كيف يعاد تشكيل صورتنا المشوّهة?

كيف يعاد تشكيل صورتنا المشوّهة?

قضايا عامة

عندما تحدث هنتنجتون عن الصدام الحتمي بين الإسلام والغرب, لم ينطلق من فراغ, ولكنه كان تلميذا وفيا لتراث من الفكر والعمل الاستشراقي بكل ما فيه من مواقف عدائية ضد الإسلام والعرب.

بدأت صورة العرب والإسلام تتشكّل في العصر الحديث في الغرب من خلال عمل المستشرقين, الذي استهل منذ أواخر القرن الثامن عشر في أوربا مع بداية الحملات الاستعمارية الأوربية على الشرق, ومازال مستمرا حتى اليوم في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية التي انتقل إليها بصيغ مختلفة بعد الحرب العالمية الثانية. والاستشراق, كما وصفه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق Orientalism (1978) (أسلوب غربي للسيطرة على الشرق وإعادة صياغته وممارسة السلطة عليه). وقد أظهر سعيد في هذا العمل المبدع كيف تمثلت في دراسات المستشرقين آفات الاستعلاء والعنصرية والإمبريالية, وبيّن العلاقات بين المعرفة والقوة والسيطرة للبرهان على عدم إمكان فصل السياسي والاقتصادي عن الثقافي. فعدد كبير من الباحثين المستشرقين كانت لهم مناصب سياسية في دولهم في زمن الاستعمار الغربي للشرق أو في المستعمرات البريطانية والفرنسية بالأخص, ولطالما كان ومازال لرؤاهم وأبحاثهم الأثر الكبير في تشكيل السياسات الخارجية للدول الغربية تجاه الدول العربية والإسلامية, فضلا عن أن الصورة السلبية التي رسمها المستشرقون للعرب والإسلام مازالت شديدة الرسوخ في الذهن الشعبي الغربي لأنها استندت إلى جذور دينية عميقة في الوجدان الغربي, إذ صوّروا الإسلام على أنه المنافس للمسيحية. وكشف سعيد أن ادعاءات المنهجية والروح العلمية في دراسات المستشرقين ليست في حقيقة الأمر سوى مواقف أيديولوجية معادية للعرب والإسلام.

صورة مشوهة

وإذا أخذنا في الاعتبار أن عدد الكتب التي تتناول الشرق الأدنى التي وضعت بين عام 1800 وعام 1950 تقدّر بستين ألف كتاب, كما يذكر إدوارد سعيد, وأن الكمّ الهائل من الكتب مازال يكتب إلى يومنا هذا بالروح العدائية نفسها, بل أكثر بكثير بعد إنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين وتأجج الصراع العربي - الإسرائيلي بسبب ما قامت به إسرائيل وجماعات الضغط الصهيونية وما يقومون به من عمل في الساحات الثقافية والإعلامية الغربية لتزوير التاريخ وتشويه صورة العرب بالاعتماد خاصة على تراث المستشرقين, وأن تلك الصورة المشوّهة هي السائدة حتى اليوم في الكتب المدرسية والمناهج التعليمية في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية, والدور الذي لعبته وتلعبه الصحافة الغربية الواقعة عموما تحت السيطرة الصهيونية, في تناولها قضية هذا الصراع وغيرها من القضايا العربية والإقليمية, وأن وسائل الثقافة والاتصال الحديثة في الغرب ثبّتت الصورة النمطية والاختزالية والسلبية التي رسمها الاستشراق للعرب والإسلام في السينما والتلفزيون والوسائل الإلكترونية الإعلامية, وفي السنوات الأخيرة في شبكات الاتصال المعلوماتية (الإنترنت), وإذا أضفنا إلى ذلك الغياب التام لسياسة ثقافية إعلامية عربية موجّهة إلى الغرب لإعادة تشكيل صورة حقيقية مشرّفة للعرب والإسلام, وللردّ على حملات التشويه الموجّهة إلى العرب, أمة وثقافة وحضارة ودينا, لأدركنا أبعاد المأزق الذي حُشر فيه العرب في العصر الحديث والوضع التاريخي الخطير الذي لابدّ أن يعوا أنهم يواجهونه.

