التعليم للمستقبل أحمد أبوزيد

التعليم للمستقبل

التعليم من أهم الحقوق التي أقرتها المواثيق الدولية وهو يعاني في الحاضر, فكيف يكون عليه في المستقبل?

تشير بعض تقديرات اليونسكو (نشرة بقلم كولن باور بعنوان التعليم والمستقبل) إلى أن حوالي تسعمائة مليون نسمة من سكان العالم البالغين من كلا الجنسين لا يعرفون القراءة والكتابة, وأن أكثر من مائة مليون طفل في سن التعليم الابتدائي لم يلتحقوا بأي مدرسة على الإطلاق, وأن تعليم كل هذا العدد الضخم من البشر كفيل بأن يجعل منهم قوة مؤثرة في تنمية مجتمعاتهم وبالتالي تقدم العالم ككل. ومن هنا كانت مشكلة التعليم ونشره وتيسيره وتعميمه في مختلف مجتمعات العالم وشعوبه من أهم المشكلات التي تتصدى لها المنظمات والهيئات الدولية, وبخاصة اليونسكو من أجل القضاء على الأمية, خاصة أن حق التعليم هو أحد أهم الحقوق الإنسانية التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة منذ نشأتها. فثمة إذن التزام أخلاقي بأن يعمل المجتمع الدولي والحكومات المختلفة, ليس فقط على نشر التعليم بل وأيضا المثابرة المستمرة على تجديد النظم التعليمية وتطويرها حتى يمكن للأجيال المتتالية مواجهة التحديات المستقبلية التي سوف تفرضها عليهم التغيرات والتطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة التي تمثل ثورة هائلة في تاريخ الجنس البشري, وبالتالي وضع سياسات ونظم تعليمية قادرة على إعداد الأجيال الجديدة للتعامل مع الأوضاع المستجدة بكل متطلباتها ومقتضياتها المتغيرة. وقد تختلف الآراء حول الصورة النهائية التي سيكون عليها عالم الغد ولكن هناك اتفاقا عامًا بأنه سيكون مجتمع التغيرات السريعة المتلاحقة, التي سوف تشمل كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وأن المطلب الأساسي الذي سوف يبحث الناس عنه هو التسامح والسلام اللذان سوف يساعدان على القضاء على كل المظاهر والنزعات والاتجاهات الانفصالية, ويعملان في الوقت ذاته على تطويعها, بحيث تصبح مصدر إثراء ورخاء وأمن وطمأنينة وليس مصدر حروب وتدمير كما هو الشأن الآن, وأن التعليم هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف.

وثمة جهود كثيرة تبذل على المستويات المحلية والإقليمية والدولية للقضاء على الأمية من أجل تحقيق مستقبل أفضل. ولليونسكو بالذات - باعتبارها المنظمة الدولية المتخصصة في شئون التعليم والثقافة - برنامج مهم ومعروف باسم (نحو تعليم أساسي للجميع) يهدف إلى محو الأمية من جميع دول العالم, والعمل على بناء مفهوم جديد عن الشراكة مع المنظمات الدولية الأخرى للارتقاء بهذا التعليم. ومن بين أهداف البرنامج توفير فرص التعليم وتحسين نوعيته وربطه باحتياجات عالم الغد. وتذهب اليونسكو في ذلك إلى أن أربعة الآلاف ساعة الأولى من التعليم الذي يتلقاه الطفل - وهي تعادل تقريبا ما يتلقاه خلال السنوات الأربع الأولى في النظام التعليمي السائد - يمكن أن تزوده بكل العناصر الأساسية التي يقوم عليها التعليم كله بعد ذلك, وإن كان هذا لا يعني بطبيعة الحال التوقف عند هذا الحد. فالتعليم عملية مستمرة, كما أن التحديات التي تواجه القرن الواحد والعشرين تستدعي المواظبة على نشر التعليم بطريقة جادة في العالم بأسره, وهذا هو الدور الذي يجب أن تضطلع به المفوضية الخاصة بالتعليم خلال هذا القرن. وليس من شك في أن اهتمام اليونسكو بالتعليم يتجاوز هذه المرحلة الأساسية إلى المراحل الأخرى, لأن التعليم يساعد على إيجاد حلول لمشاكل المجتمع, ولذا فإن تغيير أو إعادة تشكيل نظم التعليم - وبخاصة في المجتمعات التي تواجه أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية - قد يساعد على التغلب على هذه الأزمات.

