الخيال العلمي وعلم المستقبل

الخيال العلمي وعلم المستقبل

مستقبليات

بات من الضروري أن تقوم السياسات التعليمية العربية بتوجيه الطلاب نحو قراءة الأعمال الأدبية ذات الخيال العلمي لدفعهم على الخلق والابتكار والتفكير الجاد.

إذا كانت الأعمال الروائية تفتقر في بعض الأحيان إلى رصد الأحداث الواقعية التي تزخر بها الحياة اليومية في المجتمع فإن ذلك لا يعني ضرورة الفصل الكامل والقاطع بينها وبين ما يطلق عليه أحيانا اسم القص الواقعي لأن هناك مساحة واسعة من الحقائق التي يشترك فيها كل من نوعي القص أو الحكي, ولكن تتم معالجتها وعرضها بأسلوبين مختلفين فحسب. ولذا فإن الكتابات التي تقوم على أساس الخيال أو التخيل العلمي, وهي بالضرورة أعمال افتراضية أو تخمينية, تستمد كثيرا من عناصرها من الواقع, بل ومن الحقائق العلمية المؤكدة لكي تبني عليها الصورة الذهنية الخيالية التي يتصور الكاتب احتمال ظهورها وتحققها في المستقبل, حتى وإن كانت الحقائق العلمية الموضوعية لا توحي بإمكان التوصل إلى مثل هذه النتائج في المستقبل القريب على الأقل. ولقد أصبح من المسلم به لدى بعض العلماء والمتخصصين في الدراسات المستقبلية أن الأعمال الروائية التي تقوم على الخيال العلمي, وتستند إلى نظرة مستقبلية هي امتداد منطقي وعنصر مساعد أساسي لعلم المستقبل, وذلك بالرغم من الاختلاف الواضح بينهما في أسلوب المعالجة والمنهج والهدف. فعلم المستقبل يقوم على اتباع المناهج العلمية والأساليب الإحصائية الدقيقة بعكس الحال في القص الروائي الكيفي, وهذا اختلاف جوهري يسوغ للمشتغلين بالدراسات المستقبلية رغم اعترافهم بأهمية الخيال العلمي المستقبلي أن يشعروا بالاستعلاء على هذا النوع من الكتابة التي تهدف إلى استشراف المستقبل من وجهة نظر خاصة, وأن يعتبروها مجرد صورة أخرى من صور الأساليب الشعبية الكثيرة التي تمارسها مختلف الشعوب والثقافات لتعرف المستقبل. ومهما يكن الأمر فالمؤكد هو أن المادة الخام التي يعتمد عليها كل من علم المستقبل والخيال العلمي حول المستقبل مستقاة من المصدر نفسه, ولذا فهي تتشابه في كثير من الأحيان, كما أنها تصلح في الأغلب لأن تكون أساسا يقيم عليه المجتمع تصوره الخاص عن الحاضر ويهيئ نفسه لقبول التغيرات التي تتوقع هذه الكتابات - بنوعيها - حدوثها.

التأمل والإبداع

واعتماد علم المستقبل على المنهج العلمي لتنظيم وترتيب المعرفة عن الحاضر وعن المستقبل يتيح لعلماء المستقبل فرصة وضع نظريات يفسرون بها ما هو قائم بالفعل, وما يتوقع حدوثه, وذلك بعكس الحال بالنسبة للكاتب الروائي المبدع الذي لا يعنيه في شيء أن تكون له نظرية متماسكة للشرح أو التفسير أو التحليل أو التبرير. فالكاتب الروائي المبدع ذو النظرة المستقبلية يقنع بالتأمل والإبداع الأدبي والفني الذي لا يهدف إلى تحقيق أي نتيجة عملية, ولذا فإن الجهد الذي يبذل في أعمال الخيال العلمي هو جهد إبداعي ذاتي بعيد تماما عن الموضوعية العلمية ولا يخضع للمقاييس والمعايير الإنسانية, كما أنه يأخذ في الاعتبار التقدم العلمي والتكنولوجي المتزايد والمتسارع. ومن هنا يجب التفرقة بين ما يصدر عن كبار الروائيين الذين تدور أعمالهم الروائية - أو بعضها - حول العلم واكتشافاته وآثاره المرتقبة من وجهة النظر الفنية الخالصة وبين الكتابات العلمية التي تصدر عن العلماء والأكاديميين والمتخصصين في علم المستقبل, ويعتمدون في تنبؤاتهم أو توقعاتهم على المناهج وأساليب البحث والتحليل والتفسير الأكاديمية الدقيقة.

