فيزياء فلكية لولب الزمكان المخيف

فيزياء فلكية لولب الزمكان المخيف

الثقوب السوداء التي تُمثّل بالعات مخيفة, لا مرئية, تلتهم النجوم ويختلط في جوفها - اللولبي - الزمان والمكان, هل يجعلها (علم الفلك التثاقلي), الجديد, تظهر للعيان?

حين ننظر إليها من هنا, تبدو مجرة (الدرب اللبنية) وادعة كثيراً.. نراها شريطاً لبنياً طويلاً مرصعا بالنجوم, حتى لنحسبه نهراً من الضوء ينساب بلا نهاية في ليل الفضاء الهادئ والأبدي. تبدو مجرتنا بذلك مثيرة للأحلام على نحو رائع. ولكن, مع ذلك! هناك في مكان ما من كوكبة الرامي (القوس), في قلب الدرب اللبنية نفسها, يختبئ... غول, ينتظر متخفيا كعنكبوت وسط نسيجه, أن يقترب منه نجم أو سحابة غازية ليتلقفه في لولب زمكاني (زماني مكاني) جهنمي, لا خروج منه بعد ذلك أبداً.

هذا الغول هو ما يسميه العلماء ثقباً أسود فائق الكتلة. لننتبه, لا يتعلق الأمر بثقب أسود (صغير), مجرد جثة نجم من النجوم التي يوجد منها على الأرجح ملايين في مجرتنا. لا, فالأمر يتعلق بثقب أسود من فئة أخرى مختلفة كلياً, فئة الثقوب الفائقة الثقل: كتلته أكبر من كتلة الشمس بمليوني مرة, بينما يساوي مداه أو على نحو أدق (أفقه) نحو ثلاثة ملايين كيلومتر, أي أكبر من قطر الشمس بمرتين... وليس ذلك هو أسوأ ما يكون!. (توجد في قلب مجرات أخرى ثقوب سوداء يمكن أن تصل إلى مليار كتلة شمسية), حسب تأكيد عالمة الفيزياء الفلكية (سوزي كولن زاهن), من مرصد باريس - مودون. وهذه المعطاة حصل عليها علماء الفلك منذ بضع سنوات فقط.

عملاق لا يفلت منه أي نجم

كيف يمكن للعلماء الاقتناع بوجود هذه الوحوش, من حيث إنه لا يمكن, بالتعريف, رؤيتها? في الواقع, كان عليهم اللجوء إلى الحيلة. لفهم الأمر, تجب معرفة أن الثقوب السوداء هي أشياء كثيفة إلى درجة أنها تشوه الزمكان (المكان - الزمان) حولها, محدثة نوعا من الزوبعة التي تجعل كل ما يمر في مداها ينجذب إليها. وما إن يجتاز نجم أو إشعاع ضوئي أفقها حتى لا يعود يخرج منه. بعبارة أخرى, الثقوب السوداء معتمة تماما! بالنتيجة, الوسيلة الوحيدة للاستدلال عليها لا يمكن أن تكون إلا غير مباشرة, انطلاقاً من دلائل تكشف عن وجودها.

أول دليل مستعد للكشف عن ثقب أسود هو الدوارة الجنونية للأشياء التي يتلقفها: إذا ابتلعت الزوبعة نجوماً وغازات, لا بد وأن نراها وهي تدور على نحو متسارع في الفضاء كلما انجذبت نحوها. هذه المعطاة حصل عليها علماء الفلك منذ بضع سنوات فقط أيضاً. وفي العام 1996, نجح عدد من علماء الفلك الألمان في وزن الثقب الأسود الواقع في قلب مجرتنا: 2.5 مليون كتلة شمسية. تضيف سوزي كولن كاهن: (واليوم أيضا, استطعنا تحديد أربعين من قلوب المجرات حولنا. وكل منها يحوي ثقباً أسود. وكلما كانت (فقاعة) المجرة (الجزء الأوسط الأشد ضوءا) كبيرة, كان ثقبها الأسود أكبر حجماً.