هذا الوضع الخطير والدقيق لا يمسّ العرب في صورتهم - ثقافة وحضارة فحسب - بل يصل إلى وجودهم ذاته, فقد أصبحت الصورة معادلة للوجود. ولئن برز الخطر المحدق بهم اليوم بعد أحداث 11 سبتمبر المأساوية في الولايات المتحدة بصورة أكثر جلاء وعنفا, فإنه ليس جديدا. فالصورة المشوّهة التي نجحت إسرائيل وجماعات الضغط الصهيوني في الغرب في رسمها للفلسطينيين العرب, وقدرتها على تشويه الحقائق وتزوير التاريخ, وتصوير ذاتها بصورة الضحيّة والفلسطينيين بالمعتدين, في ضوء فراغ شبه تام في الساحة الثقافية والإعلامية الغربية من وجود عربي مضاد, مخطّط ومنظّم وفاعل, قادر على رسم الصورة الحقيقية المشرقة للعرب وللثقافة العربية والإسلامية التي مازالت إسرائيل تنفرد في رسمها, تسمح اليوم لها بأن تستمر في احتلالها للأرض الفلسطينية والعربية, وتثبيت الاحتلال ببناء المستعمرات في الأراضي المحتلة, وأن تواصل عدوانها على الفلسطينيين بقتل المدنيين وهدم البيوت واقتلاع الأشجار, وأن تضرب عرض الحائط بالقرارات الدولية دون أن يحرّك العالم ساكنا. ويكفي أن يحدث عمل إرهابي في الغرب لتوجّه أصابع الاتهام مباشرة إلى العرب بلا برهان, وكم تبيّن أن أعمالا إرهابية اتهم فيها عرب ومسلمون لم تكن من صنيعهم. واليوم بعد أحداث نيويورك وواشنطن الرهيبة يوجّه الغرب الاتهام إلى العرب والإسلام, ويسمح لنفسه, وهو الخصم والحكم, بالاقتصاص من الفاعلين المفترضين لفعلة 11 سبتمبر بتهمة الإرهاب. وتبدو الحرب على أفغانستان وكأنها ليست سوى بداية لحملة لا تُعرف نهايتها ضد قائمة تطول يوما بعد يوم لما يسمّى بالمنظمات الإرهابية وللدول المتهمة بإيواء تلك المنظمات.

نبوءة هنتنجتون

إن الاعتداءات على نيويورك وواشنطن وما تبعها مباشرة من اتهام العرب والإسلام بالإرهاب والعنف والوحشية أعادت بقوة إلى التداول مقولة هنتنجتون في الصدام بين الحضارات والصراع الثقافي بين الإسلام والغرب. وكتب بعد تلك الاعتداءات مقالات عدة في الصحف الغربية تثني على (نبوءة) هنتنجتون ورؤيته المبكّرة لذلك الصراع الذي أصبح في الذهن الغربي, الرسمي صاحب القرار والشعبي على حدّ سواء, المشبع بالصورة السلبية للعرب, أصبح بمنزلة الحقيقة التي لا تقبل الجدل. واعتبرت أحداث 11 سبتمبر دليلا قاطعا على صدق تلك (النبوءة) وبرهانا على صحة نظرية هنتنجتون.

واليوم وقد قرّر الغرب شنّ الحرب على ذلك (الآخر) المتهم بالإرهاب, وفي ضوء توجيه الاتهام إلى العرب والإسلام, والتشويه المتزايد الذي تتعرض له صورة العرب وصورة الإسلام في الغرب, أما آن الأوان للعرب أن ينهضوا للدفاع عن وجودهم في المحلّ الأول, وإلى ردّ الاعتبار إلى الحضارة العربية والإسلامية وتصحيح الصورة المشوّهة التي رسمها للعرب وللإسلام تراث من الفكر الغربي الإمبريالي الساعي إلى الهيمنة, والدراسات المغرضة طوال ما يزيد على قرنين من العمل الاستشراقي المعادي?