تحديات المستقبل

وقد دفع الانشغال بمشكلة الارتقاء بالتعليم لمواجهة تحديات المستقبل إلى زيادة الاهتمام بالبحث في فلسفة التعليم والهدف منه ومدى ملاءمة أساليب وطرق التدريس الحالية لمتطلبات العصر, ومواكبتها للاكتشافات والتطورات العلمية والتكنولوجية وكيف يمكن إعادة بناء نظم التربية والتعليم بما يحقق التنشئة المتكاملة للشخص منذ الصغر, مع الأخذ في الاعتبار متغيرات العصر وتوقعات المستقبل في مختلف المجالات. فلم يعد يكفي الحديث عما يجب أن تكون عليه المقررات الدراسية التي تلقى على التلميذ أو الطالب من المدرس أو الأستاذ عن طريق السرد البسيط المباشر الذي يأخذ شكل التلقين, وأصبح المهم هو الكشف من خلال التدريس عن القدرات الفكرية والإبداعية الكامنة في تكوين التلميذ الصغير, وإمكانات وطرق تنميتها وتشكيلها وتطويعها في ضوء الأوضاع الاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمع من ناحية واحتمالات وتوقعات المستقبل من الناحية الأخرى.

وقد نشر جريجوري فارينجتون مقالا عن (التكنولوجيا الجديدة ومستقبل تعليم طلاب الجامعات) في مجلة Education Review (عام 1995) يصف فيه نظام التعليم الحالي الذي يتولى فيه المعلم التدريس لمجموعة صغيرة محدودة من التلاميذ أو الطلاب بأنه أشبه بالأسلوب التقليدي البسيط المتبع في مشروعات الصناعات الصغيرة, وأن العلاقة المباشرة بين المدرس والتلاميذ تشبه علاقة (المعلم والصبيان) في نظام التلمذة الصناعية, ففي كل منهما ينقل (المعلم) خبرته بطريق مباشر إلى (التلاميذ أو الصبيان) الذين يكتفون بترديد أو محاكاة وتقليد ما يتلقونه من معلمهم دون أن تكون لديهم فرصة للتفكير الإبداعي الفردي المستقل أو فحص ومناقشة ما يلقى عليهم من معلومات وتعليمات. فالصلة بين المعلم والتلميذ في كلتا الحالتين ليست علاقة بالمعنى الدقيق للكلمة, لأنه ينقصها التفاعل بين الطرفين بالرغم من وجودهما معا في مكان واحد (الفصل أو الورشة) لفترات طويلة, إذ يكتفي أحد الطرفين بإلقاء الدرس أو التوجيه في الأداء بينما يكتفي الطرف الثاني بالاستماع والحفظ والترديد أو تنفيذ ما يلقى عليه من إرشادات وتعليمات. ومن شأن هذا الأسلوب أن يجعل دور المعلم هامشيا إلى حد كبير بحيث يمكن الاستغناء عنه إذا توافرت أساليب أخرى أكثر فاعلية وتحقق درجة أكبر من التفاعل والتواصل, والدليل على ذلك هو أن الدارس يمكن أن يتلقى المعلومات عن طريق أشرطة الفيديو أو التلفزيون دون الحاجة إلى حضور الدروس في المدارس والمعاهد. وقد أحرز التلفزيون نجاحا كبيرا في نشر التعليم عن بعد في كثير من الدول المتقدمة. وهذا كله معناه أن النظام التعليمي الحالي لم يعد يتناسب مع مقتضيات العصر ومع التقدم التكنولوجي في مجال الاتصال والمعلومات, ومع الزيادة الرهيبة في المعلومات عن كل الموضوعات, وأن ثمة وسائل أخرى للتعليم بدأت تجد طريقها إلى العملية التعليمية في المجتمعات المتقدمة وسوف يزداد التحول نحوها في المستقبل القريب كما سوف تنتشر تدريجيا في بقية دول العالم,

مدرسة في فضاء جديد

وربما كان أهم ما يميز هذه الأساليب الجديدة للحصول على المعلومات ونشر التعليم بالتالي على نطاق واسع بفضل الثورة الحديثة في تكنولوجيا الاتصال هو إمكان التواصل والتفاهم والتعامل مع أطراف كثيرة متعددة ومنتشرة في كل بقاع العالم ببساطة وسهولة وسرعة وبغير تكاليف تذكر. فتدفق المعلومات لم يعد خاضعا لتحكم الناشرين التجاريين الذين يسيطرون على سوق الكتب والمراجع, ويمكنهم أن يتدخلوا بشكل أو بآخر في عملية إنتاج وتداول المعلومات وبالتالي التأثير في العملية التعليمية بل وفي المناخ الثقافي كله.

والواقع أنه أصبح من الميسور لمستخدمي هذه الوسائل التكنولوجية الجديدة قيامهم هم أنفسهم بعملية نشر المعلومات, في الوقت الذي يفيدون فيه منها, وبذلك يصبح الدارس أو الباحث أو التلميذ معلما لغيره, مما يساعد على تسارع انتشار التعليم ووصوله إلى مناطق أو فئات من البشر كانت محرومة منه طيلة العصور الطويلة السابقة, وينطبق هذا على التعليم العام العالي والجامعي.

وقد يكون من السابق لأوانه في المرحلة الحالية تصور إمكان إحلال الكمبيوتر محل المعلم الإنسان, وإن كان هناك نوع من الاعتراف القوي, بل والتسليم بالدور المؤثر الذي يمكن للكمبيوتر أن يقوم به في مجال التعليم وبدرجة من الكفاءة والإتقان قد لا تتوافر للمعلم البشري. ومع ذلك فاحتمال حدوث هذا التحول أمر وارد, وهو ما يثير شيئا من القلق حول مصير المعلمين. إلا أن الكثيرين من المهتمين بهذه المشكلة يرون أنه ليس ثمة ما يبرر هذا الشعور بالقلق, على الأقل في الوقت الحالي وفي المستقبل القريب, إذ كما يقول فرد بينيت في مقال عن (التعليم والمستقبل) نشره في العدد الأول من المجلد الثاني لعام 1999 من مجلة (تكنولوجيا التعليم والمجتمع): (إنه مما يبعث على اطمئنان المعلمين إلى أن الكمبيوتر لن يحل محلهم, هو أنه على الرغم من تزويد المدارس في أمريكا وغيرها من دول العالم المتقدم بأعداد هائلة من أجهزة الكمبيوتر وإقبال التلاميذ على استخدامها والاستعانة بها في تحضير دروسهم وفهمها واستذكارها, فإنه لم يحدث تغيير يذكر في نتائج الامتحانات, ولم يحقق التلاميذ تقدما ملحوظا يمكن أن ننسبه إلى استخدام الكمبيوتر).

