أنسي الحاج: الصمت العابر كالفضيحة

أنسي الحاج: الصمت العابر كالفضيحة

كتاب في جريدة

لم تكن مجرد مصادفة أن يحمل ديوان أنسي الحاج الأول عنواناً غريباً وغير مألوف: (لن). فالديوان هذا سيكون بحق الصرخة الشعرية الأولى التي ستعلن ولادة قصيدة جديدة لم يعهدها الشعر العربي من قبل لا في مضمونها ولا في لغتها.

إن بدت مقدمة (لن) منذ تلك اللحظة بمنزلة (البيان) الأول لقصيدة النثر العربية في مفهومها التقني والجمالي الصرف فإن قصائد الحاج الأولى جسّدت حينذاك معالم القصيدة الحديثة التي ستصنع مستقبلاً شعرياً بذاته. ولم تكمن فرادة (لن) في كونه الخطوة الأولى التي رسّخت قصيدة النثر العربية شعرياً ولغوياً أولاً ثم نظرياً عبر المقدمة البيان بل إن الفرادة تجلّت أيضاً في الصدمة التي أحدثتها تلك القصائد في الشعر العربي خالقة جمالية جديدة هي جمالية الهدم والهتك واللعنة والاحتجاج.

كان الشعر العربيّ في العام 1960 لايزال يعيش ثورة النظام التفعيلي وكانت النزعة القومية والوطنية تدعو إلى الشعر الملتزم والجماهيري عندما اكتشف أنسي الحاج قصيدته الجديدة, قصيدة النثر المشبعة بما يسميه بودلير (الطاقة الموسيقية) و(المادة النغمية) و(حركات النفس). حينذاك اكتشف أنسي الحاج اللغة المغرقة في الجحيم الديونيزيّ وفي (الجمالية المتشنجة) التي نادى بها السورياليون, اللغة النقية والغريبة, المضطربة والصافية, اللغة التي تتناغم فيها المتناقضات وتتآلف فيها عناصر العالم الذي هدمته حضارة العصر. غير أن هذا الشاعر المتمرّد على الماضي المندثر والقيم البالية عرف كيف يكون خير وارث للمدرسة الجمالية التي كانت نشأت في المقلب الأخير لعصر النهضة. وعرف أيضاً كيف يجمع بين لحظة الهدم ولحظة البناء ناسجاً عالمه الجديد بحسب ما تفترض المخيلة الخلاقة واللعنة المقدسة والتناغم الخفيّ.

إلاّ أن أنسي الحاج الذي أصبح لاحقا شاعر الحب ظل هو نفسه ذلك الشاعر المتمرد الأبدي, الشاعر الصوفي والنزق في آن. وتمكّن أنسي الحاج في ما كتب ويكتب من قصائد حبّ أن يجعل من المرأة ذاتاً إنسانية وأن يرتقي بالعشق إلى أرقى تجلياته ليصبح أرض خلاص وملجأ يقيه بشاعة الزمن وهول السقوط ووحشة الموت.

كلمات وكلمات

لم يُعرف أنسي الحاج كشاعر فقط بل عرف أيضاً كناثر عبر زاويته الشهيرة (كلمات كلمات كلمات) التي انصرف إلى كتابتها طوال سنوات في (ملحق) النهار الذي أسسه في العام 1964. وكان قراؤه ينتظرون زاويته تلك أسبوعاً تلو أسبوع ليقرأوا المقالات الصارخة والمتمردة بدورها, المقالات التي كانت ترافق هموم السياسة وشجون الواقع, منتقدة ومعترضة ومحتجة وملتزمة قضايا الثورة والتحرّر.

ولد أنسي الحاج عام 1937 في بيروت. تلقى علومه في مدرسة الحكمة, ثم بدأ العمل في الصحافة باكراً منذ العام 1956 كاتباً في جريدة (الحياة) ثم في القسم الثقافي لجريدة (النهار) التي يترأس الآن تحريرها. أقام في باريس حيث عمل في (النهار العربي والدولي) وفي العام 1964 أصدر الشاعر (الملحق) الأسبوعي لجريدة (النهار) الذي ظل بعد مدة عشر سنوات, حاملاً مقاله الأسبوعي (كلمات كلمات) الذي أحدث ثورة في الكتابة الصحافية الأدبية.

شارك أنسي الحاج في تأسيس مجلة شعر وفي إصدارها وكان أحد أركانها منذ 1957 حتى توقفها في عهدها الأول, ثم في عهدها الثاني, وفي أعدادها الأولى ظهرت له كتابات نقدية ثم راح ينشر فيها شعره وترجماته عن الفرنسية.

في عام 1960 ظهرت مجموعته الشعرية الأولى (لن) وأثارت منذ صدورها معركة شعرية شارك فيها شعراء ونقاد من العالم العربي. في العام 1975 صدرت قصيدته الطويلة في كتاب مرفق برسوم للفنان بول غيراغوسيان وهي (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) عن دار النهار للنشر. وفي المناسبة كتب المستشرق الفرنسي جاك بيرك كلمة نشرت في جريدة (النهار) (16/12/1977) يقول فيها عن هذه القصيدة/ الكتاب: (شكراً لهذا الكتاب الرائع, حيث عظمة الموضوع تتجاوب مع جمال الكلمة).

وساهم الشاعر في الستينيات, في إطلاق الحركة المسرحية الطليعية في لبنان, عن طريق الترجمة والاقتباس, وكانت ترجمته لمسرحية (كوميديا الأغلاط) لشكسبير لافتة جداً بلغتها الحية والمتحركة, التي تمكنت من أن تكون همزة وصل بين الجمهور والمسرح الجاد, قديمه وحديثه. لكن نجاح هذه اللغة ظهر أكثر ما ظهر, مع ترجمته عام 1965 مسرحية (الملك يموت) لأوجين يونسكو. وترجم أيضاً أعمالاً كثيرة للفرق المسرحية اللبنانية, ومن هذه المسرحيات: (العادلون) لألبير كامو, (القاعدة والاستثناء) لبريشت, (احتفال بزنجي مقتول) لآرابال, (نبع القديسين) و(رومولس الكبير) لدورنمات, (الآنسة جوليا) لسترندبرغ. إلا أن أقوى اندفاعاته على صعيد المشاركة في الحركات الفنية ربما هي اندفاعاته مع الأخوين رحباني, اللذين كان بدء معرفتهما الشخصية به في يونيو 1963, على أثر مقال كتبه عن فيروز, أحدث ضجة بل تحولاً في النظر إلى هذه المغنية الكبيرة. وهذا المقال لم يكن الأول الذي كتبه الشاعر عن فيروز, ففي 1956 كتب في مجلة (المجلة) مقالاً عنها بعنوان (فيروز).

ترجمت له قصائد عدة إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية وسواها. وصدرت بعض الترجمات في كتب واستعرض بعض المسرحيين له فأخرجوها مسرحياً, واستوحى كذلك بعض الموسيقيين قصائد له في أعمال موسيقية وكذلك كثير من الرسامين اللبنانيين والعرب, اقترنت رسوم لهم بقصائد له. انطوى في سنوات الحرب اللبنانية على نفسه ورفض أن يوقّع باسمه فكان من حين إلى آخر يكتب عن الأدب والفن تحت اسم (سراب العارف). رفض أنسي الحاج الحرب ورفض منطقها وآثر الصمت والعزلة.

مؤلفاته:

(لن) - بيروت, دار مجلة شعر, 1960, (الرأس المقطوع) - بيروت, دار مجلة شعر, 1963, (ماضي الأيام الآتية) - بيروت 1965, (ماذا صنعت بالذهب, ماذا فعلت بالوردة?) - بيروت 1970, (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) - بيروت 1975, (كلمات كلمات كلمات) - بيروت 1988, مع مقدمة من غسان تويني وتمهيد لخالدة سعيد, (خواتم) - بيروت 1991, (الوليمة) - بيروت 1994, (خواتم 2) - بيروت 1997.

كتبه توزّعت بين دار النهار ومؤسسة رياض الريس والمؤسسة الجامعية ودار الجديد التي أعادت طبع دواوينه وهذه مختارات من شعره:

في أحد الأيام سيرجع الكون جميلاً

ما تظّنينه جنوني هو جنوني
ما تظّنينه سكوتي هو نَهَمي
ما تظنّينه صفائي هو ظلّك على جبيني
ما تظّنينه حرّيتي هي تلك الحَفْنة من القش
لعلّك تُشعلينها ذات يوم,
ففي بلادنا أنا وأنتِ
العاشق لا يُهدي حبيبته أقلَّ من حياته.
ما كانت شَبّابتي لو لم تكوني الصوت
ما كان وجهي لو لم تنظري من عينيّ?
رقَدَ الصراخُ بين البَنَفْسج
شَعْري ناعم من السعادة.
يا جَمالها أعطني يديك
يا سرابها أعطني يديك
ولدتُ لأنكِ النبتة الصبيّة في الأرض العجوز
ولدتُ لأنكِ ماء الصخور المُغلَقَة.
في أحد الأيّام سيرجع الكون جميلاً
بوجوه ناسه وعيونهم
بصدأ صحاراه الذَهَبيّ
وظلام غاباته النائم على ذكرياتنا.
في أحد الأيّام سيرجع الكون جميلاً
بعد أن يرى تماماً أنَّ القسوة هي الموت.
من (الوليمة)
1994

لأبقى

أصدقائك هيّأوك لعهدي
أحبّاؤكِ عتّقوك لأنتشر فيك
لآكلكِ عشّاقك أنضجوكِ
ها أنا!
- حين أسترخي جواركَ لمَ لا تأكلني يا سيّدي?
هذي ليلتي الثانية, للآن لم تلمسني. أما أفتنك, آه!
لماذا لا تأكلني?
- لأبقى في انتظاركِ. ابعدي.
عن ديوان (لن)
1960

حوار

I
قولي: بماذا تُفكّرين?
أُفكّر في شمسكَ التي لا تُنيرني يا عاشقي.
قولي: بماذا تفكّرين?
أُفكّر فيك, كيف تستطيع أنْ تصبر على برودة قلبي.
قولي: بماذا تفكّرين?
أُفكّر يا عاشقي في جبروتك, كيف أنّك تُحبّني
ولا أُحبّك.

II
قُلْ: بماذا تُفكّر?
أُفكّر كيف كنتُ, وأحزن من أجلكِ يا حبيبتي.
أُفكّر في شمسي التي أذابتكِ, وفي جَلَدي الذي
خضّعك, أفكّر في حُبّي الذي ركعك, ثم مَلّكِ
يا حبيبتي.
أُفكّرُ في المراثي يا حبيبتي.
أُفكّرُ في القتل.
من ديوان (لن)
1970

ترتيلة مُبعثَرة

لن أُسمّيكِ اسماً موسيقياً, لن أتبرّع لكِ بمفاجأة
إنني شغوف بعُريك حيث يأخذ هذيانيَ مجده
إنّني جائزةٌ باسمك.
ما معنى الرّمز? فمٌ في الماء
لكنّيَ فم أصلع وأعمالي مُخْتَرَقة وبلا هدف.
الرّمز غيب
وسُرّتكِ تُغيّب العالم كدوّار الماء
الرّمز قوّة, ووهجكِ كسلٌ مسلّح
وأنا جُرثومة مُدللّة بين نهديكِ.
لقد عمّدوهنّ بأسماء غريبة
إذا دعوتكِ شيئاً فسأنساه.
هناك كُتب لها رائحة الغُرف وأُناديها يا كُتباً لكِ
رائحة الغُرف. هناك شِعر كالزجاج المُكسّر أُناديه
أيُّها الزّجاج المُكسّر. لكنْ لم أُمسكْ لك بمنادى.
أنتِ واضحة تتعقّبني سُمرتُك ولهاثُ رحِمك
يسكنني.
تؤدّين أدوارك في عينيّ وتفتحين شبابيك في نخاعي
الحُلم في مخدعك ومخدعك حيلة واعية!
ولسوف أدعوكِ
آه! ماذا?
ولسوف أكتشف لكِ سجناً
آه
من يُخرجني منه!
من ديوان (لن)
1960

شفاه الينابيع

النبع أكثر حزناً من العطشانة
عندما تقصده فتجده مُغْلقاً بالحَجَر والشوك.
النبع أكثر عطشاً.
وأنتِ العطشانة لا تبكي
قولي: (أيّها النبع أنا المحتاجة إليك!).
ومن ثنايا الحجر والشوك سيُنهِضهُ جمالُكِ.
أيّتها العطشانة لا تكتئبي
فمُكِ هديّة وجوعُكِ عطاء
ولمثلكِ تتجسّد الآلهة.
نامي وعند الصباح
الشوكُ مزمارٌ والحجر قَصْر,
ويُشرق النبع وتأخذينه.
فيا عطشانة أنتِ النبع
والينابيعُ شفاه.
من (الوليمة)
1994

 

عبده وازن