لعل الأحداث التي تعصف بالعالم منذ 11 سبتمبر, وما نتج عنها من حملات الهجوم على العرب والإسلام والإمعان في تشويه صورتهم, ومواقف الازدراء والتحامل على الحضارة العربية والإسلامية, على ضررها, تكون نافعة في إيقاظنا إلى حتمية النهوض إلى الدفاع عن وجودنا نحن العرب, وعن حضورنا التاريخي والثقافي والحضاري بين الأمم, وعن دورنا المنشود في خريطة المستقبل البشري, ولعلنا ننظر أول ما ننظر إلى المعوّقات التي جعلتنا حتى اليوم أسرى الأزمة الثقافية والحضارية التاريخية التي نواجهها, مكبّلين وغير قادرين على الفعل ولا حتى على ردّ الفعل. إن المأزق التاريخي الخطير الذي نعيش يحتاج من أبناء أمتنا جميعا, مثقفين ومفكرين وتربويين ومسئولين أصحاب قرار, إلى وقفات من التأمل الجدّي العميق والجريء, لنضع الإصبع على مكمن الداء في حياتنا السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية والاجتماعية, ونعالجه بآخر الدواء, كما قال العرب, بالكي والمبضع, لا بالمسكّنات والطلاء الزائف.

ولاشك في أن وعينا للمعوّقات والآفات التي تعاني منها حياتنا العربية والتي تمنعنا من أن نكون جزءا من العصر الحديث, فاعلين فيه, وسعينا الحثيث للنهوض من كبوتنا التاريخية الحضارية, هما شرط أساسي لتغيير صورتنا في الخارج. لكن العمل الجدّي لإعادة صياغة تلك الصورة مطلوب اليوم لا يحتمل الانتظار حتى ننتهي من ترتيب البيت الداخلي, فلابدّ من عمل متواز في المسارين معا. ولاشك في أن النخبة العربية من المثقفين والمسئولين أصحاب القرار أصبح لزاما عليها أن تتحمّل مسئوليتها التاريخية, ولطالما كان التغيير في تاريخ الأمم والحضارات من عمل النخب المستنيرة.

تغيير الصورة

من هذا المنطلق يتوجّب علينا طرح عدد من الأسئلة الملحّة: كيف نعمل على تغيير صورة للعرب والإسلام في الغرب رسّخها على مدى ما يزيد على قرنين من الزمن تراث من الفكر الاستشراقي المعادي والدعاية الصهيونية الخبيثة في ظل غياب عربي شبه تام عن الساحات الثقافية والإعلامية الغربية? وكيف نقدّم إلى الغرب المتحامل الصورة الحقيقية لثقافتنا وحضارتنا العربية والإسلامية لنزيح الصورة المشوّهة الراسخة في الذهن الغربي? وما هي الفلسفة الموجّهة للعمل العربي المنشود?

نبدأ بالقول إن القضية التي نتناول ذات وجهين ملتحمين: سياسي وثقافي إعلامي. وقد أصبح أمرا حتميا وجليّا عدم إمكان الفصل بين السياسي والثقافي, كما لا يمكن نكران حقيقة لم تعد تقبل الجدل وهي حتمية الربط بين الثقافي والإعلامي. ولعله يستنتج من أطروحة هنتنجتون, التي أصبحت المبدأ الموجّه للسياسة الخارجية للغرب وللولايات المتحدة بخاصة, أن الصراعات السياسية ذات مضمون ثقافي, بل إنه ثقافي بالدرجة الأولى. كما يستنتج مبدأ خطير الأهمية, هو أن الصراع ليس بين دول لكنه بين مجموعات ثقافية وحضارية. من هنا يستنتج أن الردّ على المقولة الهنتنجتونية, وقد أصبحت مؤطرا ثابتا للرؤية السياسية الغربية, لابد أن يكون بالمنطق نفسه الذي تطرح, منطق التحام السياسي بالثقافي, ومنطق المجموعات الثقافية والحضارية الواحدة والمتجانسة.