وتحاول أعمال الخيال العلمي من خلال القوى الإبداعية التي تعتمد على الحدس والتلقائية تقديم صورة متخيلة عما سيئول إليه عالم اليوم في المستقبل, وغالبا ما تكون صورة زاهية ومثالية عن عالم يخلو من الفقر والمرض والحروب وتسوده المحبة والسعادة والسلام, ولكن هناك استثناءات لكتابات تسيطر عليها نظرة التشاؤم من مستقبل العالم والإنسانية, كنتيجة محتومة للاختراعات الحديثة في مجال تكنولوجيا الحرب والتغيرات التي تطرأ على البيئة, والتزايد السكاني الرهيب, وتدهور مصادر الغذاء, وغير ذلك من التغيرات السلبية التي لا تبشر - من وجهة نظر أصحاب هذه الأعمال - بخير.

فالخيال العلمي يتخطى إذن الواقع, وكثيرا ما يصل بصاحبه إلى آفاق بعيدة لا يكاد يتصورها ذهن الإنسان العادي, بل إنها قد تتجاوز تصورات العلماء الأكاديميين وتوقعاتهم, ولكن الصور التي تعرضها هذه الكتابات كثيرا ما تلهم هؤلاء العلماء إلى إمكان ارتياد مجالات جديدة من البحث والتنقيب للكشف عن المزيد عن طبيعة العقل البشري وأسرار الكون. فثمة إذن نوع من العلاقات المتبادلة أو التساند الوظيفي بين الوضع القائم بالفعل في مجال العلم والتكنولوجيا والجهود المبذولة لتحقيق مزيد من الاكتشافات والاختراعات, وبين الخيال العلمي الذي يعتمد على النتائج التي توصل إليها العلم بالفعل لكي يقيم تصوّرات عن الكون توحي بأفكار مستحدثة وجريئة للعلماء وتدفعهم إلى إجراء بحوث جديدة في ميادين لم يطرقوها من قبل, وهكذا. وليس المهم في أعمال الخيال العلمي هو نوع الاكتشافات التي يمكن إنجازها أو المجالات والآفاق التي يحتمل ارتيادها, وإنما المهم هو تأثير هذا كله في الحياة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والقيم والمبادئ الأخلاقية التي سوف توجه هذه العلاقات وتتحكم بالتالي في أقدار الناس. فالهدف الأخير من كتابات الخيال العلمي هدف إنساني شأنه في ذلك شأن غيره من ألوان الإبداع الأدبي والفني. ويشترك الخيال العلمي في هذا الجانب مع دراسات المستقبل, ولكنه أمر لا يهم العلم الخالص ولا العلماء الأكاديميين بالمعنى نفسه على الأقل.

نجد ذلك واضحا في رواية الكاتب الروائي البريطاني أولدس هكسلي التي ظهرت عام 1932 تحت عنوان (عالم جديد جريء), ولكن أحداثها تجري فيما يسميه هكسلي 632 ب.ف أي بعد فورد أسوة بما نقوله عن أن أحداثا معينة حدثت في سنة معينة ق.م أي قبل الميلاد. والإشارة إلى ب.ف لها دلالتها لأنها تشير إلى المجتمع الصناعي الذي يعتبر هنري فورد أحد كبار رموزه. وليس ثمة ما يدعو إلى الدخول هنا في تفاصيل أحداث الرواية لأن الذي يعنينا هو أن هذا العمل الرائد يقدم صورة مجتمع المستقبل كما يتخيله المؤلف, وفي هذا المجتمع تكتمل السعادة الحقيقية للجنس البشري كله وعلى مستوى العالم, كما يتحقق أمل الإنسانية في ضبط النسل والتحكم في الهندسة الوراثية والتكيف مع أوضاع الحياة الصعبة من خلال عمليات التدليك أثناء النوم وتناول عقار السعادة واللذة الذي يطلق عليه كلمة سوما, وهي كلمة تشير إلى النوم والاسترخاء, كما يتم التناسل والتوالد خارج الرحم, وتوضع الأجنة فوق خطوط التشغيل التي يشرف عليها أخصائيون في علم الأجنة يقومون بعملية فرز هذه الأجنة باستخدام مواد كيمائية معينة وتصنيفها في فئات مختلفة تبعا لقدراتها العقلية, وبحيث تتولى كل فئة منها العمل الذي يتلاءم مع طبيعتها وتسعد بممارسة ذلك العمل, كأن تتولى الفئة التي تحتل أدنى درجات ذلك السلم التصنيفي الأعمال السهلة البسيطة مثل تشغيل المصاعد في المباني الكبيرة, وهكذا. ويقضي الناس أوقات فراغهم في أنشطة ترفيهية يستمدون منها قدرا كبيرا من اللذة الحسية مثل ممارسة أنواع راقية من الرياضة والإقبال الشديد على الشراء بقصد الاستهلاك لأشياء ليسوا في حاجة حقيقية لها أو الإغراق في العلاقات الجنسية بغير حدود أو قيود لأن الجنس يعتبر في عام 632 ب.ف من المزايا التي تدعو إلى الفخر والاعتزاز, بينما يعتبر (الجنس الحقيقي البنّاء) عملا مزريا في مجتمع يتنكر لنظام الزواج وعلاقات الأبوة والأمومة ويعتبرها من الأمور المستهجنة, وهكذا.

تخيلات وتوقعات

وقد لا يعتبر الكثيرون هذه الرواية من أعمال الخيال العلمي بالمعنى الدقيق للكلمة, ولكنها تعتبر بغير شك مثالا رائعا للتفكير المستقبلي, الذي يستند إلى رصد المسارات التي تتجه فيها شئون الحياة الواقعية مع النزوع بالخيال إلى ما يمكن أن تتطور إليه الأمور, وصورة المجتمع الذي سوف ينشأ في ظل الظروف الجديدة, ونوع العلاقات التي تربط بين الناس. وما يقال عن رواية (عالم جديد جريء) يصدق على كثير من الأعمال الروائية الأخرى ذات النظرة المستقبلية مثل رواية (1984) التي كتبها جورج أورويل عام 1948 وإن كانت تتناول أمورا أخرى مختلفة. ولسنا في حاجة إلى أن نذكر أن كثيرا من تخيلات أو توقعات هكسلي القائمة على الحدس والتأمل قد تحققت بالفعل في عالم اليوم, أي بعد سبعين سنة من ظهور الكتاب وقبل أن يأتي عام 632 ب.ف من الناحية التاريخية البحتة. وتكشف هذه الأعمال عن التكامل بين العمل الروائي في مجال الخيال العلمي والاكتشافات العلمية الحديثة والأوضاع المستجدة في حياة الناس, كما تكشف عن قوة العلاقة بين التفكير العلمي الموضوعي والخيال العلمي الذاتي حول المستقبل رغم الاختلاف والتباين في أسلوب المعالجة والعرض والهدف.

وليس من الضروري أن تتحقق كل توقعات كتّاب الخيال العلمي عن المستقبل, فأعمالهم تسجل فقط نظرتهم الخاصة إلى ما يتصورون أنه اتجاه عام لتطور الأمور والأوضاع التي يعايشونها, وكثيرا ما تتحقق هذه التوقعات أو جانب منها بالفعل كما هي الحال - مثلا - بالنسبة لرواية (آلة الفضاء) التي توقع فيها المؤلفان الأمريكيان فريد بوهل وسي إم كورنيلوت ظهور عالم جديد تديره وتتحكم في كل شئونه وكالات الإعلان, وهو ما يحدث الآن بالفعل إلى حد كبير, أو كما هي الحال بالنسبة للكتابات العلمية الخيالية الكثيرة التي تدور حول التوصل إلى استخدام القوة النووية وذلك قبل أن يبدأ علماء الفيزياء التفكير الجاد في إمكان الوصول إلى هذه القوة والخطوات التي تساعد على ذلك. فالخيال العلمي يسبق في كثير من الأحيان البحث العلمي الموضوعي ويهيئ الأذهان لقيامه أو حتى يدعو للسير في اتجاه معين لتحقيق مكاسب واكتشافات علمية وتكنولوجية دارت في أذهان المؤلفين الروائيين قبل أن تخطر على بال العلماء المتخصصين. والشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة للأعمال الخيالية حول القيام برحلات إلى الفضاء وغزو الكواكب الأخرى أو هبوط مخلوقات عجيبة من سكان هذه الكواكب إلى الأرض.

وقد كان من المحتم على كتّاب الخيال العلمي أن يسايروا التغيرات الهائلة التي طرأت على التكنولوجيا الحديثة, وبالذات تكنولوجيا الاتصال التي جعلت من العالم قرية كبيرة واحدة وسهلت التبادل الفكري بين أقطار متباعدة تمثل عوالم ثقافية متباينة إلى أبعد حدود التباين, وأن يسرح هؤلاء الكتّاب بفكرهم وخيالهم إلى مستقبل هذه العلاقات وما قد ينجم عنها من مشاكل وأنماط سلوكية وعادات وأخلاقيات ومتاعب وجرائم لم تعرفها الإنسانية من قبل وما سوف يؤدي إليه تسخير الكمبيوتر وشبكات الاتصال الإلكترونية في خلق واقع جديد قد تملؤه الشرور والآثام التي قد تفقد الإنسانية روح التسامح ويخضع فيه الإنسان للآلة ويفقد بذلك حريته الشخصية بحيث لا يجد في آخر الأمر وسيلة للخلاص من هذه العبودية سوى تحطيم هذه الآلات الإلكترونية ذاتها. وربما كان أهم من تعرض لهذه الموضوعات الكاتب الأمريكي الشهير أيزاك آسيموف وبخاصة في روايته العلمية الخيالية في إشارة واضحة إلى الكمبيوتر وشبكات الإنترنت المعقدة.

***

وبعد..

فقد يعتبر بعض النقاد والعلماء كل هذه الأعمال كتابات أدبية إبداعية توفر للقارئ قدرا كبيرا من المتعة الذهنية وتستثير خياله حول مستقبله ومستقبل المجتمع الذي يعيش فيه أو حتى حول مستقبل الإنسانية كلها فيما لو تحققت تلك التوقعات (الخيالية) على أرض الواقع. وهذه في حد ذاتها وظيفة للأعمال الأدبية المستقبلية تستحق الاحترام ولا يمكن التهوين من شأنها. إلا أن المجتمعات الغربية تجد في هذه الأعمال المتخيلة عن العلم وعن المستقبل وظيفة أخرى عملية وتربوية تتعدى حدود المتعة الذهنية الخالصة, وذلك على اعتبار ما قد تقوم به هذه الأعمال من التشجيع على التفكير العلمي الجاد وارتياد مجالات البحث والكشف والابتكار والاختراع. وكثير من الاكتشافات التي تحققت خلال النصف الثاني من القرن العشرين في مجال العلم والتكنولوجيا سبق التنبؤ بالوصول إليها في كتابات الخيال العلمي منذ أواخر القرن التاسع عشر, وقد حمل لواءها كتاب كبار من أمثال جول فيرن في فرنسا وإتش جي ويلز في بريطانيا. وقد أدركت الدول الغربية ضرورة توجيه الأطفال منذ الصغر إلى قراءة هذه الأعمال حتى تكون جزءا من تكوينهم الذهني, وبحيث تكون دافعا لهم في المستقبل على التفكير الجاد للخلق والابتكار والاختراع. ولذا تهتم مناهج الدراسة في التعليم العام بتزويد التلاميذ بقدر كبير من المعلومات العلمية الطريفة المستقاة من الكتابات العلمية/الخيالية. بل إن بعض الجامعات في أمريكا بالذات أدخلت في مناهجها مقررات عن الخيال العلمي تماما مثلما أدخلت مقررات عن علم المستقبل, مما يدل على إدراك قوة العلاقة بين الاثنين وأهمية الانشغال بهما معا وعلى قدم المساواة. واهتمت دور النشر والهيئات العلمية بإصدار مجلات متخصصة في الخيال العلمي - سواء في شكل قصص أم مقالات تخاطب كل الأعمار. وهذه مسألة لا نعطيها في عالمنا العربي ما تستحقه من عناية في وضع سياساتنا التعليمية, وقد يكون ذلك أحد أسباب التخلف في مجالات الكشف والابتكار والاختراع.

 

أحمد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات