفنية والأدبية للروائي الراحل (مؤنس الرزاز), التي استهلت أعمالها بمعرض كتب يتضمن مؤلفات الراحل الأدبية, ومعرض تشكيلي لعدد من اللوحات التي أبدعها بريشته المعبّرة عن الهم الإنساني.

          لقد مثّل الرزاز بفكره السياسي الأقرب للعلمانية حالة فريدة من العقلانية والتنوير, إذ إن معظم أعماله الأدبية كانت تعكس مدى ألمه لحالة التخلف والتردي التي يعيشها العالم العربي, إنّ ما جاء في ورقة الناقد الأردني فخري صالح يعبّر عن الحالة الفكرية التي عاشها الرزاز, إذ قال صالح (إن رواية (اعترافات كاتم صوت) من الروايات (الرزازية) التي تعيد تركيب أطروحة الانهيار من خلال تحليل واقع المؤسسات الحزبية القومية التي تحولت إلى مؤسسة توليتارية مرعبة, تأكل أبناءها وتستبدل بالحزب القائد القائد الأوحد مؤدية إلى تبخر فكرة الثورة وعلاقتها بالجماهير التي ادعت أنها قامت من أجلها).

          هذا وكان عدد من المفكرين والمثقفين قد أدلوا بشهاداتهم عن الأديب الراحل الذي تميز بأسلوب كتابي متفرد يمزج بين الطاقة الأدبية الخلاقة والانشغال اليومي بهموم الناس, لقد امتلك الرزاز حاسة اجتماعية قوية على حد تعبير الدكتور تيسير أبو عرجة -وهو أكاديمي وأديب أردني- الذي قال (استطاع الرزاز عبر ثقافته الواسعة التي تدل على قراءات متشعبة في الأدب والتاريخ والسياسة, أن يربط بين هم الحاضر وأحداث الماضي, مما جعله على قدرٍ عالٍ من النبل الذي يجلب المعاناة النفسية لكل من يحمل على عاتقه هموم الأحداث والقضايا المصيرية للإنسان والوطن).

          لم يتميز مؤنس الرزاز في الفنون الأدبية والتشكيلية فقط, بل تجاوز ذلك ليصل إلى الإبداع الصحفي الذي كان ظاهراً من خلال تسلمه لمنصب رئيس التحرير في مجلة (أفكار) الثقافية وعبر مقاله اليومي في صحيفة (الدستور) الأردنية, وحول ذلك قال الدكتور نبيل الشريف - رئيس تحرير الصحيفة - (لقد كان مقال الرزاز اليومي تعبيراً عن هموم المظلومين والكادحين والفقراء والمحرومين من نعيم الحرية والديمقراطية فهو لم يكن معنياً بتقديم المعلومات السياسية الجديدة أو تقديم تحليل سياسي مباشر لمجريات الأحداث, كما تميزت مقالاته الصحفية بالسخرية المريرة التي تطبع الكثير من مقالاته وحيث الكوميديا السوداء التي تشير إلى انعدام الإنتاج وتفشي الكسل والملل في العالم العربي).

          لقد قامت رابطة الكتّاب الأردنيين بإحياء ذكرى الأديب الراحل بالتعاون مع عدد من المؤسسات الوطنية والثقافية لتخليد ذكرى الأديب الفنان الذي ساهم في وضع الرواية الأردنية على خريطة الكتابة الروائية العربية, و لا نبالغ إذا قلنا إن أعمال الرزاز بدأت تحتل وجوداً في الساحة العالمية إذ ستتم ترجمة رواية (أحياء في البحر الميت) إلى اللغة البوسنية, كما أن الباحث الألماني يواخيم باول كان قد قدّم عرضا نقديا تحت عنوان (تدميرية بشرية وعنف سياسي) بحث خلالها الأسلوب الفني في راوية الرزاز (اعترافات كاتم صوت).

في ذكراه المئوية.. ندوة تبحث فكر الكواكبي وحياته

          بمشاركة ما يزيد على خمسة عشر مفكراً عربياً, شهدت العاصمة الأردنية عمان ندوة بعنوان (حركة الإصلاح في العصر الحديث: عبد الرحمن الكواكبي نموذجاً), وكان المعهد العالمي للفكر الإسلامي ووزارة الثقافة الأردنية والمنظمة الإسلامية للثقافة والعلوم (الإيسيسكو) وكذلك المنظمة العربية للعلوم والثقافة (الألسكو) وبالتعاون مع مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية ساهموا جميعاً في تنظيم هذه الندوة وفاءً للذكرى المئوية لرحيل المفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي.

          وكان سعد زغلول الكواكبي (حفيد عبد الرحمن الكواكبي) قد قدّم جوانب من السيرة الذاتية لجده الراحل, أشار فيها إلى بداية عمله صحفياً في جريدة (الفرات) ثم عمله في غرفة التجارة, وتوليه لمناصب عديدة منها رئاسة بلدية حلب, كل هذه المواقع الوظيفية جعلته على اتصالٍ دائم بالناس والسلطة, الأمر الذي ترك أثراً في فكره القائم على نقد المتسلطين والمستبدين.

          وقدّم الدكتور عبد العزيز التويجري رؤية (الإيسيسكو) إلى إصلاح الأمّة في العصر الحديث, حيث إن هدف أي حركة إصلاحية هو تصحيح العقيدة وفتح باب الاجتهاد والنهوض بالأمّة, ومن هذا المنطلق كان الكواكبي رائد الإصلاح الحديث, فهو من أوائل المتحدثين عن ثلاثة مستوياتٍ إصلاحية هي (الإصلاح السياسي والإصلاح الديني والإصلاح الاجتماعي).

          يتميز الكواكبي باهتمامه بمشكلة الاستبداد السياسي واعتبار الاستبداد أصل الداء وعلة العلل, وكان الأستاذ زكي الميلاد, رئيس تحرير مجلة الكلمة السعودية قد أشار في هذا المجال إلى قول الكواكبي (إن من يقول إن أصل التهاون في الدين, لا يلبث أن يقف حائراً عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس في الدين? والقائل إن الداء اختلاف الآراء يقف مبهوتاً عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال سببه الجهل, يَشْكُل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشّد, وهكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا بداية لها). ومن هنا اعتبر زكي الميلاد أن الرؤية السابقة التي قدمها الكواكبي في التحليل هي من أنضج الرؤى التي أنتجها الفكر الإسلامي الحديث.

          إن الكواكبي يمثل حالة وسطية بين الأفغاني ومحمد عبده, وكان السيد (ميلاد) قد أشار إلى هذه الميزة في فكر الكواكبي, ففي حين أن الأفغاني ينظر إلى العوامل الخارجية بعينٍ ثائرة, يأتي الكواكبي متأملاً للعوامل الداخلية على اعتبار أن الاستبداد ظاهرة سببها يعود إلى استبدادنا الداخلي الذي نمارسه على عائلاتنا ورعيتنا, ومن هنا يرى الكواكبي أن الاستبداد لا يقاوم بالقوة أو الشدة, إن كتاب (الاستبداد) يمثل حالة قرب الكواكبي من المزاج النفسي والعقلي عند الأفغاني, وفي كتاب (أم القرى) يكاد الكواكبي أن يقترب من الشيخ محمد عبده.

          وعلى الرغم من حديث الكواكبي عن الأثر السيئ الذي تركه الاستبداد على الدين, (إذ يعمل الاستبداد على تحويل الدين من عقيدة سماوية تدعو إلى خير الإنسان, إلى أيديولوجية يتخذها المستبدون لتبرير تصرفاتهم), فإن الكواكبي لم يحارب الإسلام وكان يرد بعقلانيته على من يصف الإسلام بالاستبدادية, وبهذا يقول الكواكبي إنه لا ولاية لأحد في الإسلام, وإنما الخضوع لله وحده ومعنى ذلك أن المشكلة لا تكمن في الدين نفسه بل فيما دخل إليه من تصورات وبدع جعلته بعيداً كل البعد عن حقيقته.

          وفي هذا المجال أكد الدكتور محمد الطحان, المدير الإداري في جمعية العاديات في سوريا, على إدراك الكواكبي المبكر لماهية الاستبداد الديني الذي لم ينشأ إلا لغرض سياسي, فالسياسي استغل الدين لينفذ مآربه وذلك لعلمه بمدى احترام الناس للمعطيات الدينية, بمعنى أن هذا (استلاب فكري -نفسي) لا علاقة له بالدين إلا من خلال استخدام المفاهيم الدينية للحصول على رضا الناس وخداع عقولهم.

          طرح المفكرون في الندوة مفهوم (الإسلامية) الذي اعتبره الكواكبي بديلاً عاماً عن (الاستبدادية), والإسلامية عند الكواكبي ليست ما يدين به المسلمون, ولكنها المنهج المشتق من الإسلام الصحيح المنبثق عن القرآن الكريم والسُنّة الصحيحة, ومن أهم قواعد الدين كما يرى الكواكبي (الاختيار) فالإنسان مُخَيّر في شئونه الدنيوية يتصرف بها كيف يشاء على أن يراعي الحكمة والفضيلة وعدم الإضرار بالنفس, والاعتدال في الأمور.

          لقد كشفت الندوة عن حقيقة فكر الكواكبي, الذي حاول الكثيرون في هذا العصر تصنيفه لحساب هذا التيار أو ذاك, فالقوميون يحسبونه رائداً للفكر القومي العربي, واليساريون يعدّونه رائداً للفكر الاشتراكي, وكذلك الليبراليون والعلمانيون, ولكن الحقيقة كما تحدث عنها الأستاذ (محمد عبدالجبار) الباحث العراقي المقيم في بريطانيا, أن تصنيف فكر أي مثقف أو أديب لابد أن يتم عبر معيارين, أولهما المرجعية الفكرية والمحتوى المعرفي وثانيهما الهدف الذي يسعى إليه المفكر, ومن ذلك يتضح أن الكواكبي انطلق في كتاباته من مرجعية إسلامية, فقد صاغ أفكاره من فهم عميق للقرآن الكريم والسُنّة بعيداً عن التطرف والبدع التي أُلصقت بالإسلام. وفي الإطار نفسه تحدث الدكتور بسام البطوش من جامعة الزرقاء الأهلية عن مشكلة الفكر العربي الحديث, الذي يحاول كل تيار فيه أن يسطو على المشروع الفكري للكواكبي وينسبه إليه, ومن هنا اقترح الدكتور البطوش أن تتم عملية إعادة قراءة للفكر العربي الحديث بهدف تحريره من عمليات (السطو) الإيديولوجي والتصنيف الرغائبي والقراءات المجتزئة.

          وقد أجمع المشاركون على أن الكواكبي طرح بدائل عن الاستبداد ولم يكتفِ بنقد التسلط والمستبدين, وهذه البدائل هي المساواة والحرية والعدالة والشورى الدستورية, والتوصل إلى هذه البدائل الإيجابية لا يتم إلا إذا استشعرت الأمة كلها أو أكثرها ألم الاستبداد, كما أن الاستبداد لا يمكن مقاومته بالشدة بل بترقي الأمة في الإدراك والتعليم.

توفيق أبو بكر

باريس

خلال رحلة استمرت نصف قرن مليار من (كتاب الجيب)

          من خلال معرض (كتاب الجيب) في مركز جورج بومبيدو للفن الحديث في باريس, تستعيد فرنسا خمسين سنة من عمر ذاك الكتاب الذي جسّد ثورة ثقافية في العلاقات الاجتماعية والإنسانية. وتحول إلى جزء من القيم الفرنسية. ولم يأت اختيار مركز بومبيدو من باب المصادفة لإقامة هذه الاحتفالية الثقافية, فولادة (كتاب الجيب) الحديثة في شهر فبراير من سنة 1953, تتوافق والقيم الفنية والثقافية التي يجسّدها مركز بومبيدو, ويعبّر عنها في الشكل الهندسي والمحتوى الفني.

          طموح معرض (كتاب الجيب) هو أن يعيد إلى واجهة الحدث الثقافي والأدبي والفني, ما حققه ذلك الكتاب من تطور في العلاقات الاجتماعية والإنسانية والتجارية في النصف الثاني من القرن العشرين على المستوى الفرنسي. فقد تمكن ذلك الكتاب ذو الحجم الصغير, من تحقيق مواءمة عضوية تصاعدية وتزامنية, بين تطوير القراءة وتنمية النزعة الثقافية, وبين وضع استراتيجية تجارية معاصرة, لم تتخلّ عن قيمها المعنوية والروحية, وبهذا المعنى ولد الهدف الثقافي والاستراتيجية التجارية من رحم واحدة, هي رحم المجتمع الفرنسي الذي يحتلّ الكتابُ فيه مكانة مثالية, من قبل ولادة (كتاب الجيب) على يد هنري فيليبتشي, وعن دار (هاشيت) الفرنسية التي هي إلى جانب (دار سوي) و(فلاماريون) و(غاليمار) و(ألبان ميشيل) من أبرز دور النشر العالمية.

          خلال الخمسين المنصرمة, أي من سنة 1953 حتى سنة 2003, هدف (كتاب الجيب) إلى توسيع مساحة القراءة, وتعميق العلاقة بين القارئ والكتاب بالمعنى الثقافي, وبين السلعة والمستهلك بالمعنى التجاري, وتمكن الكتاب, لما تمكنت دار (شيت) نفسها من إرساء هذه العلاقة وتوطيدها, عبر عناوين الكتب التي اختارت نشرها, وعبر نوعية الكتاب والورق والطباعة من الناحية الجمالية والتجارية في آن.

          وما جعل تجربة (هاشيت) دار النشر الفرنسية تحقق نجاحها الثقافي والتجاري, هو اختيارها استراتيجية التنوع في النشر مثل: كتاب الجيب التطبيقي, كتاب الجيب التاريخي, كتاب الجيب الكلاسيكي, كتاب الجيب البوليسي, كتاب الجيب الموسوعي, إلى ما هنالك من فضاءات ثقافية وفكرية ومعرفية, وعلى هذا الأساس كان النمو التجاري مدهشاً ومذهلاً في حقبة الستينيات, إلى أن تحول (كتاب الجيب) في فرنسا إلى رمز ثقافي وشعبي.

          هذه الموجة الثقافية الموسوعية التي جسّدها (كتاب الجيب) إلى تزامنها مع موجة سياسية رسمية نزعت إلى تنمية القراءة والمعرفة من خلال إنشاء المكتبات الرسمية في المدن الفرنسية المختلفة, جعلت من مبادرة (كتاب الجيب) مبادرة أسطورية, ترافقت أيضاً مع بعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي جعلت من التحريض على القراءة هدفاً رئيسياً.

          وفي حقبة السبعينيات حصل التحول الكبير عندما بادرت دار (غاليمار) إلى نشر سلسلة كتب (فوليو), ثم دار (فلاماريون) في سلسلة (اقرأ) إلى جانب دور نشر أخرى خاضت التجربة نفسها أي تجربة (كتاب الجيب) ومنذ حوالي خمس عشرة سنة و(كتاب الجيب) يمثل نسبة هائلة من أرقام المبيعات.

          إذ بلغ حجم المبيعات خلال خمسين سنة مليار كتاب.. وهو رقم يكاد يكون خيالياً في زمن الأجهزة الإعلامية المسموعة والمرئية. وتكفي الإشارة إلى كتاب رواية (الغريب) للكاتب الفرنسي الراحل ألبير كامو الحائز على (نوبل) للآداب, الذي طبع منه حوالي ستة ملايين نسخة في حجم (كتاب الجيب) أو رواية (الطاعون) لكامو أيضا, الذي طبع منها أربعة ملايين نسخة, ثم كتاب (الطبخ أو المطبخ) في ثلاثة ملايين نسخة, لإدراك مدى نجاح هذه التجربة الثقافية والتجارية.

          خمسون سنة على (كتاب الجيب), ومليار كتاب في النصف الأخير من القرن العشرين, تجربة رائدة تحتفل بها فرنسا في مركز بومبيدو للفن الحديث.. ويصاحب هذا الاحتفال الثقافي شهادات لكبار الكتّاب والمفكرين, مجموعة في كتيّب يحتفظ زائر المعرض به كي يبقى الكتاب والثقافة ملح الذاكرة وماءها في المستقبل المستمر.

فوزي الشلق

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الشيخة هيا آل خليفة تحاضر في الموسم





الأديب الراحل يحيى حقي





من صفحات المخطوط





الغلاف الجديد للمخطوط





أحد أعداد مجلة الآداب





د.حنان قصاب حسن ود.قاسم مقداد يشاركان في الندوة





الروائي الراحل مؤنس الرزاز





عبدالرحمن الكواكبي.. الصحفي والمفكر