إن العمل المطلوب من العرب النهوض له اليوم للحفاظ على وجودهم في المحلّ الأول, وضمان مستقبلهم وحضورهم المشرّف في خريطة الغد البشري, والدفاع عن ثقافتهم وحضارتهم في وجه حملات التشويه المغرضة إحقاقاً للحقّ ووفاء لتاريخ مشرق ورفعا لظلم غاشم, هذا العمل يتحتّم, أن يتجاوز القطري إلى القومي, لا بمنطق التاريخ المشترك والثقافة الواحدة والحضارة الواحدة والمصلحة المشتركة فحسب, بل أيضا بالمنطق الذي يفرضه الغرب علينا اليوم من خلال طروحاته وأطروحاته, ويفرضه التوجه الدولي السائد إلى تشكيل التكتلات الإقليمية الكبرى. فالعمل العربي المشترك هو السبيل الوحيد في المرحلة المقبلة, وهو الإطار الموجّه للفعل العربي على الساحة الدولية.

غير أن شرط النهوض بعمل مجد في الخارج هو التنسيق العربي للتوجهات والسياسات المؤدية إلى العمل المشترك على الجبهة الدولية, من سياسات تربوية وثقافية وإعلامية, بل توحيد هذه السياسات.

والحق أن إخفاقنا إلى اليوم حتى في التنسيق العربي في هذه المجالات كان مفجعا. فقد استطاعت أوربا, في إطار الاتحاد الأوربي, أن ترسم خطوطا جديدة للعمل تكون بموجبها المجموعة الأوربية هي القائمة على رسم السياسة الثقافية الأوربية لا كل دولة على حدة, رغم الاختلافات اللغوية والثقافية فيما بينها, إذ تزامنت مع عملية التكامل الاقتصادي الأوربي عملية وضع برامج على مستوى القارة الأوربية في التربية وسياسات لحماية التراث الثقافي الأوربي المشترك والفضاء السمعي والبصري الأوربي في وجه عمالقة الصناعات السمعية والبصرية والاتصالية الأمريكية واليابانية, فيما لم تصل الدول العربية بعد حتى إلى التنسيق بين سياساتها التربوية والثقافية والاتصالية. ولعل سببا رئيسيا في ذلك الإخفاق هو أن العمل الثقافي والتربوي العربي المشترك ظل معزولا عن القرار السياسي العربي المشترك.

إن الوصول إلى رسم سياسة عربية تربوية وثقافية موحّدة في إطار رؤية عربية للتنمية الشاملة أصبح اليوم أمرا حتميا, سياسة تزاوج بين القيم الأصيلة في حضارتنا العريقة والقيم الإنسانية الكبرى في الحضارة البشرية كالحرية والعدالة والتسامح والمساواة بين البشر وتوفير المناخات الملائمة للنهوض بالإنسان وتفتيق طاقاته وتحقيق إمكاناته لينعم بحياة كريمة. هذه السياسة العربية التربوية والثقافية الموحّدة لا بد أن تنطلق من مبدأ أساسي هو أن الإنسان هو المحور والهدف, وأن التنمية البشرية أساس للتنمية الشاملة في المجتمع.

