إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي

بداوة (ياباني)!

صديقي ساتوشي, باحث ياباني شاب مولع بقيم البداوة العربية, تعلم على أستاذه المستعرب الكبير نوتاهارا, الذي ترجم إلى اليابانية الكثير من روائع الأدب العربي. وبعد أن جال في أرجاء الوطن العربي الكبير لسنوات طويلة, يمم نوتاهارا نحو الصحراء حيث الحرية بلا حدود, وجمال الطبيعة الأخّاذ عند هطول مطر ربيعي.

حين كنا نلتقي في مكتبه بجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية, وفي مناسبات ثقافية متفرقة, كان يدفع الحديث نحو فضائل البداوة التي لا تنتهي لديه. وكان مقتنعا بأن الحداثة العربية أخطأت حين حاولت إبدال ما هو إيجابي من قيم البداوة بأخرى أوربية أعطت ثماراً مرة, لأنها زرعت في أرض غير صالحة لنموها, فلن يستقيم مسار الحداثة العربية - برأيه - إلا بإقامة تفاعل حرّ بين الموروث الإيجابي للبداوة ومتطلبات الحداثة من تكنولوجيا متطورة, وعلوم عصرية, ونظم ديمقراطية حديثة.

أخذ الشاب ساتوشي الكثير من آراء أستاذه في حبه لقيم البداوة حين بدأ رحلة التخصص الطويل في اللغة والآداب العربية انطلاقا من مصر وبلاد الشام, وقد جمعنا أكثر من لقاء حين كان يزورني في مكتبي بجامعة طوكيو حاملا دوما نسخة من كتابي (المشرق العربي المعاصر: من البداوة إلى الدولة الحديثة), كان يدخل في أدق التفاصيل, على غرار جميع الباحثين اليابانيين, لأنه أراد التعمق في معرفة نظام البداوة من مختلف جوانبه في جميع مظاهره, وكثيرا ما كان يبدي إعجابه بقدرة المجتمع البدوي على الخروج من الأزمات الاقتصادية التي واجهته إبان سنوات الجفاف, والغزو, وعمليات الثأر. فحروب الصحراء تنتهي بالحد الأدنى من الخسائر البشرية لأن التقاليد البدوية تحرم القتل إلا لضرورات الدفاع عن النفس, ولا تتسامح مع مَن يتسبب به. وقد أظهر المجتمع البدوي قدرة هائلة على التماسك والتجدد في أحلك الظروف والمحن. لقد بدا لي صديقي ساتوشي مقتنعا تماما بتلك القيم الإيجابية, وأنه سيلمسها في وجه كل عربي حين يزور الواحات أو البوادي أو القرى العربية ويلتقي بسكانها.

أخيراً, التقيت ساتوشي في بيروت في أواخر شهر مايو 2002, وبعد أن رافقته في جولة على بعض المناطق اللبنانية الجميلة, بدا لي حزينا, صامتا, رغم كل مظاهر الحفاوة البالغة التي لقيها في لبنان, وحين سألته عن سبب حزنه, أجاب بخجل ياباني مألوف: أتذكر أحاديثنا عن قيم البداوة العربية? قلت: طبعا?
قال: وهل تعتقد أنني مازلت على اقتناع بها? قلت: وما الذي دعاك إلى تغيير ذلك الاقتناع الذي كان راسخا?

تنهّد عميقا, وبعد أن بلل الدمع وجنتيه, قال: لقد هزّتني مأساة صديقي تاكو هيموري, كان رجلا يابانيا رائعا في الخامسة والأربعين من عمره, كان من أبرز الناشطين في اليابان لسلام عادل ينهي مأساة شعب فلسطين, ولما فجع بهجوم شارون على المدن والمخيمات الفلسطينية, وارتكابه لمجزرة جنين أمام ذهول العالم وعدم مبالاة العرب لم يجد طريقة للتعبير عن غضبه إلا بالانتحار على الطريقة اليابانية, فصبّ الوقود على نفسه وأشعل النار بجسده في بادرة احتجاج ضد كل من يبقى متفرجا على مأساة شعب صغير يذبح على مرأى من إخوانه الكبار, وأدعياء الحرية, والديمقراطية, والعدالة, وحقوق الإنسان في هذا العالم, فأين هي قيم البداوة التي تحدثتم عنها في كتبكم التاريخية ورواياتكم الأدبية?

 

مسعود ضاهر