وعلى أي حال, فإن هذه التكنولوجيات الحديثة سوف تجعل من السهل مواصلة التعليم خلال كل مراحل العمر بالنسبة للجميع دون اعتبار لفوارق السن أو الجنس أو العرق أو المستوى الاجتماعي والاقتصادي حيث ستكون المعلومات التفصيلية والمتنوعة الخاصة بكل مرحلة تعليمية متاحة بوفرة للجميع على شبكات الإنترنت. وسوف يتحرر التعليم نتيجة لذلك من الشروط الحالية التي تلزم طلاب العلم بالانتظام في الحضور لتلقي الدروس في أوقات محددة في معاهد معينة موجودة في مناطق أو مواقع محددة أيضا, وتتحول العملية التعليمية بدلا من ذلك إلى برامج ومقررات تضم موضوعات معينة, يتم الإعلان عنها على أوسع نطاق من خلال شبكات الإنترنت مع بعض الإرشادات الخاصة بطريقة الوصول إليها والحصول على المعلومات الأساسية التي تمثل الحد الأدنى المطلوب في كل مقرر دون التقيد بمراجع محددة بالذات مع ترك حرية البحث والاختيار للطالب مع ما يتفق وميوله وقدراته وظروفه الخاصة. وهذا معناه أن معظم المسئولية في التحصيل سوف تلقى على عاتق طالب العلم نفسه مما يعطي الفرصة لإبراز الكفاءات الفردية وتنميتها, بل وتوجيهها بما يتلاءم مع الاهتمامات الخاصة, بينما ينحصر دور المعلم أو الأستاذ في توجيه النصح من بعيد ومن خلال الإنترنت أيضا عندما يريد الطالب ذلك. ويثير هذا الوضع المتوقع حدوثه مزيدا من قلق المعلمين في الخارج حول مصيرهم رغم كل ما يقوله الأستاذ فارينجتون في المقال الذي سبقت الإشارة إليه, إذ لن يحتاج النظام التعليمي المستقبلي إلى كل هذه الملايين من المعلمين والمدرسين والأساتذة المنتشرين في كل أنحاء العالم, وستقنع كل مؤسسة تعليمية بعدد محدود من كبار المعلمين والأساتذة البارزين في مجالات تخصصهم, المعروفين باتساع الأفق وغزارة العلم وإمكان توصيل المعلومات الدقيقة المعقدة عن طريق الإنترنت,

وليس من شك في أن هذا سوف يتطلب إنشاء شبكات تعليمية جبارة تستطيع استيعاب كل أنواع البرمجيات المتعلقة بمختلف جوانب التعليم في كل المراحل بحيث يمكن للطلاب الاستغناء بمراجعة هذه الشبكات عن الذهاب إلى المدارس والمعاهد وحضور الدروس. ويطلق الكثيرون على هذه الشبكات المستقبلية اسم (الإنترنت المتقدم) أو (الشبكات الكوكبية المتقدمة) إشارة ليس فقط إلى تنوع وتعقد البرمجيات والمعلومات التي تستوعبها - ويمكن لطلاب المستقبل الرجوع إليها كلما شاءوا - إنما أيضا للدور الذي يتوقع أن تقوم به في الارتقاء بالعملية التعليمية بوجه عام على ما جاء في مقال بعنوان (دور الشبكات المتقدمة في التعليم للمستقبل) - نشر في عدد نوفمبر - ديسمبر 1999 من المجلة الإلكترونية المسماة Educom Review - ويشير المقال إلى ارتفاع مستوى المعلومات التي ستتيحها تلك الشبكات المتقدمة وتنوعها بشكل غير مألوف في العملية التعليمية حتى الآن, ولكنه يلاحظ في الوقت ذاته أنه على الرغم من كل ما تبشر به هذه التغييرات والتطورات بمستقبل زاهر للتعليم فإن الأمر لايزال بحاجة إلى كثير من الدراسة التفصيلية المتأنية حول نوع المناهج والمبادئ التي ينبغي مراعاتها حتى يتحقق الهدف المرجو من هذه الطفرة التعليمية, وهو إعداد الأجيال الجديدة للتعامل والتفاعل مع المستجدات المستقبلية في مختلف جوانب الحياة, وهي مستجدات يصعب التنبؤ بها كلها في الوقت الحالي. ولكن المهم هو أن تحقيق الشبكة الإلكترونية الكوكبية المتقدمة واستخدامها بالفعل يمثل نقلة هائلة في التعليم وفلسفته وأساليبه والهدف منه, وأن هذا كله سوف يؤدي إلى ظهور علاقات وأنشطة اجتماعية واقتصادية وسياسية جديدة تساعد على تشكيل مجتمع جديد يختلف اختلافا جذريا عن كل أنماط المجتمعات التي عرفتها الإنسانية خلال تاريخها الطويل, أي أن تأثير ظهور واستخدام هذه الشبكات الإلكترونية المتقدمة سوف يتجاوز نطاق العملية التعليمية المحددة المحدودة إلى إعادة بناء مجتمع الغد بكل نظمه وأنساقه وعلاقاته الداخلية ومع المجتمعات الأخرى التي تشارك في استخدام هذه الشبكات.

مستقبل بلا تفاعل?

