شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

أول هزيمة للإنجليز في مصر...!

ضرب الجنرال فريزر الأرض بقدميه... وصاح في غضب هائل:

- أيمكن أن يحدث هذا يا جنرال ويكوب? أتنهار قوات الأسطول الإنجليزي أمام بضعة من أصحاب الجلاليب الزرقاء, بينما جاء قبلي بسبع سنوات الأميرال نيلسون بأقل من عدد سفننا ليقضي في أبي قير على كل سفن أسطول بونابارت, بينما قطع أسطولنا الإنجليزي يتجاوز عددها خمسا وعشرين سفينة حربية وستة آلاف مقاتل?!

وهزّ ويكوب رأسه في اضطراب وهو يقول لقائده:

- لقد كنا نعتمد قبل مجيئنا إلى مصر على قوات مماليك الألفي بك التي أعدها لمعاونتنا في إتمام الاحتلال والقضاء على أي مقاومة تعترض تقدمنا, وكنا نعتقد أننا فور وصولنا سيهب المماليك جميعاً لمساندتنا ومعاونتنا كما وعدنا الألفي بك.
وردّ الجنرال فريزر بعنف:

- نسيت أن الألفي بك قد مات قبل وصولنا وتفرق مماليكه وقواته, وهانحن نواجه بالفلاحين المصريين يقفون في مواجهتنا, بينما لا توجد قوة نظامية أمامنا وقد صحبها كلها معه الوالي الجديد محمد علي ليحارب المماليك الهاربين في الصعيد, ماذا تريد أكثر من ذلك لتقضي على مقاومة أهل رشيد لتتقدم منها إلى الإسكندرية بعد أن اشترينا بالرشوة حاكمها التركي أمين أغا وسلم لنا نفسه كأسير حرب تاركاً مدينته بلا سلطان لأن محافظها يتبع الحكومة العثمانية دون الوالي الذي تتبعه بقية أراضي مصر?!

ولم يجد القائد الإنجليزي مساعد الجنرال فريزر إلا أن يسكت ويعد قائده بأن يقضي على رشيد كلها ويقلبها رأساً على عقب...!!

المقاومة الشعبية

كانت الحقيقة التي سجلها التاريخ هي أن المصريين حين علموا بوصول الحملة الإنجليزية عام 1807 تآلفوا وتضامنوا واجتمع زعماؤهم بقيادة السيد عمر مكرم زعيم الأشراف وقرروا أن يثيروا الشعب بجميع طوائفه ليقف صفاً واحداً متراصّاً أمام الخطر الجديد الذي يتهدده. وليتعاون للقضاء على المستعمر البريطاني كما تعاون في الماضي فقضى على المستعمر الفرنسي وسحق قواته وألزمه بالجلاء.

وكانت خطة الإنجليز - كما يروي المؤرخون - أن يحتلوا ثغور مصر ويزحفوا إلى الداخل, وأن يحتلوا في البداية مدينة رشيد ليتخذوها قاعدة حربية, ولكن المقدمة التي قادها الجنرال ويكوب ضربتها المقاومة الشعبية وأنزلت بها خسائر كبيرة, وإن كان علي بك السلانكلي محافظ رشيد آنذاك رجلاً شجاعاً ثاقب النظر وتوقع أن يعيد الإنجليز الكرة بقوة أكبر, فقد اعتزم بالتخطيط مع نقيب الأشراف على كفاح الإنجليز بالمقاومة الشعبية, وأوهم قنصل إنجلترا في رشيد بعجز أهلها عن القتال مرة أخرى, وليس أمامهم سوى الاستسلام. وبأمر منه اعتصم الأهالي في المنازل وخلت الشوارع, وهو ما أغرى الإنجليز على التوغل في المدينة مطمئنين بعد أن أعياهم السير من الإسكندرية إلى رشيد في حماية سفن الأسطول التي سارت على السواحل. وانتشر الإنجليز المنهكون في الأسواق حتى إذا اشتملتهم المدينة, أمر علي بك السلانكلي حسب إشارة متفق عليها مع الأهالي على إطلاق النيران من النوافذ والسطوح. فاستولى الذعر على نفوس الإنجليز وسقط الكثير منهم صرعى ولاذ الآخرون بالفرار, ولم يتصوّر فريزر بعنجهيته الإنجليزية كيف يهزم جيشه بواسطة الفلاحين الحفاة فصمم على أن يثأر لهزيمته وعاود الزحف على رشيد.

حوصرت رشيد في هذه المرة وأخذ الإنجليز يضربونها بمدافع الأسطول بشدة رهيبة, مما أدى إلى تهدم الكثير من بيوتها وموت كثير من أهلها بفضل القنابل المتساقطة. هنا أرسل نقيب أشراف رشيد الرسائل إلى السيد عمر مكرم يستنجده ويطلب منه إمداد المدينة بالرجال والعتاد. فقرأ عمر مكرم الرسالة على أهالي القاهرة وحضّهم على التطوّع لنجدة أبطال رشيد. فاستجابوا له وحملوا السلاح واستعدوا للسفر لنجدة إخوانهم على الرغم من أن نائب محمد علي بالقاهرة لم يأذن لهم بالسفر حتى يعود الباشا الذي كان يتباطأ في العودة من الصعيد انتظاراً لما سيسفر عنه الموقف...?

