اللغة حياة: قاعدة أخرى تكتشفها «العربيّ»: قد يعامَل الأصليّ معاملة الزائد

 اللغة حياة: قاعدة أخرى تكتشفها «العربيّ»: قد يعامَل الأصليّ معاملة الزائد

نحن نعرف أنّ الزائد قد يعامل معاملة الأصليّ، لكنّنا لا نعرف أنّ الأصليّ قد يعامل معاملة الزائد، ولم يلحظ اللغويّون ذلك، في ما نعلم، إلاّ أنّه موجود في أسماء الأَعلام التي على وزن فَعّال. فقد افترق علماء اللغة في الأصل الذي اشتُقّ منه اسم «حسّان»، مثلًا، فذهب بعضهم إلى أنّه الجذر «حسن» الدالّ على الحُسن أو التحسين أو الإحسان، وذهب أكثرهم إلى أنّه الجذر «حسس» الذي يدلّ على القتل والاستئصال والإبادة والإذلال وما أشبه ذلك، حتّى سفّهوا المذهب الأوّل فقال ابن سيده فيه :« ليس بشيء». وأصحاب المذهب الأوّل يصرفون الكلمة لأنّ نونها أصليّة عندهم، كنون فَتّان ولَبّان، فهي على وزن فَعّال، المستعمل للمبالغة أو لصاحب الحرفة، على حين يَمنع أصحاب المذهب الثاني الكلمة من الصرف بقولهم إنّ النون زائدة كنون عُثْمان وعِمران.

وقد غلب المذهب الثاني حتّى لم يكد يدع مكانًا للمذهب الأوّل؛ ولذلك لا نجد في ما بين أيدينا من الكتب المحقّقة في الدين والأدب واللغة اسم حسّان إلاّ ممنوعًا من الصرف؛ ومن الطريف أنّهم في تحقيقهم لسنن البيهقيّ، مثلًا، شكلوا بالحركات أسماء إحدى سلاسل الإسناد على الوجه الآتي :«عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ حَسَّانَ بْنِ أَبِي وَجْزَةَ»، أي منعوا اسم حسّان من الصرف، لكنّهم بعد قليل، عند شكلهم لتخريج المصنّف للحديث جعلوا إعجام كلامه على هذه الصورة: «وَقَدْ سَمِعَ مُجَاهِدٌ الْحَدِيثَ عَنْ عَقَّارٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْهُ، فَأَمَرَ حَسَّانًا فَحَفِظَهُ لَهُ»، أي صرفوا اسم حسّان، ولم يلحظوا أنّ ذلك يقتضيهم صرفه في السلسلة الأولى، أو أن يفعلوا العكس، لا أن يجمعوا بين الصرف ومنعه في وقت معًا.

ومن الذين مالوا إلى صرف حسّان المبرّدُ؛ إذ روى حديثًا نبويًّا يقول :إِنَّ اللهَ مُؤَيِّدٌ حَسَّانًا بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا نَافِحَ عَنْ نَبِيِّهِ . ونجد النصّ نفسه تقريبًا في كتب الحديث، لكن بمنع حسّان من الصرف، وهو على هذه الصورة: إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ حَسَّانَ بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا يُفَاخِرْ أَوْ يُنَافِحْ عَنْ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وهذا يدلّك على أنّ رواية الحديث النبويّ ليست بالضرورة أخذًا حرفيًّا عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولا التزامًا بأساليبه اللغويّة، بل هي أشبه ببعض القراءات القرآنيّة، في كونها وجهة نظر لغويّة للقارئ أو الراوي، ولاسيّما إذا كان من النحاة. وهذا مقبول إذا كان الراوي عالمًا في اللغة، أو كانت لغته صافية أو شبه صافية، مع أنّه قد يؤثّر أحيانًا في مضمون الحديث، لكنّه يصبح غير مقبول حين يكون الراوي أو الناسخ جاهلًا للّغة وتعتور أسلوبَه العجمة، وحينئذ قد تجد عجائب في نصّ الحديث، ولذلك لا تُسئْ الظنّ بالنبيّ (صلى الله عليه وسلم) ولا بالصحابة (رضي الله عنهم) إذا ثقفت في بعض أحاديثهم افتقارًا إلى الفصاحة، أو أحيانًا إلى سلامة اللغة، بل ظُنَّ فيهم ما هم أهله، واعلم أنّ العيب في الرواة لا فيهم، وبين رواته أعاجم كثيرون.

ولا شكّ في أنّ المذهب الأوّل، أي غير السائد، هو الأكثر إقناعًا من حيث الكلام على الاشتقاق؛ فصحيح أنّ لفعل حَسَّ معنى القتل، كالذي في الآية الكريمة: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ، وأنّ العرب القدماء ربّما سمّوا بعض أبنائهم بما يسوء الأعداء، مثل ظالم ومؤرِّق وطارق، فليس مستبعدًا أن يسمّوهم بما يدلّ على القتل؛ لكنّ الصحيح أيضًا أنّ اسم حسّان لا يوحي إلاّ معنى الحُسن أو التحسين أو الإحسان، ويغلب على الظنّ أنّ ذلك هو ما هجم على أصحاب المذهب الثاني، لكنّهم وجدوا شعراء مثل الأَعْشى والخَنْساء وحَسّان بن ثابِت يمنعون حَسّان من الصرف، ولا يُمنع العلم المذكّر المختوم بألف ونون من الصرف، عندهم، إلاّ إذا كانت هاتين زائدتين، مثل حَيّان، فافترضوا أنّ أصل حسّان هو الحَسّ وأنّ النون زائدة، وليست أصليّة كنون فَتّان؛ ولذلك ذهبوا إلى معنى القتل الذي في الحسّ، سواء أجهدوا أنفسهم في استنتاج ذلك، أو سارع ذلك إلى خاطرهم لحفظهم القرآن الكريم.

وأصحاب ذلك المذهب - وهم محقّون في المنع من الصرف، ومخطئون في القول بمعنى القتل - لم يتوقّفوا عند اسم غسّان، مثلًا، وهو ممنوع من الصرف بالإجماع، مع أنّهم حاروا في أصله، فردّوه مرّة إلى الجذر غسس الدال على الضعف والفساد والدخول في البلاد وأشباه ذلك، وردّوه مرّة أخرى إلى الجذر غسن الدالّ على خصل الشعر أو جدائله أو على الجَمال والشباب بعامّة، ويقول ابن منظور فيه: «إن كان فَعْلانَ فهو من باب غَسَّ»، «وإن كان فَعّالًا فهو من باب غَسَنَ»، من غير أن يشير إلى صرفه أو إلى منعه من الصرف. وقد ذكر ابن سيده في المجمل، في باب غسس، أن غسّان اسم قبيلة، وشرح معنى غسّان في باب غسن أيضًا من غير الإشارة إلى كونه اسم جدّ لقبيلة، ربما تحاشيًا للقول بجواز صرفه. ومثل غسّان زَبّان الذي يمنعونه من الصرف، غالبًا، مع أنّهم يحتملون ردّه إلى أصلين: الزبب، وهو كثرة الشعر في الذراعين والجفنين والحاجبين، والزَّبْن وهو الدفع والصدم؛ وقد قال ابن منظور فيه: «فمن جعل ذلك فَعّالًا من زَبَنَ صرفه، ومن جعله فَعْلانَ من زَبَّ لم يصرفه». على أنّ النابغة الذبيانيّ منعه من الصرف في شعره.

كما أنّهم لم يتوقّفوا عند اسم عَدْنان، وهو أيضًا ممنوع من الصرف بالإجماع، وهم لا يصرفونه مع أنّهم يردّونه إلى العَدْن، وهو الاستقرار في المكان، وأكثر ما يقال للإبل. فحقّ عدنان الصرف لأنّ نونه أصليّة.

ولم يعرضوا لاسم زَيّان قطّ - وهو أيضًا ممنوع من الصرف - هل هو من الزَيّ أي الجمع، أو الزِيّ أي اللباس والهيئة، أم من الزينة والتزيين.

وكلّ ذلك يسمح بالاستنتاج أنّ العرب تميل إلى منع أسماء العلم المذكّرة من الصرف إذا انتهت بألف ونون، وكانت على وزن فَعْلان أو أوهمت أنّها عليه؛ أي سواء كانت نونها زائدة أو أصليّة؛ فما كان منها على وزن فَعْلان حقًّا فهو يُشبّه بالصفات التي على هذا الوزن ممّا مؤنثه فَعْلى، مثل غضبان، غَضبى، وهو ممنوع من الصرف، وقد يشبّهون بتلك الصفات ما كان على وزن فُعلان وفِعلان أيضًا مثل عُثمان وحِطّان. أمّا ما كان على وزن فَعّال منتهيًا بنون أصلية فيشبهونه، في تقديرنا، بما نونه زائدة، فلا يصرفونه. وما عدا ذلك جدل قليل الفائدة.
-------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

 

مصطفى عليّ الجوزو*