وقد يكون هناك بعض التخوف من الاعتماد على البرمجيات التعليمية من خلال الإنترنت قد يفقد العملية التعليمية أحد عناصرها المميزة وهو التفاعل الاجتماعي الناجم عن الصلة المباشرة بين المعلم والطلاب من ناحية, وبين الطلاب ببعضهم بعضا من الناحية الأخرى, وذلك على أساس أن الارتباط بالكمبيوتر قد يترتب عليه انعدام أو على الأقل تراجع فرص اللقاء التي يتيحها حضور الدرس في الفصول أو قاعات المحاضرة. ولكن يخفف من حدة الآثار السلبية الناجمة عن الانفراد بالكمبيوتر كمصدر للتعليم, إمكان تبادل الرسائل الإلكترونية سواء بين الطالب والمعلم المكلف رسميا من قبل المدرسة أو المعهد بمتابعة أعمال تلاميذه, أو بين الزملاء ببعضهم بعضا. فقد يمكن عن طريق البريد الإلكتروني استشارة المعلم وتقدير وتقييم المستوى التعليمي الذي وصل إليه الطالب أو تبادل الخبرات والأفكار بين الزملاء, أو حتى عرض الأمور الخاصة بحياتهم الشخصية بالطريقة نفسها التي تحدث في الحياة اليومية العادية بين الزملاء, أو بين الطالب والأستاذ الذي يطمئن إليه. بل إن معالجة مثل هذه الأمور من خلال البريد الإلكتروني يوفر درجة من الخصوصية والسرية قد لا تتاح أثناء الاتصال الشخصي المباشر. ويزيد من فاعلية الاتصال عن طريق الإنترنت إمكان المتابعة بالصوت والصورة بين طرفي الاتصال, بل وعقد (مؤتمر) بين أطراف عديدين لمناقشة الموضوع الواحد, دون أن يضطروا إلى مغادرة أماكن إقامتهم التي قد تكون متباعدة للاجتماع سويا, كما يحدث في (المؤتمرات) أو اللقاءات العادية المألوفة, وبذلك يتحقق التفاعل المنشود, وإن اتخذ شكلا مخالفا لما يحدث في أسلوب التعليم التقليدي. بل وقد يتسع نطاق هذه الاتصالات بحيث يتجاوز حدود طلاب الفرقة الواحدة في معهد معين ليشمل أقرانهم في المعاهد الأخرى حتى خارج الوطن كله. ومثل هذه الاتصالات عبر الشبكات الدولية جديرة بأن تدفع التبادل الفكري بين الجماعات المختلفة إلى مستويات أعلى وأرقى, وذلك إلى جانب توطيد العلاقات الحميمة بين مجموعات كبيرة من الدارسين, قلما تتاح لهم فرصة اللقاء معا في الظروف والأوضاع العادية.

ومن شأن هذا التبادل الفكري على هذا النطاق الواسع والمستوى الرفيع أن يؤدي إلى المشاركة الفعلية في بناء المعلومات والمعرفة وتطوير العملية التعليمية, حيث يصبح كل فرد من المشاركين متلقيا ومرسلا في الوقت نفسه للمعلومات والأفكار, كما أنه يساعد على الكشف عن الاتجاهات الفكرية العامة السائدة في المجتمع الطلابي, ونظرتهم إلى التعليم وجوانب القوة والضعف في الخطة التعليمية, وبذلك سوف يتحمل هذا المجتمع الطلابي - ربما بطريق غير مباشر - شيئا من مسئولية رسم السياسة التعليمية حيث غالبا ما ستؤخذ وجهات نظرهم في الاعتبار حين وضع المناهج والمقررات التعليمية المستقبلية واتخاذ القرارات المؤثرة في العملية التعليمية. وتطلق بعض الدراسات على هذا الاتجاه المستقبلي الجديد اسم التعليم بالمشاركة أو الشراكة بالأحرى, وهو اتجاه يلقى منذ الآن كثيرا من الترحيب في أمريكا. وليس ثمة شك في أن هذه الرؤى الجديدة سوف تتأثر بالتقدم الهائل الذي يتوقع حدوثه في مجال تحويل كل ما يتعلق بالعملية التعليمية إلى معلومات رقمية, وإتاحة الفرصة لتسجيل المعلومات المتعلقة بالمقررات الدراسية المختلفة على أقراص ممغنطة, أو على الوسائط المعلوماتية التي سوف يتم استحداثها في المستقبل, وتكون في متناول الطلاب بأسعار زهيدة. وتقوم الآن بالفعل مؤسسات (تجارية) ضخمة تتولى إعداد البرمجيات التعليمية التي يطلق عليها اسم Learning ware وهي برمجيات صممت للكمبيوتر لمساعدة الطلاب في دراساتهم, سواء من حيث وضوح الشرح أو طرح الأسئلة حول (المقرر) أو إجراء التجارب المعملية والخرائط والإحصاءات والأشكال والصور وغيرها من وسائل الإيضاح التي قد لا تتيسر لهم متابعتها بدقة في المدارس أو الرجوع إليها كلما أرادوا ذلك. ويتوقع بعض العلماء أن الاستعانة بهذه البرمجيات سوف تساعد على استثارة مخيلة الطالب وتدفعه إلى البحث وارتياد مناطق أخرى من العلم والبحث العلمي, غير تلك التي تقررها الخطة التعليمية الرسمية, وأن هذه تعتبر خطوة إيجابية في تكوين الطالب وإعداده للمستقبل بكل ما قد يحمله من مفاجآت.

وربما كان أكبر ما يعيب التحول المتوقع في التعليم من الأساليب التقليدية المتوارثة والسائدة الآن إلى التعليم من خلال الوسائل الرقمية, هو اختفاء الحياة الاجتماعية والنشاط الجماعي اللذين يميزان النظام القائم على الالتحاق بالمدارس والمعاهد, وأن الاعتماد في التحصيل على الكمبيوتر والإنترنت وملحقاتهما يزيد من قوة الاتجاهات الفردية التي قد تصبح ميولا انعزالية لدى الأجيال الجديدة. ولكن يقابل ذلك ازدهار الإمكانات الإبداعية وحب الريادة والكشف والتحرر من قيود وتحديدات البرامج الدراسية الرسمية دون إغفالها تماما. وعلى أي حال فالظاهر أن الحياة في المستقبل سوف تكون أكثر فردية مما هي عليه الآن وبذلك فإن التعليم الرقمي سوف يتلاءم مع هذا الأسلوب الجديد بل وقد يسهم في تطويره, كما أن مجتمع الغد سوف يكون هو مجتمع الابتكار والإبداع والتفكير الشخصي المتمايز بفرديته وليس مجتمع العمل الجماعي أو الجماهيري. ولذا, فإنه يتعين على المؤسسات التعليمية أن تعد نفسها وتعد طلابها من الآن لمواجهة الأوضاع والمتطلبات الجديدة بأن تعمل كل جهدها للكشف عن الإمكانات والقدرات والملكات الكامنة لدى كل منهم وتنميتها, حتى يمكن استغلالها في المستقبل على الوجه الأمثل.

أطفال الغد

في عام 2000 أصدرت كاتبة أمريكية تدعى ديانا آيزلر كتابا طريفا بعنوان (أطفال الغد) تستعيد فيه جانبا من ذكرياتها في المدرسة التي كانت في رأيها مكانا له سحر خاص مليئا بالإثارة ويدعو إلى حب المخاطرة مما يجعل الأجيال المتتالية تستعيد حين تتقدم بها السن أيام الصبا والمتعة التي أمضتها فيها, باعتبارها كانت ملاذا يوفر لهم الأمن الفيزيقي والراحة الوجدانية, وحيث كان الجميع يشعرون بالتعاطف بعضهم إزاء بعض ويشاركون بعضهم بعضا في أفكارهم ومشاعرهم. ثم تتساءل عما إذا كانت مدارس الغد سوف تكون قادرة على توفير مثل هذا المناخ, بعد أن تتضاءل أو تختفي أساليب التعليم التقليدية ويحل التعامل بين التلميذ وجهاز الكمبيوتر والإنترنت محل التعامل مع الأستاذ الإنسان... ولكنها تترك السؤال بغير جواب حتى يجيب عنه الغد القريب.

 

أحمد أبوزيد