ولم يعبأ الكثيرون بذلك وسافروا لنجدة أهالي رشيد في الوقت الذي تطوع فيه أهالي البحيرة كذلك ومعهم أهالي البلاد المجاورة, وأقبل الجميع ليظاهروا المقاومة الشعبية في مظهر للتضامن القومي والاشتراك في حمل أعباء الجهاد ساعة الخطر.

كان ظن فريزر أن ضرب رشيد بالمدافع سيلقي الرعب في نفوس أهلها فيضطرون إلى التسليم. وبالرغم من إنذاره لهم أكثر من مرة فإنهم لم يسلموا بعد أن كان نصرهم السابق قد بعث في نفوسهم الحمية والحماسة مما جعلهم يصممون على الاستبسال في الدفاع عن المدينة بالرغم مما أحدثته القنابل من تخريب وما تسببت فيه من القتل. وكان الأهالي الذين أبدوا الكثير من الشجاعة ورباطة الجأش يخرجون من المدينة من آن لآخر لمناوشة القوات الإنجليزية, واستمر الضرب والحصار نحو اثني عشر يوماً دون أن يصل الإنجليز إلى شيء! بل إن رجال المقاومة الشعبية أخذوا يناوشون مواقع الإنجليز في الحماد, فأنفذ إليها الجنرال فريزر مدداً من الجند. وركب المصريون من جانبهم مدفعين على الشاطئ الشرقي للنيل لضرب الإنجليز, وفي إبان ذلك ظل الناس يتوافدون على رشيد من شتى بقاع الوجه البحري وقد اشتروا أسلحة جديدة وتنادوا بالجهاد, وكثر المتطوعون ونصبوا لهم بيارق وأعلاماً, وجمعوا المال من الأثرياء وأنفقوه على من انضم إليهم من الفقراء, وخرجوا في مواكب وطبول وزمور, فلما وصلوا إلى استحكامات الإنجليز دهموهم من كل ناحية وصدقوا في الحملة عليهم واختلطوا بهم وأرهبوهم بالتكبير والصياح حتى أوقفوا رميهم ونيرانهم.

ولم يجد الإنجليز من بقية قوات الحملة إلا أن يطلبوا الأمان, فلم يؤبه لهم وقبض عليهم وذبح الكثير منهم, وأرسل أسراهم ورءوس قتلاهم إلى القاهرة. وفر الباقون إلى الإسكندرية بعد أن جلوا عن رشيد وأبي منصور والحماد. ولم يزل المقاتلون من أهل القرى وراءهم حتى غنموا أسلحتهم ومدافعهم وتساقط الغزاة صرعى. ودبّ الرعب في صفوفهم فجعلوا يتخبّطبون حيارى والرصاص يطارهم وذوو الجلاليب يقبضون عليهم بالأيدي كما لو كانوا دجاجات هاربة.

أما من الذي قابل جحافل الجيش البريطاني المهزوم وأطبق عليهم كالقضاء المحتوم... فاقرأ معنا ما قاله الجبرتي:

(وفي 12 محرم سنة 1222هـ. (29 مارس 1807) ورد مكتوب من أهالي دمنهور إلى السيد عمر مكرم النقيب مضمونه أنه لما دخلت المراكب الإنجليزية الإسكندرية هرب مَن كان بها من العساكر التركية, وحضروا إلى دمنهور. فعندما شاهدهم الكاشف وهو الحاكم الكائن بدمنهور ومَن معه من العسكر انزعجوا انزعاجاً شديداً وعزموا على الخروج من دمنهور, فخاطبهم أهل الناحية قائلين لهم: كيف تتركوننا وتذهبون وقد كنا فيما تقدم من حروب الألفي من أعظم المساعدين لكم, فكيف لا يساعد الآن بعضنا بعضاً في حروب الإنجليز? فلم يستمعوا لقولهم لشدة ما بداخلهم من الخوف, وعبّوا متاعهم وأخرج الكاشف أثقاله ومدافعه وتركها وهرب إلى (فوة) من ليلته ثم أرسل ثاني يوم مَن أخذ الأثقال).

والجبرتي خير من يصف انتصار الشعب حين يقول:

(وكثر المتطوعون ونصبوا لهم بيارق وأعلاما, وجمعوا من بعضهم دراهم وصرفوا على مَن انضم إليهم من الفقراء. وخرجوا في مواكب وطبول وزمور, فلما وصلوا إلى متاريس الإنجليز دهموهم من كل ناحية, وألقوا بأنفسهم في النيران ولم يبالوا بالرمي, وهجموا على الإنجليز واختلطوا بهم وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتى أبطلوا رميهم ونيرانهم, فألقوا سلاحهم وطلبوا الأمان).

وهكذا انجلى شبح الاستعمار وقهر جيشه ففرّ خاسراً إلى بلاده, وسجل العالم أن مصر لا تموت أبداً, وأنها إذ تبتلى في رجالها وحياتها تعد لمستقبل خطير لتطل على العالم من جديد, وتقوده إلى السلام.

 

سليمان مظهر