والدليل الآخر هو الضوء الذي يصدر عن المادة حين سقوطها نحو الثقب الأسود. في الواقع, يعمل الجريان الجهنمي للغازات والنجوم حول الثقب الأسود على تسخينها حتى تصل حرارتها إلى ملايين الدرجات, وحينها, تطلق أشعة X قوية يمكن أن ترصدها المقاريب الفضائية المتخصصة بالأطوال الموجية. في سبتمبر 1999, ومن خلال المقراب الأمريكي (تشاندرا), حدد علماء من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا, في المنطقة المركزية من الدرب اللبنية, منبعاً قوياً لأشعة X, العلامة المحتملة على ثقب مجرتنا الأسود فائق الكتلة. وفي 26 أكتوبر 2000, أصبح هذا المنبع أكثر سطوعاً بـ 45 مرة قبل أن يعود إلى سطوعه المعتاد بعد ساعات لاحقة: دون شك, كان الثقب الأسود بصدد ابتلاع مذنب أو كويكب أو هبّة غازات بينجمية.. ضُبط الغول متلبساً! إلا أنه لم يتم التمكن بعد من تحديد أفق الثقب الأسود بدقة, حيث إن المنطقة القابلة لرصد (تشاندرا) هي أكبر بعشرين مرة.. مع ذلك, يتم الاقتراب شيئا فشيئاً من الوصول إلى هذا الهدف. بانتظار ذلك, يقدم (تشاندرا) ومعادله الأوربي (إكس إم إم - نيوتون) معطيات تُظهر وجود مصادر أشعة X في كل مكان من السماء والتي يحتمل أن يكون الكثير من الثقوب السوداء محتجباً خلفها.

جاءت دلائل أخرى أيضاً لتعزز هذه الملاحظات. عاين المقراب الفضائي هابل, حول مركز العديد من المجرات, حركة زوبعية لكميات كبيرة من الغازات والأغبرة. أما المقاريب الراديوية, فإنها تقدم صوراً رائعة لتيارات البلازما الآتية من المناطق المركزية للمجرات. ووفقاً للمنظرين, فإن هذه التيارات, التي تقترب سرعتها من سرعة الضوء, قد تكون صادرة عن ثقوب سوداء فائقة الكتلة تحرر جزءاً من طاقتها. إلا أن عالم الفيزياء الفلكية الفرنسي (جان - بيير لاسوتا) يرى أن الآلية الدقيقة لهذه الظاهرة لا تزال غامضة: (مازلنا لا نفهم جيداً هذا القذف المادي الذي يسير بعكس قوانين الجاذبية. إنها واحدة من المسائل النظرية التي تنتظر حلاً).

ولكن, لا بد أن نعرف المزيد حولها قريباً, وذلك من خلال المقراب الأوربي (أنتجرال), المتخصص برصد إشعاعات جاما, الذي سيقوم بدراسة هذه التيارات الغامضة. من جانبه, سيستخدم المرصد الألماني - الفرنسي (هس) المنصوب في ناميبيا الإفريقية, مقاريبه الأربعة لتحليل إشعاعات جاما الصادرة عن مراكز المجرات. وهو ما يمكن أن يحمل معه بعض عناصر الإجابة عن الأسئلة المعلقة.

ذلك أن الضوء لا ينتشر كله على الثقب الأسود. ماذا يحدث في الزوبعة? ماذا يحصل بالضبط للنجوم عندما تصبح قريبة جداً من ثقب أسود? يرى عالم الفيزياء الفلكية (جان - بيير لومينيه) أنها ربما تتعرض للتمزق بفعل قوى مد وجزر جاذبية الثقب الأسود. وهناك سؤال آخر مهم: كيف تشكلت الثقوب السوداء فائقة الكتلة? هل تضخمت تدريجياً بابتلاعها المستمر للمزيد من المادة? أم أنها نتاج تقوّض حشود نجوم? يقول لومينيه: (النموذجان مقبولان. لا يمكن لكل الثقوب السوداء أن تتشكل بالتضخم المتدرج, لأن هذه السيرورة طويلة جداً. إلا أننا نعثر على عدد متنام من الثقوب السوداء فائقة الكتلة في مجرات بعيدة جدا وبالتالي قديمة جداً, وهو ما يدل على أنها قد وجدت منذ بداية المجرات). ولكن, هناك شيء مؤكد: تاريخ الثقوب السوداء فائقة الكتلة وثيق الارتباط بتاريخ المجرات. وهنا كل الرهان في أن نعرف المزيد حول هذه الأشياء الغامضة بالنسبة للعلم والمثيرة للخيال في الوقت ذاته.

كثافتها تهز الزمان والمكان

تضع مجموعة إيطالية - فرنسية تضم نحو مائة فيزيائي ومهندس وفني اللمسات الأخيرة على جهاز من نوع جديد يسمى (فيرغو) Virgo, كاشف الثقوب السوداء. ستبدأ ذراعا الجهاز, البالغ طول كل منهما 3 كم, في غضون سنتين من الآن, بالاهتزاز بإيقاع (غناء) (أصوات الموجات التثاقلية) هذه الوحوش المعتمة. وينتظر العلماء هذا الاهتزاز بفارغ الصبر, لأنه (سيشكل البرهان المباشر على وجود الثقوب السوداء), على حد عبارة الفيزيائي (باتريس هلو). في الواقع, حتى الآن, لم يلحظ علماء الفيزياء الفلكية سوى دلائل غير مباشرة على وجود الثقوب السوداء في الكون. لقد تتبعوا حركة النجوم والغاز المدوّم حولها, واكتشفوا أشعة المادة التي تتسخن كلما سقطت في داخلها.. ولكن, ليس بشكل مباشر أبدا. ولكن, للتأكد من أن خلف هذه العلامات المرئية تختبئ بالفعل ثقوب سوداء, لا توجد سوى وسيلة واحدة: يجب أن تُلتقط بشكل مباشر الاهتزازات التي تطلقها هذه الوحوش في الزمكان. وهكذا, فإن ما يبحث عنه علماء (فيرغو) هو مشاهدة تقوّض نجم ضخم إلى ثقب أسود, أو تتبع اصطدام ثقبين أسودين.

إثبات ساطع

في الواقع, خلال مثل هذه الأحداث الكارثية تحديداً تهز الثقوب السوداء - بنتيجة كثافتها المفرطة - الزمكان إلى درجة أنها تولّد ما يسميه الفيزيائيون موجات تثاقلية ليست في الحقيقة سوى اهتزازات الزمكان. وهذا هو ما كانت قد قدرته نظرية النسبية العامة, التي وضعتها (أينشتاين) عام 1916. إذن, يمكن أن يتيح اكتشاف هذه الموجات التثاقلية, لأول مرة, ليس فقط تأكيد وجود الثقوب السوداء, بل أيضاً الحصول على أجلى إثبات لهذه النظرية المسيطرة على عالم الفيزياء منذ ما يقرب من تسعين سنة. مع ذلك, المهمة شاقة للغاية. أولا, تجب معرفة ما هو الشكل الدقيق للموجات التثاقلية التي تنطلق مثلاً حين اندماج ثقبين أسودين. هنا يأتي عمل باحثي شبكة (مصادر الموجات التثاقلية) (بوتسدام - ألمانيا), مزودين بحاسباتهم العملاقة, حيث يعكف مائة فيزيائي على وضع محاكيات معلوماتية بشكل خاص حول تصادم الثقوب السوداء. حتى الآن, لم يتمكنوا من إنجاز محاكاة كاملة لاندماج ثقبين أسودين, غير أنهم يأملون التوصل إلى ذلك قبل أن يصبح الكاشف أو بالأحرى مقياس التداخل (فيرغو) عملياتيا, وحيث إن هذه المحاكاة هي حتمية في الواقع لإمكان تفسير النتائج التي سيسجلها الكاشف الفرنسي - الإيطالي في هذه الأثناء, ينهي علماء (فيرغو) عملية نصبه. ومبدأ هذا المقياس بسيط: عند مرور موجة تثاقلية عبر إحدى ذراعيه, تهزهما معا. يتطاول الأول, في حين ينكمش الآخر, والعكس صحيح, وفقاً لإيقاع الموجة. ويستحيل عمليا رؤية هذه الحركة بالعين المجردة: إذا كان تصادم ثقبين أسودين في الكون حدثاً هائلاً, فإنه لا يصلنا من أصدائه التثقالية سوى القليل جداً.

يأمل العلماء, من خلال الموجات التثاقلية, أن يشهدوا تصادمات ثقوب سوداء في مجرات أخرى, بل وكل أنواع الظواهر المختلفة, بدءا بتصادمات نجوم نيوترونية وحتى الأجرام الكثيفة جدا, التي تشكل باندماجها, ثقوبا سوداء أو أيضا انفجار نجوم ضخمة جداً.

علم فلك جديد

يأمل العلماء أيضا أن يتمكنوا من سماع الصدى البعيد لأولى خطوات تشكل الكون, عندما تعرّض, عقب الانفجار الأعظم ببضع أجزاء الثانية, لفترة تمدد بدأ خلالها بالتوسع سريعاً جداً. بالمقابل, للتنصت إلى تصادمات ثقوب سوداء فائقة الكتلة, كتلك الموجودة في قلب المجرات نفسه, سيلزم انتظار الجيل التالي من مقاييس التداخل (بعد (فيرغو) ونظيره الأمريكي (ليغو)), التي يتوقع إطلاقها إلى الفضاء في غضون عقود قادمة من الزمن, وستكون عبارة عن ثلاثة أزواج من الأقمار الصناعية (مشروع مشترك أمريكي - أوربي سيسمونه (ليسا), اختصاراً لـ (ناسا), وكالة الفضاء الأمريكية, و(إسا), وكالة الفضاء الأوربية), المترابطة بحزم ليزرية مع مسافة فاصلة 5 ملايين كيلومتر بين الواحد والآخر. إنه تحدٍّ تقني من نوع مختلف تماماً. (إن نظرنا إلى تاريخ علم الفلك, في كل مرة صُوِّبت فيها أداة جديدة نحو السماء, نجد أنه كان يتم اكتشاف أشياء وظواهر لم تكن متوقعة بتاتاً), يتذكر (باتريس هلو) ذاك ويقول: إن الهدف هو علم الفلك التثاقلي الجديد, والذي ستغدو فيه الثقوب السوداء أشياء عادية, مثلما هي النجوم اليوم.

 

محمد الدنيا

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





في قلب مجرة الدرب اللبنية, في كوكبة القوس, يختبئ ثقب أسود فائق الكتلة, تكشف هذه الصورة, التي التقطها المقراب (تشاندرا), الإشعاع المنبعث من المادة الساقطة في الداخل (النقطة البيضاء في الوسط)





زوبعة تبتلع كل شيء: يمكن أن يجتذب الثقب الأسود فائق الكتلة النجوم والغازات على مسافة مئات ملايين الكيلومترات





الشكل الخاص لدفوق هذه المجرة ناشئ على الأرجح عن اتحاد ثقبها الأسود المركزي مع ثقب أسود لمجرة أخرى





ثقب أسود كتلته أكبر من كتلة الشمس بمليارات المرات وهو من دون شك مصدر الدفق البلازمي الهائل الآتي من المجرة العملاقة M87





هذه المحاكاة لاصطدام ثقبين أسودين كان قد أنجزها علماء من معهد (ماكس بلانك), بوتسدام - ألمانيا, وهي لثقوب سوداء أكبر كتلة من الشمس بعشر مرات, تشكلت عقب تقوض زوج من النجوم





يأمل الفيزيائيون من خلال (ذراعي) الكاشف (فيرغو) الطويلتين, في أن يسمعوا صوت تصادم ثقوب سوداء