دور المثقف: مسئولية لا موسوعية

دور المثقف: مسئولية لا موسوعية

تطرح هذه المداخلة مفهوم الثقافة ودور المثقف من خلال موقف المسئولية عن التفاعل مع الجماعة الإنسانية والارتقاء بها ومعها.

إن قصر مفهوم الثقافة على فئة بذاتها, أو تحديد تجلياتها بإنجازات معيّنة من العلم والفن والإبداع. يقوم بها (صفوة) محددة المعالم. هو نوع من الاختزال الذي ينبغي مراجعته. إن هذه الفئة التي اختصّت بلفظ (المثقفين) - مع احترامنا لكل إنجازاتها الفائقة - لا تمثل بالضرورة جماعتها (ناسها) في وقت بذاته بالمعنى الذي يفيده مضمون ما هو (ثقافة).

إن الثقافة هي هذا النسيج المتضمّن لجماع مستويات الوجود الفردي فالجمعي (معا) (حالا), وهي في الوقت نفسه المنظومة التي يتمحور حولها تاريخ الجماعة مُسجّلا في نوايا خلايا أفرادها, ثم متجليا في مظاهر سلوكهم.

أنبّه ابتداء إلى خصوصية استعمال كلمتي (الوعي) و(اللاوعي) هنا حتى لا يذهب إلى ذهن القارئ أنهما كلمتان مترادفتان لما هو (الشعور) و(اللاشعور) (من أبجدية التحليل النفسي - الفرويدي خاصة), كنت أتمنى استعمال تعبير (الوعي الكلّي الغائر), بدلا من (اللاوعي), هذا النسيج الغائر ليس مرادفا أيضا للاشعور الجمعي Collective Unconscious الذي قال به كارل يونج. إنما هو الوعي الكامن الدال على الحضور الجاهز لمنظومة بيولوجية كيانية ليست في متناول الإدراك الظاهري الحاضر. إن هذا الكمون لا يعني أن هذا النسيج الكلي هو مجرد (مشروع فعل). إنه حضور فاعل طول الوقت من خلال مظاهر تتحرك كتجليات منه. إنه (الوعي الكلي الذي يصدر عنه وتعود إليه تفاصيل تجليات السلوك الفردي والجماعي. الذي يتكون من مستويات يشمل الأحدث منها الأقدم ولا ينفيه).

لعل هذا التعريف هو الأقرب إلى ما يعنيه إليوت من (أن الثقافة تنتمي إلى (لا وعي الجماعة) أولا قبل أن تظهر في أشكال بسلوكها المحددة).

إن ما أثير أخيرا - بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 خاصة - قد أدّى إلى فتح ملف صراع الحضارات وحوارها وصدامها على مصراعيه, وبشكل لحوح.

إن كل حضارة هي ثقافة في الوقت نفسه, ولكن ليس كل ثقافة حضارة, إن هذا التحدي الذي ألقي علينا أخيرا. وهو ما كان شائعا من قبل سبتمبر ذاك, يدعونا لمراجعة موقفنا بين ما هو ثقافة آنية, وما هو حضارة محتملة, مرورا بضرورة تحديد استعمال لفظ (المثقف) هذا الاستعمال الذي يقصره عادة على فئة محدودة من الذهنيين Intellectuals.

توسيع الدائرة

إذا كانت الثقافة بهذه العمومية, فمن هو المثقف? المثقف هو من يستوعب ثقافة ناسه بدرجة من الوعي الفائق المسئول. الذي يمكّنه من أن يساهم في تعميق الإيجابيات وتحريك جماعته لصياغة البُنى الأعلى فالأعلى. التي إذا ما وصلت إلى درجة من الرقي والإنجاز والقيم الإنسانية القادرة على العطاء والانتشار, سمّيت حضارة.

إن أي ثقافة تفرز مثقفيها ليقودوها إلى ما تَعِدُ به. من هنا ينبغي ألا ننخدع بالانقياد إلى بعض عقولنا باعتبار أنها هي التي تمثل ثقافتنا دون غيرها. إن بعض هذه العقول مهما تميّزت وأنجزت, قد لا تكون الممثل الحقيقي لثقافتنا الآنية, أو المستقبلية. بل إنها أحيانا ما تكون (مضادة) لثقافتنا من خلال إعاقة تلقائية وعي الناس الأعمق, يتم ذلك بالمبالغة في تقليد أنماط حياة لم تنبع أصلا من ثقافتنا, أو من خلال فرض نموذج نظري لما يتصور هذا المتميز أنه الأصلح والأرقى.

