هل انتحر خليل حاوي أم قُتل? أسئلة حول ذات ممتلئة بالموت

هل انتحر خليل حاوي أم قُتل? أسئلة حول ذات ممتلئة بالموت

رغم مرور عشرين عاما على انتحار الشاعر الكبير خليل حاوي في السادس من يونيو عام 1982 إثر الغزو الإسرائيلي للبنان, فإن هذا الانتحار مازال إلى اليوم موضع تفسيرات مختلفة يتعرض هذا المقال لبعض منها.

لقد شاع التفسير الأشهر إثر حادثة الانتحار, وهو أن الشاعر إنما أقدم على وضع حد لحياته احتجاجاً على الغزو الإسرائيلي للبنان وشعوراً منه بالعار الشخصي والوطني بسببه. والواقع أن هذا التفسير لا يحيط إحاطة كاملة بأسباب هذا الفعل وظروفه وملابساته. فالغزو الخارجي كثيراً ما يدفع بالمثقفين وغير المثقفين للتصدي له ومواجهته. وقد دفع قسم كبير من اللبنانيين حياتهم وهم يواجهون هذا الغزو, سواء في الجنوب, حيث بدأ, أو في بيروت حيث بلغ قمته. وخليل حاوي بالذات كان يتصف بالجسارة والشراسة والعنف, كما يقول عنه شقيقه إيليا حاوي في كتابه المطول عنه (مع خليل حاوي في مسيرة حياته وشعره), كما أن في شعره دعوة حارة لمقاومة الانهزامية في الروح والواقع, فلا يُعقل أن تكون ردة فعله على هذا الغزو إطلاق النار على جسده درءاً للعار الشخصي والوطني, في حين أنه كان يمكنه أن يدرأ هذا العار بوسائل أخرى كثيرة منها المواجهة, فهناك مثقفون لبنانيون وعرب شاركوا يومها في مقاومة المحتل, ومن لم يقاوم بالبندقية, قاوم بالكلمة.

لكل ذلك يبدو التفسير الأول الذي أُعطي كسبب لانتحار الشاعر خليل حاوي, وبعد عشرين عاما من وقوعه, تفسيرا غير مقنع. بل إن هذا التفسير قد هُجر لاحقا ولم يعد أحد يعتمده. فخليل حاوي عُرف بحبه للحياة وإقباله عليها. وشهدت حياته صراعاً مريراً من أجل تحقيق الذات. فقد اضطر لترك المدرسة وهو صغير ليعمل إلى جانب والده في مهنة العمار. ثم عاد إلى الدراسة من جديد بعد أن تمكن من جمع بعض المال, وكان قد كبر, وقد ظلت الخيبات تلاحقه بعد ذلك على أكثر من صعيد, منها العائلي والعاطفي, ومنها الإبداعي كما يرى كثيرون.

ومن عرف خليل حاوي في سنواته الأخيرة التي سبقت انتحاره, لا يستبعد أن يقدم في يوم من الأيام على الانتحار. فشخصيته كانت دائما حادة, نزقة, سريعة الالتهاب. وكان يوسف الخال, رفيقه في الحزب السوري القومي الاجتماعي في البداية, وفي المرحلة الأولى من مجلة (شعر), لاحقاً, يصفه بأنه شخصية انتحارية, وبأنه يمكن أن يُقدم على الانتحار في أي وقت. وقد ذكر لي الخال مرة بأنه لم يفاجأ البتة عندما سمع بأن خليل حاوي قد انتحر, فمثل هذا الخبر كان متوقعاً بالنسبة إليه. وبصرف النظر عن رأي يوسف الخال الذي قد تكون بعض حيثياته مبنية على عتب أو على حقد على حاوي بسبب تركه حلقة مجلة (شعر) إلى العمل في إطار الفكر العربي, والعروبي على الخصوص, فإن خليل حاوي كان على الدوام شخصية قلقة, متوترة, مقيمة باستمرار في دائرة الأخطار والأهوال.

من الجروح التي ظلت تنزف في ذاته, على مدار سنوات حياته, جرح شقيقة له, تُدعى أوليفيا, توفيت وهي في نحو الخامسة من عمرها. كان خليل في الثامنة من عمره يومها, وكان مشغوفا بهذه الصغيرة, مفتونا بها أيما افتتان. يقطع اللعب مع أترابه, كما تقول والدته, ليعود مهرولاً إلى المنزل, ليتفقد أوليفيا ويدلّلها ويسمع كلماتها وأخبارها ثم يقفل عائداً للعب مع أترابه. وفي أحد الأيام تصاب أوليفيا بالحمّى الشديدة ويعجز الطبيب عن إنقاذها. كانت الأسرة تقيم في بلدة بوارج في البقاع وعندما علم الأب, بأن أوليفيا في وضع صعب, أرسل خليل إلى (الشوير) بلدته الأصلية وأودعه عند أقاربه. تموت أوليفيا لاحقا وتُدفن في (بوارج) وخليل لا يعرف شيئا عن الحادثة, بل إنه يمضي سنوات بعد ذلك يسأل عنها وأهله يقولون إنها عند أقاربهم في (بوارج): المناخ هناك أفضل, بعد أسبوع ترجع, بعد أسبوعين, أودعناها في مدرسة داخلية هناك لتتعلم.

وخليل يترقب عودة أوليفيا التي لا تعود. كان يقول: (قضيت العمر كله أترقب عودة أوليفيا). لم يذكر متى عرف بموتها. وكان قبيل سنوات قليلة من موته, يذكر أوليفيا بحسرة ويقول: (غريب أمر هذه الطفلة, مازلت لليوم أترقب عودتها وهي لا تأتي)!

خاب سعي العشاق

وقد ترقب لاحقاً, ولكن عبثاً أيضاً, حضور الحبيبة في حياته. عقد خطبته مرتين على التوالي على فتاتين, وفي المرتين فشلت الخطبة. ومن بين النساء اللواتي ارتبط بهن, كانت هناك المرأة الرقيقة, الطيبة, الوديعة, كما كانت هناك المرأة الأخرى الكاذبة والغادرة التي أذاقته العذاب والمرارات على أنواعها. وظلت المرأة باستمرار جرحاً غائراً نازفاً في نفسه, فمات عازباً, كما مات وحيداً. ووحيداً قضى عمره مثل عمود من الوحشة والغربة. عمود كان يبدو منتصباً, ولكنه متآكل من الداخل ومهترئ بالخيبات والهزائم.

جروح أخرى كثيرة يمكن أن يعاينها الباحث المدقق في سيرته, منها على سبيل المثال, فجيعته بقضاياه الفكرية والقومية التي شغلته على مدار حياته. انتمى إلى الحزب السوري القومي ثم تركه إلى غير رجعة, وإن بقي الكثير من أثر هذا الحزب لاحقاً في نفسه, منها بعض أفكار مؤسسة أنطون سعادة.

وانتمى لاحقا إلى الفكر القومي العربي والحركة العروبية التي لم تجلب له لاحقاً اليقين الذي كان يحلم به, أو يتوق إليه.

وكثيرا ما كان في شهوره الأخيرة يفصح عن فجيعته بأكثر المثقفين اللبنانيين الذين تحولوا إلى طائفيين ومذهبيين وتركوه وحيدا مع أوهام العلمانية والمواطنية والمجتمع المدني.

أزمة الإبداع

وهناك من يضيف إلى أزماته الكثيرة التي استفحلت عشية وضعه حداً لحياته, أزمته مع الإبداع الشعري. كان خليل حاوي يُعلي كثيراً من شأن الشعر والشاعر. فالشاعر هو ضمير الأمة ووعيها المتوهج. وقد قدم خليل حاوي عبر مسيرته الأدبية عددا من الدواوين التي لفتت الانتباه إليه, مثل (نهر الرماد), و(الناي والريح), و(بيادر الجوع). ولكن أعماله الشعرية الأخيرة التي تمثلت في ديوانيه (الرعد الجريح), و(من جحيم الكوميديا) لم تكن في نظر الكثير من النقاد, بأهمية أعماله الشعرية الأولى. بل إن بعضهم وجد في هذه الأعمال الأخيرة بداية جفاف الشعر في وجدانه. فخليل حاوي لم يعد قادراً على التعامل مع القصيدة تعامل الخبير المقتدر. ويبدو أنه هو نفسه راوده مثل هذا الإحساس, فانكفأ على نفسه حزيناً غاضباً. وقد تحول في سنواته الأخيرة, إلى شخصية مريضة أو مرضية. كان يتناول أدوية مهدئة. وكانت أعراض الجنون بادية عليه في أوقات كثيرة. ولم تكن الأدوية المهدئة قادرة على لجم النفس الجامحة المضطربة. وقد ذكر لي د.نسيب همام, وهو طبيب أمراض داخلية, كما هو قريب الشاعر, أن خليل حاوي حاول الانتحار مرتين قبل انتحاره الأخير, وأنه عولج في إحدى هاتين المرتين في مستشفى الجامعة الأمريكية حيث قضى فيه أسبوعاً كاملا عقب تناوله جرعة من (الديمول), وهو سم يُستخدم في إبادة الحشرات الزراعية.

الاغتيال المزعوم

في مجالسه الخاصة, كان إيليا حاوي يشك أحياناً في انتحار خليل, ويقول إنه يقطع, أو يكاد يقطع بأن شقيقه قُتل أو صُفّي, لأسباب منها تجرؤه في نقد بعض الجهات السياسية النافذة التي حقدت عليه ولجأت إلى تصفيته وسط فوضى أمنية غرقت فيها العاصمة اللبنانية, وغرق فيها بالذات حيّ رأس بيروت والجامعة الأمريكية الذي كان يقيم الشاعر في إحدى عماراته. وكان إيليا حاوي يسمّي هذه الجهة السياسية التي يعتبرها مسئولة عن قتل شقيقه, وهناك آخرون يسمون جهة أخرى. ولكن كل ذلك لم يثبت, ويمكن اعتباره من قبيل الاتهام غير المؤيد بأي سند, أو غير المبني على معلومات صحيحة.

حول حادثة الانتحار, قال لي د.نسيب همام, إنه كان أول الواصلين إلى منزل خليل بعد بلوغه نبأ وفاته: (انتظرنا رجال الشرطة حتى وصلوا وخلعوا باب المنزل الذي كان موصداً. ولدى معاينتي خليل تبين لي بما لا يقبل الشك أنه انتحر ولم يُقتل).

وكما بات معروفا وثابتا, فإن خليل حاوي وضع حدا لحياته حوالي منتصف ليلة السادس من يونيو 1982 على شرفة منزله الواقع في شارع مدام كوري, على بعد ما لا يزيد على مائة متر من مدخل جامعة بيروت الأمريكية, في بناية قديمة كان يقيم في شقة صغيرة من شققها. تلك الليلة, كانت منطقة بيروت الغربية غارقة في فوضى شاملة, الإسرائيليون على أبواب العاصمة, والمسلحون اللبنانيون والفلسطينيون منتشرون في كل مكان, والرصاص يلعلع في الشوارع, والقتلى بالعشرات. ومن الطبيعي ألاّ يلفت نظر أو سمع أحد رصاصة تصدر من هنا أو من هناك, لأن الرصاص الكثيف كان يصدر من كل مكان. في مثل هذا الوضع تناول خليل حاوي بندقية صيد كانت بحوزته وسار بها إلى شرفة منزله التي تطل على شارع متفرع من شارع رئيسي يربط الجامعة الأمريكية بشارع الحمراء. صوّب الشاعر بندقية صيد إلى رأسه وشدّ على زنادها, ثم وقع على البندقية ذاتها وعلى (درابزين) الشرفة معاً, وبقي على هذه الصورة حتى صباح اليوم التالي دون أن يتنبه أحد من الجيران إليه, أو إلى إطلاق الرصاص ومن الذي أطلقه. في صباح اليوم التالي شاهده جيرانه, أسرعوا إلى الهاتف لإبلاغ مخفر الشرطة القريب, وكذلك لإبلاغ الطبيب نسيب همام قريبه وصديقه الذي يسكن في مبنى غير بعيد لأنهم كانوا يعرفون عمق الصلة بينهما.

على أن إيليا حاوي, وإن كان ردّد في مجالسه أحياناً أن شقيقه خليل قد قُتل ولم ينتحر, فقد أقرّ صراحة في الكتاب الذي كتبه عن شقيقه بعد رحيله بانتحار خليل, عندماذكر في خاتمة هذا الكتاب: (وفي الواقع آن خليلاً كان قد عرف أن رحلة عمره كانت فاشلة فيما هي كانت تُحسب متألقة وساطعة, وأنه نال فيها ما لا يُنال. وكان يُخيل إليه أن الرحلات الداخلية والتطهرية ورؤيا الانبعاث في شعره كانت كاذبة, وأنه تزيّى له وخوتل وامتهن به, فانطفأت بعينيه وفي نفسه أنوار العالم, وقرر أن يفتدي تلك الخطايا كلها وأن يحتج عليها الاحتجاج المدوي وفقا ليقينه. وإن هذا الأمر كان محتما عليه, وما كان أحد بقادر أن يزعجه عنه).

إيليا حاوي يفسر انتحار شقيقه وانتحار الأدباء والمثقفين بعامة, بأنه نوع من إثارة الوجدان العام لهول مقبل. يحمل هؤلاء في أعماقهم نوعا من الحسّ العميق والنافذ الذي لا تفسير له, وهم من خلال هذا الحسّ اليقيني والنهائي, يتوقعون الأشياء في قلب الغيب, ويعرفون أن خطوباً فادحة ومستحيلة مقبلة لا يقدر الكائن النظري والصوري والمؤمن بالإنسان والكينونة, أن يتقبلها وأن يتحمل هولها.

ذات مملوءة بالموت

لقد انتحر خليل حاوي إذعاناً لرغبة عميقة الغور في ذاته, ومع أن انتحاره حمل طابعاً احتجاجياً في ظاهره, وذلك بسبب حصوله في بدايات الغزو الإسرائيلي للبنان. كان شعره مملوءاً بالموت وكأنه كان يعايشه, أو يجده سبيلاً لا مفر من سلوكه, أو عودة إلى الرحم, أو حلاًّ لمسألة الحياة التي تضج بالموت. ويعكس شعره لهذه الجهة أزمته الذاتية, ويعبر أصدق تعبير عن شقائه وشعوره بالعبث وغربته وقلقه.

ومن يراجع ديوانه (نهر الرماد), وبخاصة قصيدته (البحار والدرويش) يجد سطوة الموت. تُختصر الحياة فتكون لوناً من ألوان البحث عن المعرفة التي لا تكتمل إلا بالموت. والموت يحتل الحركة والنغمة في إيقاع القصيدة:

خلّني للبحر, للريح, لموتٍ
ينشر الأكفان زرقاً للغريق
مبحر ماتت بعينيه منارات الطريق
مات ذاك الضوء في عينيه ماتْ
لا البطولات تنّجيه, ولا ذلّ الصلاة!

دخلت عليه قبل وفاته بأسابيع في مكتبه بالدائرة العربية في جامعة بيروت الأمريكية. وجدت لديه طالبة من طالباته تتحدث إليه في شأن من شئون دراستها في الجامعة. وبدلاً من أن يعالج أستاذها هذا الشأن برفق وتؤدة, كما يُفترض, جعل يصرخ في وجهها, ويؤنبها بعبارات غاية في القسوة والخروج على المألوف.

دخل زميله د.إحسان عباس الغرفة فجأة على صوت الصراخ ونظر إليّ نظرة ذات مغزى. ليقول لي بعد أن خرجنا معاً: (إن خليل قد انتهى منذ زمن بعيد).

على أن خليل حاوي كان قبل أن ينتهي شخصية ثقافية وشعرية لامعة ومتألقة في الحركة الأدبية اللبنانية والعربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وله شعر ذو طابع فلسفي أو تأملي, ونثر يتبدى في دراسات نقدية جيدة, منها دراسة عن جبران خليل جبران التي كانت موضوع أطروحته لنيل الدكتوراه من جامعة كمبردج. ولعل مأساته تكمن بوجه من الوجوه في مأساة الواقع العربي وعجز هذا الواقع عن تلبية طموح نخبه. كان خليل حاوي شاعر لحظة فريدة في تاريخنا المعاصر, هي لحظة صعود الأمل ثم سقوطه وانهياره بعد ذلك. شاعر زمن كان يتشقق ويتشظى ويموت. شاعر ذلك الزمن وأحلامه وانكساراته وهزائمه.

لذلك, يجدر الحديث عن عامل الصدق والشرف في سيرته. لقد كان يحمل أخلاقاً وسجايا عالية مألوفة في سكان الجبال الذين كان ينتمي إلى قرية من قراهم. وقد يكون لهذا الجانب الفروسي أيضاً أثره في لجوئه إلى بندقيته في تلك الليلة الحزينة التي لم يكن فيها قمر, والتي خلا ما قبلها من أي رجاء حقيقي.

 

جهاد فاضل






 





خليل حاوي في شبابه





خليل حاوي مع أسرته