من أجل خطة قومية

من هذا المنطلق يمكن أن نتوجه إلى وضع خطة قومية للتعريف بالثقافة والحضارة العربية والإسلامية وإعادة صياغة صورة العرب والإسلام في الغرب, خطة تستند إلى سياسة ثقافية عربية موحّدة قادرة على نقل الصورة الحقيقية التي تتجلّى فيها ثقافتنا المعاصرة وتقديم صورة مشرّفة لتراثنا, خطة قائمة على دراسة صورة الثقافة والحضارة العربية والإسلامية في الغرب من مصادرها المختلفة منذ الدراسات الاستشراقية حتى مواقع الإنترنت, وعلى فهم عميق ومتأنّ للثقافة الغربية والعقلية الغربية, وعلى رؤية نقدية مثقفة ومسئولة لحضارة هذه الأمة العريقة بتجلياتها المشرقة ومضامينها الإنسانية الأصيلة. هذه الخطة تفترض إدراك الالتحام بين الثقافة والإعلام وتؤكد المضمون السياسي, بمعناه الواسع, للعمل الثقافي والإعلامي أو لما يمكن أن ندعوه بالإعلام الثقافي.

والإعلام الثقافي هو إيصال صور الثقافة وتجلّياتها وكيفيّات تجسّدها إلى الآخر, وهذا أمر عظيم الأهمية. إننا هنا نتحدث عن مضمون وأسلوب: مضمون ثقافي وحضاري وأسلوب تصويري وتمثيلي وتجسيدي. وسأعطي مثالا قريب العهد على ما أذهب إليه, حين قامت حكومة (طالبان) في أفغانستان بهدم تراث تاريخي إنساني متمثل في التماثيل البوذية الرائعة في بانيان متذرعة بتحريم الدين الإسلامي للتماثيل, أصبحت هذه الحادثة هي القضية الأم في وسائل الإعلام الغربية, وتمّ القفز من هذه الحادثة المحدودة والفريدة في التاريخ إلى إدانة الدين الإسلامي نفسه والحضارة الإسلامية بأسرها استجابة للصورة المغروسة في الخيال الغربي للإسلام والثقافة الإسلامية. وقد سادت في دراسات المستشرقين مقولة تحريم التصوير في الإسلام, ولم يستطع المستشرقون إدراك الأبعاد الحضارية والأجواء الروحية والنفسية التي جعلت الشعوب الساميّة والحضارات التي نشأت في هذه المنطقة في فترات تاريخية محددة, تتجه إلى الأساليب الفنية التجريدية في الفنون التشكيلية وترفض أساليب التمثيل المستند إلى المنظور أو ما يسمى في الفنون التشكيلية بالبعد الثالث. من هنا لم تصوّر حادثة تحطيم التماثيل في أفغانستان, كما ينبغي لها أن تصوّر, على أنها فعلة فئة متخلّفة ومنغلقة لا تمثّل الإسلام ولا المسلمين. ونقلت الأقمار الصناعية وشبكات التلفزيون العالمية مرارا وتكرارا صور تفجير التماثيل إمعانا في تجسيد وتمثيل صورة (الجريمة) التي ارتكبها (المسلمون) ضد التراث البشري. ومن هذا التجسيد جاء التأثير الأساسي للواقعة في ذهن المشاهد.

بالمقابل, كيف كان الردّ العربي? كان بصيغة فتاوى دينية لرجال الدين الإسلامي, تؤكد أن هذه الفعلة ليست من الإسلام في شيء, وبعثة من رجال الدين الإسلامي ذهبت إلى أفغانستان لإقناع الحكومة هناك بعدم تنفيذ ما قررت فعله. ودبّجت مقالات في الصحف العربية وتناولت الموضوع الفضائيات العربية, لتثبت أن الإسلام بريء من هذه الفعلة الشنيعة. فهل وصل أي شيء من ردّ الفعل هذا إلى الغرب? وهل استطعنا أن نفنّد أمام الرأي العام العالمي, الغربي بالأخص, التهمة الموجهة إلى الإسلام والحضارة الإسلامية? وهل أمكننا الردّ على تلك الاتهامات? الإجابة طبعا (لا). أما لو عملنا مثلا على إقامة معارض فنية للفنون التشكيلية العربية الحديثة والمعاصرة في عواصم أوربية ومدن أمريكية, وقمنا بعرض أفلام وثائقية حول التراث الفني العربي الإسلامي والتراث الإنساني القديم والعريق, الفينيقي والآشوري والفرعوني والسرياني والروماني والمسيحي الذي حافظت عليه الحضارة العربية الإسلامية طوال ما يزيد على خمسة عشر قرنا من الزمان, لا كردّة فعل على حادث معيّن, بل في إطار خطة قومية لإعادة رسم الصورة الحقيقية لحضارتنا العريقة, وأقمنا حلقات نقاش وندوات للمختصين في حوار عربي - غربي حول الموضوع في المؤسسات المختصة كالمتاحف ودور العروض الفنية وكليات الفنون الجميلة في عواصم ومدن غربية, لاستطعنا أن نردّ بالصورة المجسدة والتمثيل الحيّ والحجة المقنعة على التهم الباطلة الموجّهة إلى هذه الحضارة, وذلك هو الأسلوب الفاعل في مخاطبة الآخر وإقناعه, وفي إزاحة صورة قائمة لتشكيل صورة جديدة.

حوار عربي - أوربي

هذه الخطة القومية لتشكيل الصورة الحقيقية المشرقة للعرب وللإسلام في الغرب, ثقافة وحضارة ومجتمعا معاصرا, لا بدّ أن تتضمن, على سبيل المثال لا الحصر, أسابيع ثقافية عربية على المستوى القومي, ومعارض للفنون التشكيلية العربية, وعروضا موسيقية ومسرحية وسينمائية, (مع التأكيد على الإبداعات النسائية إبرازا لدور المرأة العربية في حياتنا الثقافية دحضا للزعم السائد في الغرب عن الموقف السلبي للإسلام من المرأة), والمشاركة العربية في أجنحة مشتركة في المعارض الدولية ومعارض الكتب العالمية. ولا يمكن للخطة أن تغفل حتمية القيام بعملية ترجمة واسعة لأعمال أدبية عربية, الحديث والمعاصر منها بالأخص, وهو مجال يعدّ إخفاقنا فيه مفجعا في القرن العشرين. كما لا بدّ من إحياء الحوار الثقافي العربي - الأوربي وتأكيد حتمية انتظامه وتوسيع هذا الحوار ليشمل الولايات المتحدة الأمريكية. ولا تكتمل الخطة من دون تنظيم ندوات حوار إسلامي - مسيحي, على أسس ثقافية وحضارية وأخلاقية, لا عقائدية, تفنيدا للزعم الاستشراقي بأن الإسلام يهدد المسيحية ويسعى لمنافستها, وردّا على السعي اليهودي في اجتماعات الحوار اليهودي - المسيحي إلى تشكيل جبهة دينية حضارية, مشتركة مع الغرب معادية للإسلام. كما لا يمكن للخطة إغفال شبكات المعلومات (الإنترنت) التي يقدّر أن يصل عدد روّادها عام 2004 إلى ثمانمائة مليون, والتي تستغلها اليوم إسرائيل بشكل واسع لتشويه صورة العرب والإسلام, في ضوء وجود عربي ضعيف جدا وغيرمنظم على الشبكة العالمية.

إن الأحداث الخطيرة التي يعيشها العالم اليوم وانعكاساتها المأساوية على أمتنا العربية لا بدّ أن توقظنا إلى حقيقة المأزق الحضاري والوجودي الذي نعيش فيه في تاريخنا الحديث وإلى حتمية تجاوز المعوّقات التي أجهضت مساعي النهضة العربية المرجوّة في القرن العشرين. واليوم تزداد التحديات التي تواجهها الأمة العربية وتستجدّ في مطلع الألفية الثالثة مما يستدعي الاستجابة الصحيحة في إطار من التكافل العربي والتكامل القومي والعمل المشترك, استجابة تحقق لأمتنا العربية العريقة حضورا فاعلا في مستقبل إنساني ترسم ملامحه الشعوب الحية

 

ريتا عوض

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات