جمال العربية: المعرّي في مرآة أبو ريشة

جمال العربية: المعرّي في مرآة أبو ريشة

سمعت بعمر أبو ريشة لأول مرة، وأنا في سنوات الدراسة الجامعية، بفضل بعض زملائنا من الطلبة العرب، الذين كان يطلق عليهم اسم «الطلبة الشرقيين». وكان صديق وزميل أردني - أصبح فيما بعد الشاعر الناقد الكاتب خالد الساكت - أشدّهم حماسًا لتعريفنا أنا وأمثالي ممَّن يجهلون شاعرية أبو ريشة، بحجم هذه الشاعرية، ولذْعها الثوري المتمرِّد على كل الأوضاع السلبية في سورية وفي الوطن العربي كله فيما أعقب نكبة فلسطين في عام 1948، وعلى حال الأمة العربية بوجه عام، ضعفًا وهوانًا واستخزاءً وخضوعًا لحكامها الأقزام من ناحية، وأصحاب النفوذ الأجنبي فيها من ناحية أخرى.

وكان ترديدنا لأبيات مُعيّنة من شعر عمر أبو ريشة كفيلاً بأن يُشعل فينا دماء الإباء الوطني والقومي، وإعجابنا بإحكام صياغاته الشعرية وأوزانه الموسيقية وقوافيه الراسخة كالطوْد في ختام أبياته التي تمور بالشاعرية الفوّارة، ومنها:

أمتي هل لك بين الأممِ
منبرٌ للسيف أو للقلم

وصولاً إلى قوله:

رُبَّ «وامعتصماهُ» انطلقت
ملء أفواه البناتِ اليُتّمِ
لامست أسماعهم لكنّها
لم تلامس نخْوةَ «المعتصمِ»

ثم يجيء البيت الفَرْد:

أمتي كم صنمٍ مجّدْتهِ
لم يكن يحمل طهر الصنم

قبل أن ينطلق صوت الشاعر بالعظة والاعتبار:

لا يلام الذئب في عدوانه
إن يك الراعي عدوَّ الغنمِ
فاحبسي الشكوى، فلولاكِ لما
كان في الحكم عبيد الدرهمِ

وتأسرنا هذه الشجاعة في الموقف والأداء الشعريّ، وبقدر معاناتنا لروح الضعف والخذلان، كان مثل هذا الشعر يرفعنا إلى الأعلى ويطهرنا من مشاعر الهوان.

ويفتنُّ صديقنا وزميلنا الشاعر في إمتاعنا بالمزيد من شعر هذا الشاعر العَلَم، الذي اجتمعت في شعره جمالات المدرسة الشامية في الشعرية: أناقة وترفًا، وزهوًا، وامتلاكًا للغة والصورة الشعرية، وخيالاً مُحلِّقًا باذخًا، وقدرة على التكثيف والتجسيد، وشحنًا للكلمات بعواصف من المشاعر والأحاسيس، وهو يقول في بيتَيْن اثنَيْن:

حكاية حُبِّنا خُتمت
فما أشجى، وما أقسى
جميل منكِ أن تَعْفِي
وأجملُ منه أن أَنْسى

وعندما يقول:

تقاسمني الرضا والسخط لمّا
نفضْتُ زمام أمري من يديْكِ
أراك على دروب الشك حيرى
فكيف تُرى انتهت مني إليكِ
لَيُحْزنني اكتئابُكِ، لا تُطلّى
عليَّ، بما تبقى لي لديْكِ
دعي ماضيَّ يطويني، فإني
أخاف عليك من خوفي عليكِ

وما أوجع معاناته حين يقول:

زاروا بلادي نافرين
من الخيال إلى العِيانِ
متشوّقين لرؤية الحسناءِ
عنقاءِ الزمانِ
أنا صغتُ فتنتها بما
أوحى إليّ بها افتتاني
غنيتُها حتى غدتْ
في مسمع الدنيا أغاني

***

زاروا بلادي فاختبأْتُ:
خشيتُ أن يدروا مكاني!

وحين يقول ساخرًا متهكِّمًا:

أصبح السفحُ ملعبًا للنسورِ!
فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري
إن للجرح صيحة فابعثيها
في سماع الدُّنا فحيح سعير

وصولاً إلى قوله:

لملمي يا ذرى الجبال بقايا النسرِ
وارمي بها صدور العصور
إنه لم يعد يُكحّلُ جفْنَ النجمِ
تيهًا بريشة المنثورِ
نسلَ الوهن منكبيْهِ وأدمت
منكبيْهِ عواصفُ المقدورِ!

وهكذا، يومًا بعد يوم، وحقبة بعد حقبة، تفتَّح وعْيُنا الشعري وتوقف عند حقيقة شعرية كبرى يمثلها شعر هذا الشاعر الذي سبق نزار قباني إلى العمل الدبلوماسي، وكان واحدًا من أساتذته في الشعر، والذين أفسحوا أمامه من أبواب التجديد وعالم الصور وخبرات التنقل بين عواصم العالم، واستلهام الحضارات والثقافات المختلفة، ما جعل لشعره مذاقه الغنيّ الفريد.

حتى جاء المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري عام 1944، فالتفتت الأسماع واحتشد الروّاد لصوت الشعر العربي مجلجلاً على شفتيْ عمر أبو ريشة، الذي جعل من وقفته الشعرية مع المعري وقفة مع حاضر الأمة العربية، وما تواجهه من تحديات وهو يقول:

ملعب الدهر، لو ملكْنا هُدانا
لبَلغْنا من الحياة مُنانا
سبَقَتْنا إليك أجنحة الشوقِ
وشقَّت لنا سبيل خُطانا
وتلقَّيْتَنا ببسمة إشفاقٍ
وطوّقتنا رضى وحنانا
ودرجْنا مع الشروق نُغنِّيكَ
ونسقى سمع الدُّنى ألحانا
وحنين المجهول أخيلة تنبتُ
من كلِّ صخرةٍ ريْحانا
أيُّ زادٍ سوى الظنون حملْنا
وتركْنا إلى هواها العنانا
كلما أوغلتْ ركائبُنا ضاقَ
على زحمة الدروب مدانا
واحتوانا من كلِّ صوبٍ ضبابٌ
يُرجع الطرفَ خاشعًا حرَّانا
أنريدُ الوجودَ مُنهتكَ السِّتْرِ
يُرينا أسراره عُريانا؟
ويفضُّ الفدام عن قلبه السّمْحِ
ويُجريه للعطاش دنانا
نحن نسْجُ الثرى، فما لأمانينا
على كلّ كوكبٍ تتفانى
تلك أقدمُنا تَعثَّرُ بالأعشابِ
حينا، وبالحصى أحيانا
وظلال الغروب دون مدى الطرف
إلى رهبةَ اللّقا تتدانى
نشطت قَبْلَنا مواكبُ شتّى
وترامت خضِيبةً خذلانا
وبقايا أشباحها من رؤى المحمومِ
أوهى تماسكًا واقترانًا
تغمزُ الهاجسَ الرهيف، فما
يبلغ صدْقًا منها ولا بُهتانا
وخفيُّ الوجود ما انفكَّ لا
ينبضُ قلبا ولا يرفّ لسانا
طلبتْهُ عينُ الخيال، ولمّا
لمحتْهُ تكسَّرتْ أجفانا!

***

ثم يحملنا عمر أبو ريشة على جناحيْ شاعريته إلى مرقىً عالٍ من مراقي تجلياته وهو يصور صراع المعري مع الموت والفناء، وبقاءه وبقاء شعره خالدًا لا يقدر الزمان على طيّه، بل هو الذي يطوي الزمان، وهو في رحلته الروحية بين الشك واليقين، والشرق كلهُّ نشوة مُرنّحة وانجذاب عميق إلى هذه القيثارة الزهراء الشجية وهي تروي أناشيدها وتصل حكمتها السنية بسدّة الخلود، عندما يقول:

ملعب الدهرِ إنّ رجع حنينٍ
من أقاصيك أرهفَ الآذانا
واستفزّ الأجيال من حجرة الغيْبِ
فهبت تُمزّق الأكفانا
وتهادت تُقلُّ موكب فكرٍ
يسحبُ الشُّهبَ خلفه أردانا
قام عنه أبو العلاء، وقام
الموت، مستنزفَ الإباءِ جبانا
قد طواه الزمان حتى إذا الخلد
اجتباهُ أطلَّ يطوي الزمانا
ذاك تجوالهُ كأنَّ انطلاقَ
الروح فيه لم يستطبْ ميدانا
بين شكٍّ مُروّعٍ، ويقينٍ
مُطَمْئنٍ، ما يأتلي حيرانا
وهو في حالتيْهِ قيثارةٌ
زهراءُ، تروى نشيدها الفتانا
وقف الشرقُ بعد لأيٍ لتذكار
صداها مُرنّحا نشوانا

ولا يفوت عمر أبو ريشة أن يتوقَّف عند المعري الذي حرم نعمة البصر لكنه لم يحرم نعمة البصيرة، وكان الضرير الذي يَهْدي المبصرين إلى نور المعرفة وهدى القلب والعقل، والذي كان يسقي طلاب المعرفة من قُصّاده، رحيق العلم وخلاصة الحكمة وفلسفة الوجود وحقائق الكون، ولا يبالي أن يكون ظمآنَ يعاني شظف العيش وقسوة الحياة، بالغًا أقصى المدى وأبعد الآفاق شأوًا ومنزلة وخلودًا:

يا أخا الحكمة السنية هل نلْتَ
على سُدّة الخلود أمانا
فهي مرآتُنا، ومرآة مسْرانا
ومرآة سُخطنا ورضانا
ما بكيْنا نِفارها إنما العجزُ
على صرخة الحنين بكانا
أيّ قلبٍ حملْتَهُ بين جنبيْكَ
ووالاك طيّعًا أسوانا
طالعتْهُ الحياةُ مشبوبة الأنفاسِ
تُذكي دماءه أشجانا
مرّ من وهجها المُلحِّ، فما هدهدَ
شوقا، ولا شفى حرمانا
كنت في حُبّك المجرد، لا تحبسُ
عن كلِّ مُعتفٍ إحسانا
أمن الحبِّ أن تُدارَ عليك الكأسُ
ملأى، وتنثني ظمآنا؟
ما العزاءُ الذي نَحرْتَ له العُمْرَ
وقدّمْتَهُ له قُربانا
أتصبَّاكَ مورد من وراء الغيْبِ
تغشى نعيمه جذلانا
هل محا بسْمة الكآبة عن
فيك، وأردى في صدرك الأحزانا
وهدى خاطرًا، وزان لسانا
وشفى مُقلةً وأرضى جَنانا
كم تهاوت من دونه روحُكَ
الحرّي، وسالت جراحُها ألحانا
عالم الوهم نحن صُغْنا رؤاهُ
وأردناه أن يكون فكانا
لسْتَ تسطيع أن تكون إلهًا
فإن اسطعْتَ فلتكن إنسانا
لمن الأرض إن سلاها بنوها
وتناسوْا سخاءها الهتانا
وهبتْنا من قلبها، خفقةَ
القلب، وشدّت بساعديْها قُوانا
وأباحتْ لنا جناها وأعطتْ
فوق ما أُفْقُ حُلمنا أعطانا
كنت تدري أنّ الهناءة طيرٌ
لاح في دوحة الحياةِ وبانا
يا أخا الحكمة السّنية هل منكَ
التفاتٌ إلى صدى نجوانا
سلسلتْها على الحناجر ذكراكَ
وقرّت في كلِّ سمعٍ بيانا
منك إشراقُها ولولا الجذور الخضْرُ
ما هزّت الصَّبا أغصانا
أتخاف الإصغاء أن يجرح الهدأةَ
أو أن يصوغها أشجانا
قد يحنُّ الطريد للربع مهما
سامه الرّبْعُ شقوةً وهوانا
هذه الدار كم سئمتَ بها العيْشَ
وكم ذقتَ مُرَّها ألوانا
فطويْتَ الأيام في عزلة الرهبانِ
لم تحتسبْ لها حُسبانا
قد تجفُّ الحياةُ إلا وريدًا
ويضيق الوجودُ إلا مكانا!

لم يتوقف عمر أبو ريشة في قصيدته عند تفاصيل كثيرة كان من شأنها أن تشغل أية موهبة شعرية دون موهبته أصالة واكتمالاً وشموخًا.

لقد ارتفع إلى الأفق الذي يُحلّق فيه المعرّي: يحاوره ويصاوله ويسائلهُ، ويحاول - في اقتراب حميم يبلغ حدَّ الاحتواء والحلول - أن يتعرَّف على أسرار المعري وكنوز تجلياته العرفانية، وهو الفيلسوف الوحيد في ديوان الشعر العربي كله.

وهو يتخذ من خطابه إلى المعري دعوة حارة إلى اليقظة ونفْضِ الضعف والتبعية والخذلان، جاعلاً من قصيدته فيه نفخ الروح في جسد طال همودُه حتى يقوم وينهض بأعبائه ومسئولياته وتبعاته، فالمعري في نظره صوت كبير من أصوات الدعوة إلى الحرية والتحرُّر ومجد الإنسان وكرامة الإنسان. يقول أبو ريشة:

كيف تفترُّ عن رضًا ولياليكَ
أقامت عليك حرْبًا عَوانا
وعجاف الرجال أرفعُ قدرًا
منك في غَيِّهم وأنبهُ شانا
طالما كنت مُبصرًا في دياجيكَ
وكانوا في نورهم عميانا
أسرجوا صهوة المذلة وانقضّوا
على مُثخن الجراحِ طِعانا
واستباحوا مال الضعيف عُتوًّا
وأهانوا حرماته طُغيانا
وأزاحوا عن المنابر أحرارًا
فهزّت أعوادها عبدانا
وتمشوا لدى الأعاجم حملانا
وسابوا في قومهم ذُؤبانا
هذه الزمرةُ التي في حماها
وقف المُلْكُ مُطرقا خَزْيانا
ما أظنّ العصورَ مرّتْ عليها
فتلفَّتْ، أما تراها الآنا!

وفي ختام قصيدته يقول عمر أبو ريشة:

أُناجيك يا نجيَّ الدراري
وأغُنّيكَ أغنياتي الحِسانا
إنّ آفاقك البعيدة لا تُطلقُ
للخاطر الحبيس عنانا
حسْبُك المجد أن ترى كلَّ يومٍ
لأغانيك عنده مهرجانا.

 

 

فاروق شوشة