إن ما نزعم من اختلاف أو تميز عن الآخرين (في الغرب خاصة), وما نسعى إليه من حوار أو تفاهم أو تعاون معهم, لا يمكن أن يتم, أو حتى يبدأ, إلا بتحديد معالم ما هو نحن, أي معالم ثقافتنا الغالبة فعلا مهما بدت متخلِّفة, أو عشوائية, أو كلية, أو عاجزة, أو تقليدية. إن هذا التحديد هو مهمة المثقف من حيث إنه القادر على الغوص إلى وعي جماعته الغائر لاستيعاب ثقافتهم (ثقافته), ومن ثم يستطيع هذا الواعي (المثقف) أن يتصدّى لحمل مسئولية هذا الوعي الغائر (اللاوعي) لجماعته بما له وما عليه, ثم لا تكتمل له صفة (المثقف) إلاّ إذا انطلق من خلال مسئوليته هذه إلى القيام بدوره الحقيقي في المراجعة والنقد, والتحريك, والإطلاق, لإعادة التنظيم.

إنه لا يكفي حتى يكون أي واحد مثقفا أن يعرف شيئا عن كل شيء, بل إنه لم يعد يصح أيضا أن نعتبر من يستوعب جُماع وعي ناسه دون مسئولية أو تحريك أو إضافة هو المثقف الذي يمثلهم. إن هذه المراجعة الحالية هي بمنزلة دعوة لكل الناس, وبالذات للصفوة الفخورة بمعلوماتها ومعارفها, المتميزة بإنجازاتها وإضافاتها. لإعادة النظر في موقفها.

على هذه الصفوة أن تنتبه فتنزل عن الكرسي الأعلى متوجهة نحو بؤرة وعي الناس دون الاقتصار على دورها المحدود وهي تتصور أن بإمكانها أن تدير دفة الثقافة من فوق المكاتب, أو عبر ندوات المناقشات, أو تنافس الجوائز, أو اجتماعات المؤتمرات, أو حتى من خلال نشاطات النشر والإعلام.

إن إعادة النظر في تعريف من هو المثقف يفتح الباب على مصراعيه لكل الناس - دون استثناء - أن يُصنَّفوا إلى (مثقف) أو (مشروع مثقف) أو (ضد ثقافي). الأول يستوعب الوعي العام ويوجهه إلى أعلى, والثاني (الوحدة الثقافية) هو وحدة الوعي البشري السائد, أما الثالث فهو المعيق لحركية هذا الوعي العام. إن ذلك يتبع أن تظل على رأس القائمة فئات معيّنة تبدو مسئولة أكثر من غيرها عن حركية ثقافة ناسها سلبا وإيجابا. يسري ذلك على المدرّس. والأسطى الحرفي, والتشكيلي, وسائقي الميكروباص, وجماعات المنشدين في الموالد. لكنني أكتفي هنا بالحديث عن مثالين محددين حسب ما يسمح به المقام هما: (السياسي), و(رجل الدين).

السياسي والداعية

يمكن أن يعتبر السياسي مثقفا إذا وعى ثقافة ناسه فأسهم بدوره في تعميقها فتطويرها, كما يمكن أن يكون مجرد (وحدة) مكررة من نسيج ثقافة ناسه إذا اقتصر دوره على القيام بمهامه بطريقة القصور الذاتي, أو تحصيل الحاصل, أو تخصص الأكاديمي, وأخيرا فهو يمكن أن يكون (ضد ثقافي) إذا فرض على ناسه ما يعيق توجّه ثقافتهم حتى لو توهّم أنه الأحسن له ولهم.

لا يهم إن كان (السياسي المثقف) حاكما, أو ثوريا, أو معارضا, فالشروط المذكورة يمكن أن تصنف كمثقف من الدرجة الأولى كلا من: زاباتا, وجيفارا بالدرجة نفسها التي تصنف بها ونستون تشرشل وأي داعية روحي قاد قومه والناس نحو الأرقى.

أما السياسي الذي لا يُصَعَّد إلى درجة مثقف (حتى لو كان وزيرا متميّزا في وزارة مسئولة عن التربية أو الإعلام أو عن الثقافة نفسها) فهو السياسي التكنوقراطي, المتخصص جدا في نوع نشاط وزارته فقط, دون وعي بحركية وعي ناسه وتوجهاتهم الكلية معا, وعلاقة ذلك بما يقوم به.

وأخيراً, فإن أمثلة السياسي (ضد الثقافي) هي بلا حصر على الجانبين, نجد على أحد الجانبين ذلك الحاكم الشمولي الذي فرض فرديته السلطوية لتأكيد ذاته ونفع بطانته أو طبقته الأقلية على حساب سائر الناس وضد مسيرة ثقافتهم. إن هذا هو ما يعانيه العالم الثالث عامة.

على الجانب الآخر, نجد سياسيا ثوريا شديد الحماس بالغ الإخلاص, لكنه يصنّف أيضا: (ضد ثقافي) إذا ما كان سابقا لعصره, أو متشنجا لتنظيره الخاص. نتذكر ذلك بدءا من وهم أفلاطون وأمثاله عن (الفيلسوف الحاكم) وصولا إلى لينين وماوتسي تونج, وبشكل أكثر تحديدا ستالين, إن كل هؤلاء الساسة بتاريخهم الثوري, وربما تمام إخلاصهم, وأيضا بضخامة أخطائهم وشطح تطبيقاتهم, ليسوا مثقفين لأنهم لم يمثلوا ثقافة ناسهم (جغرافياً وتاريخياً). إنهم لم يبدأوا من (لا وعي) جماعتهم, ولم يستلهموا آليات تطويرها منهم/ فيهم. النتيجة, كما علّمنا التاريخ وكما كان يجب أن نستنتج, هي المضاعفات التي اشتهرت تحت مسميات مختلفة مثل: (الاختلاف بين وعود النظرية, ومضاعفات التطبيق) والتي انتهت إحداها إلى انهيار الاتحاد السوفييتي.

ثم لاح أمل جديد تحت اسم الديمقراطية حيث اعتبرت من أهم الوسائل التي يمكن عن سبيلها استلهام وعي الناس وثقافتهم كي يقودهم سياسي (مثقف) يمثلهم, لكن الديمقراطية الغربية انتهت إلى التوقف عند ظاهر عدِّ الأصوات دون الغوص إلى اللاوعي الجمعي, الأمر الذي أصبح يتحرك تحت رحمة وتضليل وسائل أخرى أهمها المال الاحتكاري, والإعلام المزيف. هذه الوسائل هي التي تسمح للسياسي, حتى في ظل ما يسمّى النظام الديمقراطي, أن يكون (ضد مثقف), رغم زعم الحرية ومواثيق الحقوق المختلفة.

المثال الثاني هو موقف وتصنيف من يسمّى رجل الدين. مع أن الإسلام - مثلا - لا يقر الصفة بالشكل المعروف في هيراركية المنظومات الكهنوتية المحكمة في أديان أخرى. إلا أننا نجد أن كل دين - حتى الإسلام قد أفرز نوعا من السلطة الدينية التي تمارِس دورها إيجابا أو سلبا حسب مقتضى الحال.
هكذا نشأ دور الفقيه, والمفتي, وأدوار هيئة كبار العلماء.. الخ, إننا مع احترامنا لهذه الفئة المجتهدة من العلماء الثقات, لا يمكن أن نعتبر أصحابها دون سائر المتدينين بدين بذاته هم المثقفين بثقافة هذا الدين بالذات. إن وعي المنتمين إلى دين بذاته, يختلف اختلافا مميزا حسب الموقع الجغرافي والظروف البيئية الخاصة لكل مجموعة, رغم الانتماء للدين نفسه.

يميّز د.أحمد صبحي منصور مثلا - بين الإسلام النجدي, والإسلام المصري, لا باعتبارهما نوعا من الدين, وإنما بالتركيز على التجلي الثقافي الذي صبغ بعض الممارسات الدينية في كل من الشعبين المسلمين في فترة معينة من الزمن في بقعة جغرافية بذاتها. يمكن أن ننتبه أيضا إلى كيف يتميّز الموقف العلماني المعلن في الولايات المتحدة, عن (الكنائس) التلفزيونية التي أصبحت تشكل (لا وعي) (ثقافة) أكثر من ثلث سكان أمريكا.

من هنا, فإن رجل الدين المثقف هو الذي (يعي) ثقافة ناسه, وهو المنوط بتحريكهم نحو دينهم نفسه إلى أعلى ليحققوا به ومن خلاله أعلى ما يعد به هذا الدين من إيمان قابل للتجدد, تعميقا وتحقيقا للوجود البشري المتنامي.

ترجع أهمية الانتباه لموضع الدين في نسيج ثقافة الناس لما له من آثار عملية تطبيقية, خاصة إذا تذكرنا تنوّع حضور ما هو دين في (لا وعي) الناس حتى ولو كان دينهم المعلن واحدا. يحدث هذا التنوع بصفة عامة, وأيضا في البلد الواحد نفسه. إن ثقافة إسلام طالبان, غير ثقافة إسلام جماعة خاتمي (انظر تجليات التدين في إيران التي سمحت بأن يواصل الإخراج السينمائي الإيراني تميّزه العالمي حتى بعد الثورة الإسلامية). كذلك ثقافة الإسلام في مصر - مثلا - يمكن تصنيفها إلى ثقافات فرعية متعددة. إن كلا من هذه الثقافات الفرعية تفرز مثقفيها المختلفين عن بعضهم البعض بالضرورة.

نعود فنؤكد: إن رجل الدين (المثقف) هو الذي يعي نوعية النسيج الديني التحتي لثقافة ناسه الذين يتصدى لتحريكهم, ومن ثم يصير مسئولا عن استيعاب ثقافتهم التحتية بقدر ما هو منوط بتطويرها. وبالمقياس نفسه الذي قسنا به السياسي يمكن أن نميّز رجل الدين (الوحدة المكررة) الباهتة الذي لا يتميز وعيه عن أي آخر من ثقافة ناسه, كما نميّز رجل الدين (ضد الثقافي) الذي يعوق جموده وتجمّده دون استيعاب حركة التاريخ التي تعيد تشكيل الوعي البشري لمجموعة من الناس تحت لواء الدين نفسه الذي ينتمون إليه.

إن مثالا طيبا لرجل الدين الثقافي في مصر (وربما في العالم العربي) هو المرحوم الشيخ الشعراوي, وإلى درجة محدودة الشاب عمرو خالد أخيرا. الأول راح يمثل أغلب وعي الإسلام اليومي انطلاقا من ثقافة جماعته الإنسانية, مما مكّنه أن ينطلق داعية مسئولا عن ثقافة ناسه, مضيفا إليها ما رأى أنه يصلح لها, وأنها تصلح به, بغض النظر عن مدى اتساع وإبداعية المفاهيم التي قدّمها أو أضافها. ثم ظهر أخيرا ذلك الشاب المجتهد - عمرو خالد - ليستوعب, ثقافة إسلامية فرعية شاعت بين الشباب المصري الحائر, فتجلّت في وعيه بدرجة سمحت له بأن يعلنها ويتعهدها لينشرها, لتتخلق هذه الظاهرة المسماة باسم (الدعاة الشبان).

أما مثال المرحوم الدكتور عبدالحليم محمود فقد يكون مناسبا لشرح كيف يمكن أن يستوعب رجل الدين عددا متنوعا من الثقافات الفرعية التي جمعت في هذه الحالة ما بين ثقافة الإسلام الرسمي الذي تجلّى في مشيخته للأزهر, والإسلام التصوفي المعرفي الذي كان يمارسه ويدعو له, والذي تجلّى في كتاباته الكشفية وقيادته لمشيخة الطريقة التي يترأسها مع الأتباع والمريدين. مثلما تجلّى موقفه الفقهي التقليدي في مؤلفاته وإسهاماته الفقهية الرسمية.

على الجانب الآخر نجد أن أي رجل دين ينفصل عن ناسه الماثلين أمامه وحوله حالا, ثم يروح يفرض عليهم تفسير نص جامد كما فهمه هو, أو كما حفّظوه إياه, هو رجل يمثل ما عنيناه بما هو (ضد ثقافة) ناسه, إنه يمارس دورا يعارض به ثقافة المجموع الذي يتصدى لهديه لأنه توقف عند ثقافة ذهبت دون أن يواكب لحظة التاريخ الراهنة التي يمكن أن تعينه على استلهام نصوص دينه نفسها في سياق ثقافة ناسه الآنيين دون تعارض. إن مثل رجل السلطة الدينية هذا يفرض على نفسه وعلى أهل دينه وصاية من مراجِعِه, وفتاواه المتجمّدة المكررة, فتصبح النتيجة إجهاضا وتشويها لمسيرة تخليق الوعي الإيماني المتجدد لناسه, والذي هو التوجه التديني الأعمق للإسهام في تحريك البشر إلى أعلى.

أما رجل الدين الوحدة الثقافية (الذي لا هو مثقف, ولا هو ضد مثقف) فهو رجل الدين (الموظف) المسالم الذي لا يختلف كثيرا عن الوحدات الثقافية الأخرى (سائر الناس) بلا تميز بأي درجة من الوعي الفائق, وأيضا دون إقحام قهر مضاد لثقافة ناسه, لكنه مشروع مثقف له حق الإسهام في أي وقت - مثل غيره - متى امتلك أدوات القيادة.

تطبيقات محتملة

إن تشكيل الثقافة وتطويرها وإطلاق إمكاناتها وفك قيود حركتها إلى ما تعد به ليس مهمة وزارة بذاتها, أو مجلس أعلى, أو هيئة كبار العلماء, إنها مهمة كل التنظيمات السياسية والدينية والتربوية والإعلامية الرسمية والشعبية. إن هذا لا ينفي دور الصفوة المسماة (جماعة المثقفين) في أي موقع رسمي أو شعبي. لكن على كل من يجد نفسه في هذا الموقع (موقع المثقف). أو من يتصوّر أنه كذلك, أن يقيس نشاطه, ويختبر وعيه ليحدد حقيقة انتمائه واتجاه توجّه نشاطه. لا يمكن أن يهتم فرد واحد بكل هذه المجالات معا, لكن يمكن لأي شخص أن يتعرُف على حقيقة دوره من خلال الفرض الذي طرحتْهُ هذه الأطروحة بشكل أو بآخر: هل هو مستوعبٌ يضيف, أم أنه معقلنٌ يحكمُ من أعلى?

إن مجال الثقافة هو كل مجالات الحياة تقريبا بدءا بالإعلام والتربية والتعليم, ليس انتهاء بالفنون والآداب, ولا مُغفلا حركية الوعي الشعبي وأساطيره, بل وخرافاته, وحدسه المجدِّد للغة (الملهم للشعر وغيره)!!, ولا غافلا أيضاً عن علاقة كل ذلك بالجسم والحلم والخيال. إننا بتوسيع مفهوم (المثقف) بهذه الصورة يمكن أن نأمل في تحقيق عدة أمور من أهمها:

أولا: أن نفتح أبواب توسيع مجالات المعرفة للنهل من مصادرها المتعددة ونحن نحاول أن نستوعب حقيقة (لا وعي) ناسنا بما هو, (هنا والآن). وذلك حتى يكون وعي المثقف مُلِماً بمجمل (لا وعي) ناسه قادرا على احتوائه لإطلاقه إلى ما يعد به.

إن على من يتصدى لدور المثقف الرائد(!) أن يبدأ من حيث وَعْي و(لا وعي) ناسه معا. لا من حيث ما يتصور, ولا من حيث ما يأمل, ولا من حيث ما يحسب أنه ما ينبغي أن نكونه حسب النموذج الذي في ذهنه.

ثانيا: أن ينفتح الباب لكل إنسان أيا كان موقعه أن يقوم بدور المثقف الحقيقي لتطوير ثقافة ناسه إذا ترقى بوعيه إلى استيعاب (لا وعيهم) ليصبح مسئولا عن تحريكه إلى أعلى.

ثالثا: أن ننتبه إلى الإعاقة الممكنة التي قد تترتب على اعتبار الثقافة فرعا من فروع النشاط الإداري, أو النشاط الوزاري, أو النشاط التخصصي أيا كان.

رابعا: أن ننتبه إلى الدور السلبي الذي يمكن أن يترتب على انفصال الصفوة المتميزة - ممن يسمون بالمثقفين - مهما حَسُنَتْ نواياهم, أو اتسعت موسوعيتهم, عن حقيقة عمق وعي ناسهم.

 

يحيى الرخاوي