إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

أيامنا التي احترقت

          حكى الفنان محمد صبحي عن أول عرض قام بإخراجه, وتمثيل دور البطولة فيه, وكان رائعة شكسبير (هاملت).

          يقول صبحي إن الصالة كانت ممتلئة رغم أن المسرحية كانت باللغة العربية الفصحى, وكان الجميع يستمع بهدوء شديد للممثلين, أما هو فقد حاول - كمخرج - أن يضع كل ما تعلمه من فن مسرحي في هذا العرض, وجاء مشهد اجتهد هو في إخراجه بأن جعل هاملت ينام أقصى يمين المسرح ليقول (منولوجا) يتحدث فيه مع نفسه, ثم تطفأ الأنوار تماماً فينتقل إلى أقصى يسار المسرح لينام - أيضا - على خشبة المسرح ثم تضاء الأنوار وليكمل المنولوج, ثم تطفأ الأنوار مرة أخرى لينقل إلى يمين المسرح نائماً ومكملاً ما بدأه... وهكذا... وهنا انطلق صوت من وسط القاعة لأحد المشاهدين يقول له (ما تنام في حتة واحدة... فلقتنا)!!

          وكانت هذه هي البداية, انفجرت القاعة ضاحكة, وتلاحقت التعليقات الساخرة على ما كان يفعل, وأصبح من المستحيل استمرار العرض.

          ليس مهماً كيف تصرف صبحي في الموقف, ولكن ما يهمنا أنه كان درساً له, كان كفيلاً بأن يجعله يتوقف عن التمثيل والإخراج.. لو لم يفهمه..

          ذكرتني هذه الحكاية بصديقي - المثقف! -  الذي جلس لأحد أصدقائه محاولاً إفهامه - أو لنقل تجنيده - أهمية الثورة, وعورات رأس المال, وكيف أن البرجوازية تستغله وتعطيه أجر الكفاف نتيجة عمله, لتحصل هي على فائض القيمة, وأن الإمبريالية العالمية تسير في طريق (الكمبرادورية).

          يقول صديقي: (كان يستمع لي مصغياً بانتباه, وأنا معجب بنفسي وبما أقول... حتى فاجأني بقوله: (يا بيه...), حملقت فيه واتسعت عيناي... لماذا يقول لي (يا بيه), وأنا أفترض أننا صديقان, شعرت حينها بأنه يعريني, وأن البنطال (الجينز) الممزق - الذي كنت أرتديه - والقميص غير المكوي لم ينطليا عليه.

          يقول صديقي إن صديقه أكمل بعد هذه المفاجأة قائلا: (أنا لم أفهم أي شيء مما تقوله... وحقيقة ليس هذا ما أريد فهمه, بل أريد أن أعرف شيئاً مازال يحيرني... لقد كنت أعمل في مصنع للكبريت - يقصد أعواد الثقاب - يملكه خواجة جريكي - يقصد يوناني - وكنا ننتج كبريتاً جيداً... عندما جاءت الثورة أُمّمَ المصنع, وعاد الخواجة لبلاده, واستمررنا في إنتاج الكبريت, ولكنه أصبح لا يشتعل, وكلما حاولنا مع عود كبريت آخر كان ينفجر في وجوهنا ولا يشتعل... هل تستطيع أن تفسر لي لماذا لم يعد الكبريت يشتعل, وأصبح ينفجر في وجوهنا?!).

          يقول صديقي (حرت بماذا أجيبه, ولكن الرسالة وصلتني...).

          رحم الله صديقي, وصديقه, وتلك الأيام التي ما كدنا - فيها - نعرف كيف نصنع عود ثقاب يشتعل ولا ينفجر في وجوهنا, حتى احترقت هي وأكلتها النيران...

 

طارق حسني