استكشاف تيتان

استكشاف تيتان

مركبة فضائية بدأت رحلتها منذ عدة سنوات, لتصل إلى غايتها بعد سنوات أخرى, تسير بقوة جاذبية الكواكب, وتعبر حرارة كالجحيم ثم برودة أشد من الصقيع... رحلة غريبة نحو قمر غامض, وهدف أكثر غموضا!

مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين, انطلقت للمرة الأولى مركبة مخصصة لزيارة كوكب زحل وتوابعه, وحملت معها سابراً سيهبط للمرة الأولى على أحد أقمار زحل, وهو تيتان الذي ينتظر العلماء منه الكثير. إنها خطوة جبّارة تشير بوضوح إلى الإمكانات الهائلة التي بلغتها المعرفة العلمية النظرية والتقنية على حد سواء, كذلك فهي تخبرنا منذ اليوم أن القرن الحالي سيكون قرن الانطلاق إلى رحاب المجموعة الشمسية.

فبعد رحلة تستمر سبع سنوات, سيغوص سابر من الوكالة الفضائية الأوربية في الغلاف الجوي لتيتان, إن ضباباَ بنياً برتقالياً يحجب عنا سطح هذا القمر التابع لزحل والذي كان قد اكتشفه كريستيان هيغنز. وقد سُمي سابر وكالة الفضاء الأوربية (ESA) باسم هيغنز تخليداً لهذا الفلكي. وسيغوص هذا السابر وهو معلق في مظلة في الضباب, ليكشف لنا عن جو تيتان, هذا القمر الذي يُعدّ الجسم الأغرب في المجموعة الشمسية, ذلك أنه من المرجح أن نكتشف عليه محيطاً سائلاً, إذ إن مصدراً غير معروف يغذي جوه ببخار الميثان.

وسيقوم السابر هيغنز بالرحلة محمولاً على مركبة فضائية أمريكية يجب أن تبقى في مدار حول زحل. وقد سُميت هذه البعثة المشتركة بين وكالة الفضاء الأوربية ووكالة الفضاء الأمريكية (ESA/NASA) باسم كاسيني. وستوجه المركبة المدارية كاسيني السابر هيغنز إلى تيتان قبل أن تفلته ليدخل جو تيتان بينما تتابع هي دورانها حول منظومة الكوكب ذي الحلقات زحل فتقوم بتصويره وإجراء الكثير من الأبحاث حوله.

رحلة 8 سنوات

كان العالمان الفرنسي جان دومينيك كاسيني (المولود في إيطاليا) والهولندي كريستيان هيغنز قد عملا - كل على حدة - على رصد كوكب زحل خلال أعمالهما في العاصمة الفرنسية. وقد اكتشف هيغنز القمر تيتان في عام 1655. وفي عام 1659 أعطى وصفاً دقيقاً لمنظومة الحلقات التي تحيط بالكوكب العملاق زحل. وبعد ذلك حدد كاسيني أربعة أقمار أخرى أصغر حجماً. وفي عام 1675 اكتشف داخل منظومة الحلقات الانقسام الدقيق الذي يحمل اليوم اسمه. وأكد بعد وقت وبشكل صحيح أن الحلقات كانت مشكلة من مجموعات هائلة متنوعة من الأجسام الصغيرة التي كانت تتجاذب وتدور على مسارات متقاربة.

إن بعثة كاسيني/ هيغنز هي نموذج للتعاون بين وكالتي الفضاء الأمريكية والأوربية. فقد قدمت إيطاليا بالنسبة لنموذج المركبة المدارية تجهيزات الاتصال. كذلك صمَّم فريق أوربي السابر هيغنز. ويتطلب التشغيل الجيد بين السابر والمركبة المدارية تعاوناً وثيقاً بين الباحثين عبر طرفي الأطلسي. ويقود الباحثون الأوربيون تجربتين من التجارب التي ستتم على المركبة المدارية, ويشاركون في كل التجارب الأخرى, وقدم الأمريكيون مجموعتين من أدوات السابر هيغنز وشاركوا في إنجاز المجموعات الثلاث الأخرى.

وللوصول إلى كوكب زحل البعيد, يجب على المركبة المزودجة كاسيني/هيغنز أن تكتسب سرعة إضافية بفضل التسارع الجاذبي الذي ستكسبها إياه الكواكب التي ستحلق المركبة حولها لهذا الغرض. وتسمى هذه التقنية الإسعاف الجاذبي, وهكذا ستتبع المركبة كاسيني / هيغنز مساراً محروقاً سيقودها إلى جوار الزهرة مرتين, ثم إلى جوار الأرض وأخيراً إلى قرب المشتري, أكبر الكواكب الشمسية, الذي سوف يعطيها دفعاً أخيراً.

لقد انطلقت رحلة المركبة كاسيني/هيغنز في 6 أكتوبر من عام 1977. وقد وصلت إلى كوكب الزهرة في 21 أبريل من عام 1998. والتفت حوله مرة جديدة في 20 يونيو عام 1999 وبلغت المشتري في 30 ديسمبر من عام 2000. ومنه ستأخذ الدفعة الأخيرة لتنطلق باتجاه زحل فتصل إليه في 25 يونيو من عام 2004.

وعند دخول المركبة في منظومة زحل, سينفصل السابر هيغنز عن كاسيني على ارتفاع 270 كلم فوق سطح تيتان, وتكون سرعته 18ألف كلم/س. وعلى ارتفاع 180 كلم تنفتح مظلة موجّهة في حين تكون سرعة السابر 1400 كلم/س. وعلى ارتفاع 165 كلم تبدأ المرحلة الحاسمة من نزول هيغنز باتجاه تيتان فتنفتح المظلة الرئيسية ويتم التخلص من درع السابر للتخفيف من وزنه, وتكون سرعة السابر 290 كلم/س. وعلى ارتفاع 125 كلم تكون السرعة قد ازدادت إلى 360 كلم/س. وعندها يبدأ الساير في الدخول في ضبابة الهيدروكربورات التي تزداد كثافة, وعلى ارتفاع 40 كلم تكون السرعة قد هبطت إلى 46 كلم/س, وتكون درجة حرارة الغلاف الجوي في أدناها إذ تبلغ 200 درجة تحت الصفر المئوي. وسرعان ما يصادف السابر بعدها السحب على تيتان ليتخطاها ويصل إلى السطح المفترض له في نوفمبر من عام 2004, بسرعة 20 كلم في الساعة حيث تكون درجة حرارة السطح 180 تحت الصفر المئوي.

ستوضع المركبة الفضائية كاسيني/هيغنز على مدار منحرف المركز جداً حول زحل, وبعد ثلاثة أشهر, ستوضع على مدار تتلاقى فيه مع تيتان, وبعد شهرين إضافيين ستتوجه المركبة المدارية هيغنز باتجاه هدفها, وبعد أن تصحح المركبة المدارية مسارها, ستمر بعيدة عن تيتان لكنها ستستطيع تلقي الإشارات التي سيرسلها السابر بعد ثلاثة أسابيع بعد أن يكون قد وصل إلى الغلاف الجوي لتيتان. وسيدور سابر وكالة الفضاء الأوربية, المغلق بدرعه الحراري, حول نفسه بسرعة 7 دورات/دقيقة لكي يحفظ توازنه عندما يقترب من هدفه, وستوقظ إشارات السابر هيغنز قبل أن يصل إلى أطراف الغلاف الجوي لتيتان. وسيدخل هيغنز في الغلاف الجوي لتـيتان بسرعة 20 ألف كلم/س, وسيحمي ترس السابر من الحرارة الكثيفة الناتجة عن موجة الصدم, حيث يمكن لدرجة الحرارة أن تصل إلى 12 ألف درجة.

وبعد المرور بهذا الأتون يصل إلى غلاف جوي صقيعي. وسيتعرض فيه السابر هيغنز لدرجات حرارة تنخفض إلى 200 درجة مئوية تحت الصفر. وستقوم أجهزة السابر خلال هذا النزول عبر الغلاف الجوي بدراسة المناخ على تيتان وسبر غيومه وتحاول اكتشاف عواصف محتملة عليه. وسيحدد هيغنز نسب مركّبات الغلاف الجوي لتيتان: الآزوت والهيدروكربورات, وسيدرس غلياناً غامضاً من مركبات فحمية وآزوتية. وستقوم تجهيزات تصوير ومقياس راداري للارتفاعات بالكشف عن سطح تيتان عندما يقترب منه السابر هيغنز.

ولكن هل سيكون هناك صدم أم غطس للسابر في القمر? هنا تكمن المسألة الرئيسية غير اليقينية لهذه المغامرة في المجهول. وستقوم عندها أجهزة خاصة بتحليل سطح تيتان حتى نفاد بطاريات السابر. عندما مر السابر فواياجير 1 قرب تيتان, في عام 1980, كان الضباب والسحب يغطيان السطح, والباحثون لا يعرفون بالتالي ما إذا كان أكبر أقمار زحل يملك سطحاً صلباً أم إذا كان مغطى بمحيط سائل.

أصول الحياة... في زحل!

إن الأرض وتيتان بين كواكب وأقمار المجموعة الشمسية هما الوحيدان اللذان يملكان جواً غنياً بالآزنت (N2). فالزهرة والمريخ, وهما الأخوان القريبان من الأرض, يملكان جواً غنياً بغاز الفحم (CO2) في حين يشبه المشتري وزحل الشمس بتركيز الهيدروجين والهليوم العالي فيهما. ومن الممكن أن هيدروكربورات مثل الميتان (CH4), وهو الموجود حالياً على تيتان, كانت في البداية موجودة بغزارة على الأرض, وبعد نحو مائة عام من التأملات والتجارب لايزال الباحثون غير متفقين حول الطريقة التي ظهرت بها الحياة على الأرض. ويفترض معظم الباحثين أن البكتريا تشكلت من تراكبات تمت بين مركبات فحمية معقدة كانت تسبح في الحساء البدئي, ولكن ما يعيق كل الدراسات حول بدايات الحياة هو جهلنا الدقيق بالعناصر الكيميائية التي كانت موجودة على أرضنا الفتية. ومن هنا أهمية تيتان لأنه يحفظ على شكل متجلد عدداً من المركبات الكيميائية التي سبقت الحياة على الأرض, وهكذا فإن نتائج بعثة هيغنز إلى تيتان ستعطي انطلاقة جديدة للأعمال المتعلقة بأصول الحياة على الأرض.

وللتأكد من أن السابر هيغنز سيستطيع القيام بمهمته الاستثنائية, تم القيام باختبار على نطاق واسع في عام 1995 انطلاقاً من قاعدة الإسترانج Estrange, في شمال السويد في القطب الشمالي, وأظهرت الصور إطلاق منطاد من على ارتفاع 200 متر, وكان يحمل نموذجاً بالحجم الحقيقي لهيغنز في سلة خاصة. وقد ارتفع المنطاد إلى ارتفاع 37.5 كلم. وتم إسقاط نموذج السابر هيغنز بحيث اكتسب سرعة كبيرة, وعندها جرت في سلسلة معقدة عملية قذف الدرعين الخلفي والأمامي ونشر سلسلة من المظلات. وقد أثبتت الكاميرات والأجهزة الأخرى المحملة عليه أنها كانت كلها تعمل بشكل ممتاز.

إن إيصال هيغنز حتى تيتان ليس سوى فاتحة لدراسة زحل, وحقله المغناطيسي وحلقاته وأقماره. إن المركبة المدارية لبعثة كاسيني والمزودة بأجهزة علمية كثيرة ستقوم بحركات معقدة حول الكوكب العملاق, وهي ستحلق حول تيتان أكثر من 30 مرة. وتعطينا صورة أوسع عن هذا القمر, وذلك بالاشتراك مع التحليل التفصيلي الذي سيقوم به السابر هيغنز على طول مساره وفي النقطة التي سينزل فيها على سطح تيتان, وفي حلقات زحل سيرصد السابر المداري القطع الصخرية التي تشكل هذه الأحزمة, وبفضل هذه الأرصاد يأمل العلماء أن يفهموا بشكل أفضل كيف تشكّلت الكواكب ابتداء من حلقات مماثلة كانت تحيط بالشمس بعد تشكلها بقليل.

***

تأسست الوكالة الفضائية الأوربية في عام 1975, عندما حلت محل التنظيمات التي كانت موجودة حتى ذلك الحين في مجال قواعد الإطلاق والبحث الفضائي. وهي تضم حالياً أربعة عشر عضواً هي الدول التالية: ألمانيا والنمسا وبلجيكا والدنمارك وإسبانيا وفنلندا وفرنسا وإيرلندا وإيطاليا والنرويج وهولندا وبريطانيا والسويد وسويسرا, هذا إضافة إلى كندا التي تعد عضوا مشاركاً. وقد أنجزت وكالة الفضاء الأوربية العديد من المشاريع وساهمت في مشاريع أخرى كثيرة, وكانت أولى خطواتها في الفضاء البعيد من خلال بعثة جيوتو Giotto الذي كان هدفه المذنب الشهير هالي (عام 1985). كذلك كانت قد أرسلت السابرين أوليس Ulysse (1900) وسوهو SOHO (عام 1995) من أجل دراسة الشمس, لكن هيغنز هو أبعد سوابرها انطلاقاً في الفضاء, كما أنه سيكون أبعد السوابر التي أطلقها الإنسان وحطت في أحد الكواكب أو الأقمار.

 

موسى ديب خوري







 





المركبة المدارية كاسيني والسابر هيغنز وزحل ومجموعة أقماره





جان دومينيك كاسيني 1625 ــ 1715





كريستيان هيغنز 1629 ــ 1695





تجربة على نموذج مماثل للسابر هيغنز تم إسقاطه من على ارتفاع 37,5 كلم